لكنَّ هذا الليل عربيدٌ000
بقلم : خالد الأهدل
الأصيل الكئيب يغلق المدينة العتيقة بصفرة الموتى وهي تودع نهارها الأخير....
الأفق البعيد قاتم .. وجحافل الليل تربض عند مرمى البصر في انتظار لحظة الإنقضاض ...
بينما المدينة المسترخية على شواطئ الأحلام مغمضة العينين تلوك لحيظات الترقب في استسلام لذيذ وتجتر معه ذكريات ماضيها البعيد ...
* * *
شق حفيف ثوبه الصمت المخيم على الأشياء حتى الاختناق ....
لم يكن هادئاً كعادته :
الذهول متربع على قسمات وجهه الطفولي ، والحزن يمتطي صهوة نظراته المصوّبة نحو الأفق البعيد ، بينما كانت خطواته المجنونة تلتهم الأزقة دون هدى كسفينة تائهة وهو يطوّف في جزر المدينة المتناثرة بين أحضان المستنقعات النتنة ، تشيعه أصوات عربدة الفزع في عيون الصغار، فتزداد بوصلة قلبه اضطراباً ، وتزدرد أقدامه المسافات ركضاً حتى بوابة المدينة ....
* * *
حدق أمامه.. وراح يقلب النظر في لهفة غريق يبحث عن قشة النجاة..
الأفق البعيد قاتم ...
وليس هناك سوى امتداد غامض يحتضن مقبرة مهترئة ....
فينخر الخوف في أعماقه .. يرنح قوامه الممشوق .. وتنهال دموع القلب ...
غمغم بأحرف مرهقة : مساءات كثيرة ضاجعت مدينتنا على سرير الغفلة ثم اقتلعها أحفاد النهار القديم .. لكن هذا الليل عربيد يخصي النجوم ويغصب ذكور الأطفال وتفنى الأعمار بين دهاليزه الحالكة .. ولم تبق سوى لحظات ...
انداح كالسيل نحو المقابر القديمة يفتش بين أحجار القبور .. لعلّه يجد بين أكوام العظام المتآكلة بقايا جذوة أو نجمة يطرد بها أشباح المساء...
لم يجد سوى صدى نحيبه .. فرياح الضياع قد اقتلعت كل الخيام وأطفأت نور المشاعل ، والتهمت ثلوج اغتراب السنين كل حرارة الصحراء ..
فجثا منتحباً ...... يغسل الأجداث بدموع الندم .. يقبل أحجارها مستغفراً متضرعاًً.. يسألها الصفح وأن تهبه تميمة تحمي المدينة من شرور اللحظة القادمة..
فلم يجبه سوى صدى التضرعات وقهقهات أمواج المساء الزاحفة على أنغام برقيات الترحيب من خفافيش المدينة.. فيزداد خرير شلالات دموع القلب ويتعالى صوت النحيب
* * *
الليل يطرق أبواب المدينة.. ولم تبق سوى الطلقة الأخيرة ..
لملم بقايا أشلائه المبعثرة وراح يقيمها سداً منيعاً في وجه زحف الموكب الليلي .. لكن الجسد المنهك لم يصمد طويلاً تحت وطأة أقدام المساء المثقلة بنشوة الانتصار حتى الثمالة...
فأطلق الزفرة الأخيرة .. وخبت جمرة العينين
زبيد -27/8/1992م
2011-02-21, 00:22
