امـــرأة من حديد - الجزء الأول-
كانت ككلّ الفتيات في الدّنيا...تنتظر فارس أحلامها بفارغ الصّبر، لم تطمح سوى بالاستقرار في ظلّ زوجٍ مُحِبّ يحقّق لها أمنياتِها الورديّة البسيطة...كانت غارقةً في أحلامها الخياليّة حين دخلت عليها أختها الصّغيرة لتقطع عليها حُلُمَها الجميل...
- أختي...! هناك زُوّار يطلبونك، جهّزي نفسك حالاً!
ووقفت قُبالتها وهي تبتسم ابتسامة شرّيرة كُلّها شقاوة
فتحت نورة عينيها بغضب وصرخت في وجهها:
- أيتها الشّقيّة...أفسدت عليّ حُلُمي الجميل، أغربي عن وجهي حالا...
ورمت عليها بالوسادة، لكنّ الصّغيرة تحاشت الهدف وهي تضحك وقالت ببراءة:
- يجب عليك أن تشكريني لا أن تصرخي في وجهي، لأنني جئت إليك ببشرى تحقّق لك حُلُمَكِ هذا...وغمزت بعينيها وهي تبتسم لإغاظتها، ثمّ أردفت بجدّية:
- أحمل لك رسالة من أمّي وهي تقول لك: جهّزي نفسك حالا للضّيوف...
وخرجت مُسرعة قبل أن تصبّ عليها أختها مزيدا من جام غضبها.
نظرت إليها نورة شزرًا وكادت أن تنفجر غضبًا عليها لكنّها كانت قد خرجت لا تلوي على شيء...فتمتمت:
- يا لها من ثرثارة...وجلست تفكّر في كلام أختها الصّغيرة...وفجأة!
هبّت واقفة وكأنّ أفعى لدغتها...قالت وهي تكلّم نفسها: يا إلهي...قالت بأنّ هناك ضيوفًا ينتظرونني، إذن لقد جاء أخيرا...إنّه هو...!
لقد فَهِمَت أخيرًا...ها همُ الضّيوف جاؤوا يطلبون يدها، لم تتمالك نفسها من فرط سعادتها، وانصرفت بسرعة لتجهّز نفسها...لقد تراءت لها كلّ أحلامها تتحقّق دُفعةً واحدة...نظرت إلى نفسها في المرآة وكأنّها تنظر إلى فتاةٍ أخرى ليست هي...
كانت تبدو جميلة، بل في غاية الجمال والرّوعة وكأنّها ترى نفسها لأوّل مرّة...قِوامُها الرّشيق، وبشرتها الصّافية كصفاء السّماء، وعينيها البرّاقتين، التي يخيّل لمن ينظر إليهما وكأنّهما بحر عميق يغوص في أعماقه كلّ من يتأمّلهما مسحورًا بجمالهما، ومأخوذا بحسنهما.
ابتسمت نورة حين دُقّ الباب، وما لبثت أن تغيّرت سُحنتها حين رأت أختها الصّغيرة تطلّ من الباب وهي تسترقُ النّظر خشية أن تكون أختها لها بالمرصاد...رمقتها نورة متصنّعة الغضب:
- أدخلي...ماذا جئت تقولين هذه المرّة؟
دخلت بحذر شديد وعلى وجهها ابتسامة عريضة كعادتها، وقالت بكلّ هدوء وكأنّها تنذر بقدوم عاصفة من الغضب:
كنت أمزح...لم يأتِ أحد...!!!
- ماذاااااا؟؟؟!!!
حملقت في وجهها غير مصدّقة، شعرت وكأنّ صاعقة نزلت عليها، أوكأنّ الأرض قد سُحِبَت من تحت قدميها...كانت مفاجأة غير متوقّعة، ومَقلَبًا غير ظريف أبدًا من أختها، جعلتها تحمرّ خجلاً، ثمّ تثور بهياج شديد، وراحت تطارد أختها لتنتقم منها على وضعها في هذا الموقف المُحرج...أمّا العفريتة الصّغيرة فقد كانت قد خطّطت لكلّ ذلك وأدركت ردّة فعلها فراحت تنطّ هنا وهناك في محاولة للهرب من بين يديها.
دخلت الأم مهرولة لتعرف سبب كلّ هذه الجَلَبَة، ورأت المطاردة الشّرسة بين الأختين، فصرخت:
- ما كلّ هذه الضجّة يا بنات!!! ألا تخجلن وفي بيتنا ضيوف؟! ماذا لو سمعوا صراخكما؟! عيب عليكما أنتما الاثنتان...
ونظرت إلى نورة في غضب:
ألم أطلب منك أن تجهّزي نفسك لتأتي وتستقبلي الضّيوف، هيّا أسرعي قبل أن ينصرفوا...
وخرجت إلى حال سبيلها، أمّا نورة فوقفت مشدوهة، وهي لا تكاد تفهم شيئا، ويدور في رأسها ألف سؤال...ولم تكد الأم تخرج حتى أمطرت عليها بوابل من التّعنيف:
- لم فعلت ما فعلت وكذبت عليّ أيّتها الشقيّة؟؟؟!!! أجيبي...
- أردت أن أضحك معك قليلاً بمقلب، لتذكريني به قبل أن ترحلي عنّا...
واغرورقت عيناها بالدّموع فخفضت رأسها واجمة...أحسّت نورة في صوتها بنبرة حزن واضحة فتعجّبت منها، فهذه أوّل مرّة ترى فيها أختها حزينة وهادئة على غير طبيعتها المعهودة...لكنّها سرعان ما أدركت سرّ حزنها فاقتربت منها مبتسمة تمسح دموعها المنسكبة وقالت:
لا تتسرّعي يا عزيزتي...لن أرحل عنك بهذه السّهولة، من يدري ربّما ينصرفون كما انصرف غيرهم، حينها سأبقى معك فترة أطول...
والتقت عيناها بعينيها! قاطعتها الصّغيرة بحزن شديد:
كلاّ...كلاّ، أمّا هذه المرّة فلا...وانحدرت من عينيها دمعتان تفطّر لها قلب نورة فضمّتها بكل حبّ وحنان ولم تتفوّه بشيء...
لأوّل مرّة أحسّت نورة بصدق مشاعرها، ورقّة قلبها، وأدركت كم هي تحبّها رغم شقاوتها...
لقد صدق حدس الصّغيرة، تمّ اختيار نورة، وهكذا اتّفقت الأسرتان. لم تصدّق نورة في بادئ الأمر، كيف جرت الأمور بكلّ هذه السّرعة... بالأمس كانت تحلم وتحلم وها هي الآن عروس!!!
بدأت مراسيم الزّفاف تجري على قدم وساق خلال سنة، مرّت وكأنّها ساعة كالحلم الجميل، قضت فيها نورة أيّامها بين الأحلام والخيال، وراحت تمنّي نفسها بالأيّام السّعيدة... ولكن في الوقت نفسه كان يتضارب في قلبها شعوران، شعور بالفرح والسّرور لمجيء فارس أحلامها المنُتظر، ودخولها القفص الذّهبي متوّجة كالأميرة، وشعور آخر يشوبه الحزن والألم يعتصران قلبها على فراق أهلها الذين عاشت معهم أجمل سنوات عمرها، خصوصا أختها الصّغيرة التي كفّت عن شقاوتها وصارت ودودة، ومطيعة لها وفي كلّ شيء.
لقد أدركت نورة مدى حبّ أهلها...فأمّها وإن كانت تُظهر الفرح والسّرور بزواجها، كانت تخفي وراءها حزنا وألما يتراءى في قسمات وجهها، وتقاطيعه الحزينة، أمّا أختها فقد لزمت الصّمت وصارت أكثر هدوءا، وكلّما اقترب يوم الزّفاف صارت نورة أكثر إحساسا بمرارة الفراق، ممّا جعلها تنسى كلّ أحلامها وسعادتها بهذا الزواج الذي سيفرّقها عن أسرتها الحبيبة.
واقترب اليوم الموعود الذي زُفّت فيه نورة إلى دار زوجها كأميرة إلى قصرها المُنيف، في يوم بهيج غنّت فيه الطّبيعة بكلّ ما فيها من طير وشجر، وأزهار وورد فرحًا بهذا العُرس السّعيد...وانبهرت العيون بجمال نورة الذي أخذ بأبصار المدعوّين، وكَثُر حولها المُتهامسون ينظرون إليها بحسد...أمّا هي فقد ظلّت شاحبة تخفّف عن نفسها بما ستلاقيه في دار زوجها من حبّ ورعاية لطالما حَلُمَت به، وعزّ واحترام ينسيها حزنها على فراق أهلها.......وهكذا ودّعت نورة أهلها بدموعها، وانطلقت بها العربة إلى حياتها الجديدة، حيث ينتظرها المستقبل المجهول!