3.2 تعليميّة اللّغات والنّظريّات اللّسانيّة
لا يتسنّى تأسيس نظريّة لتعليميّة اللّغات إلاّ على قاعدة نظريّة عامّة للّغات. غير أنّه فضلاً عن ذلك يجب على هذه النّظريّة أن تجيز اعتبار المصطلحات وتحمّلها بوصفها تسميّات للمعارف. فدفتر الشّروط النّظريّة، بتحرّي المزيد من التّدقيق، لا بدّ سيشمل مؤهِّلات يوشك ألاّ تتواجد مجموعةً منصهرةً في نفس مقاربة كلاسيكيّة وواحدة. دونك ما يبدو أنّه مطلوب :
1 - تصوّر متين للدّرس الصّرفيّ قادر على الالتفاف حول المكوِّنات المنطوقة والمكتوبة مهما تشعّبت، فالقضيّة العصيبة لم تعد الوقوف عند عتبة الوحدة الصّغرى (لمن يريد الكشف عن الحجج السّائرة في الاتّجاه المخالف، ينظَر Martinet, 1985) إنّما المهمّ هو استجلاء القيمة التّمييزيّة.
2 - درس تركيبيّ خاصّ بالمحلاّت يراعي توزيعات وتحويلات تركيبيّة.
3 - درس تركيبيّ ينفرد بالتّعليقات والتّبعيّات التّركيبيّة يسمح بمعالجة قضايا المعمول، والتّخصيص، والوظيفة، وبالتّالي تيسير التّفسير النّحويّ للمحلاّت المعلَّقة.
4 - درس تركيبيّ يكفل بالملفوظ يأذن بتناول قضايا الإحالة والتّداوليّة، وبالتّالي تسهر على التّفسير الدّلاليّ للتّبدّلات الشّكليّة، والمحلاّت والتّراتبيّات التّركيبيّة.
إنّه من الجليّ أنّنا في صدد أربعة أنواعٍ من المقتضيات الّتي قليلاً ما أوتي على تلبيّتها وهي مجموعة. وإذا أردنا ضرب بعض الأمثلة، فما يُعتبر في علم الصّرف محلّ إجماعٍ بين اللّسانيّين يقوم على تراث تليد (أقسام الكلام، والتّصريف، والاشتقاق والتّركيب)؛ وفي الدّرس التّركيبيّ الخاصّ بالمحلاّت، فالنّتائج المفحِمة هي تلك الّتي تكلّلت بها الأعمال المنجزة خلال النّصف الثّاني من القرن العشرين، وهي المستوحاة من الباحث الأمريكيّ هاريس (Harris) وأتباعه (يُنظَر Chomsky, Gross, Miller et Torris, Abeillé, etc.)؛ وفي الدّرس التّركيبيّ الّذي ينفرد بالتّعليقات والتّبعيّات التّركيبيّة، إنّما التّراث الكلاسيكيّ هو الّذي يفرض نفسه، وهذا انطلاقًا من النّحاة اللاّتينيِّين إلى تينيير (Tesnier) وخلفائه (ينظَر خصوصًا Serbat et Mel'cuk)؛ وأخيرًا، ففي مجال التّلفّظ إنّ الإقرار « الجهاز الصّوريّ » إنّما هو حديث العهد (Benveniste).
هذه الكتل العظيمة ليست قارّات معزولة ببحارٍ لا يمكن عبورها، لكن أيّ واحدة من الأولويّات الخليقة بمقاربة معيّنة تسبّب ضررًا لغيرها من الأولويّات : فهكذا ينطوي النّحو التّوزيعيّ على درسٍ دلاليٍّ مستجدٍ (فالأمر لا يتعدّى تقسيماتٍ إلى أصناف متفرِّعة بعضها عن البعض، مثل حيّ، ومادّي أو كثيف، وهي الّتي يتحقّق إسقاطها على مئات آلاف كلماتٍ تابعة للغة واحدة)، وعلى العكس من ذلك فالنّحو الّذي يتابع التّعليقات يميل إلى إيثار الكلمة. ألا إنّ على الأقلّ لتلك الكتل فضلاً يكمن في كون كلّ منها أتت على إنهاء برنامجها، ممّا يساعد على دفع عجلة المعرفة إلى الأمام. إنّ المجهودات الّتي تُبذَل في سبيل عرض نظريّة غير مِقصيّة تعنى باللّغات لجديرة بالتّقدير هي الأخرى، لكن إلى يومنا هذا لا نظريّةَ انبرت لتحتوي غيرها من النّظريّات، وذلك رغم المحاولات الرّامية إلى التّركيب على غرار ما فعل بنفنيست (النّظام السّيميائيّ والنّظام الدّلاليّ)، وما قام به ياكوبسون (Jakobson) (محور الاختيّارات ومحور التّركيبات) و ما أنجزه هاجيج (المقاربة عن طريق ثلاث « زوايا » متكاملة).
4.2 - لغات الاختصاص بوصفها متعدِّدة الأنظمة « اللّغة نظامٌ لا يخضع لغير نظامه الخاصّ »، هذا في حال إذا ما صدّقنا سوسير (ص.47). لكن هذا النّظام، عند سوسير نفسه، يؤول إلى تاريخٍ ما، وحتّى الآليّات الآنيّة لوحدها تَخضع من جهتها لتنظيميْن: هناك آليات تداعيّة وآليات تركيبيّة. ثمّة ثنائيّات أخرى لا بدّ من ذكرها: الدّال والمدلول، الدّليل (اللّغويّ) والمفهوم (خارج اللّغويّ)، الدّرس الصّرفيّ والدّرس التّركيبيّ. في أحوالٍ كهذه، فمِن الحكمة بمكان أن يُعترَف بأنّ اللّغات ترضخ لجملة من آلياتٍ داخليّة غير مطّردة ولتأثيراتٍ خارجيّة قد تبدو أنّها قيّاسيّة من وجهٍ ما، وذلك مثل أمراض الكلام، والازدواجيّة اللّغويّة، وكلّ التّنوّعات الّتي تنتاب الظّواهر الكلاميّة والّتي تهمّ أقدم الأبحاث (كالبلاغة) وتلك الّتي تستقطب اهتمام أحدثها عهدًا (كالحوار : إنسان ـ ماكنة)، ممّا يسفِر عن تكاثر « علوم اللّسان » وهذا في الوقت الّذي كان الشّائع هو مزاولة الحديث عن « اللّسانيّات » وعن « نظام اللّغة » وهذا إلى عهدٍ قريبٍ لا يتجاوز بضعة عقود.
في خضمّ هذه الأوضاع، فالطّريقة الأكثر إنصافًا للإمساك بزمام أمور الدّراسات اللّسانيّة هي على الأرجح تلك الّتي ترضى قدوةً علمَ الأحياء، وهو جسدُ مزيجٍ من المعارف يفتقر إلى الكيمياء والطبّ، بل إلى المعلوميّات أيضا. للّغات هي الأخرى موادّها الخامّة (التّسجيلات الصّوتيّة وسلاسل الحروف)، ولها تقطيعاتها الإجرائيّة (إلى وحدات صوتيّة، ووحدات صرفيّة، ومركّبات، وجمل)، بل لها وظائفها أيضا، ولها كيفيّات رسمها الخطّي والإلكترونيّ، وعلاوة على ذلك تملك تاريخًا وجغرافيّةً وذات طابع اجتماعيّ. فهكذا يستحيل على المختصّين في اللّغة العربيّة ألاّ يعبأوا لا بترتيب شؤون النّظام الفونولوجيّ، ولا بمدى تبعيّة النّظام الصّرفي للأصل وللقالب في آن واحد، ولا بطريقة التّوظيف المبدئيّ لأداة التّعريف وللتّنكير، ولا بالجملة الاسميّة، و لا بقضيّة رسم الحركات أو عدمه، ولا بمسألة وجود اللّهجات المتنوّعة، هذا إذا ما اكتفينا بالإشارة إلى بعض القضايا المألوفة للغاية.
يجدر ألاّ يُحشَد في هذا الشّأن بين الطّابع العلميّ وبين بساطة نموذجٍ مهما كان بريقُ هذا الأخير مستهويًا، وهذا على النّقيض من الطّبويّة التشومسكيّة الكائنة وراء « نظريّة علم التّركيب ». إنّما استمدّ المذهب التشّومسكيّ السّائد خلال السّتينيّات قوّته الحقيقيّة من كونه عبّد الطّريق أمام أعمالٍ وصفيّة أعطت الدّفع لمعرفة اللّغات فيما يخصّ جانبها التّركيبيّ، وهذا بشكلٍ أبعد بكثيرٍ ممّا سبق للنّظريّات المتقدِّمة عليه (في أوربّاGuillaume,Hjelmslev, Tesnière) وأن أحرزته من الإنتاجيّة.
لم تعد المدوّنة النّصيّة حكرًا على الفروع اللّسانيّة التي تقتضي التوسِعةَ في مادّة تطبيقاتها، إنّما أصبحت الدراسات المعجميّة تحسب لها حسابات، وتقرّ بوجود المقاربة النّصيّة ، وتدرِج في فصولها المخصَّصة للمولَّد، لكون المولَّدات إنّما تولَد في الخطابات ، وفي الخطابات تظهر الكلمات ضمن بنى تركيبيّة ، الاقتراب من المقاربة النصيّة يكون أجدى، فتسجيل المصطلحات ضمن نصوصٍ تستدعي نوعًا معيّنًا من القراءات، لأنّ القراءة النّشطة تتحدّد بالتّحريك الرّمزي للنص، أي التّعامل معه باعتباره منظومة سيميائيّة وليس كنسق من الأفكار ومركبًا syntagme من الدلالات، أي من خلال بناء الأفق وتعديله وتتأسّس عمليّة الفهم والإفهام وفتح حوار مع النص وتحديد شروط المعرفة وتجاوزها وإلغاء المسافات الزمنيّة، " لأنّ القراءة هي مستقبل النص ؛ بهذا يتمّ إنتاج متخيل النص . « إذا جاز للمصطلحات أن تشتغل خارج النّصوص، وهي تكتسب استقلاليّة أقرب إلى العناوين باعتبارها أسامي المفاهيم، فهذا ما هو إلاّ نتيجة بناء دلالاتها ضمن النّصوص واستقرارها فيها. غير أنّ هذه الاستقلاليّة متينة الارتباط بعمل التّسميّات: إذا حدث وأن طلعتْ على صفحة معيّنة دلائل مثل pylône, source, rouge-gorge, ou falaise, فكلّ واحد منها ستستدعي انطباعًا مرجعيًّا ما » .
فتفعيل السياق هو المعيار الذي يُبنى عليه تعريف المولَّد، « هو إبداع دلالات معجمية وتراكيب دلالية جديدة أي أنه يرتبط بظهور معنى جديد أو قيمة دلالية جديدة بالنسبة لوحدة معجمية موجودة أصلا في معجم اللغة، فيسمح لها ذلك بالظهور في سياقات جديدة لم تتحقق فيها من قبل ».
خاتمة:
إذا كانت دلالة الخطاب تتضمن في المعجم اللاتيني الحوار وكذا معاني الخطابة فإن اللسانيات المعاصرة حددت جغرافية الخطاب عند حدود الجملة، حيث حظيت بالاهتمام والدرس بوصفها وحدة تتوافر على شرط النظام. وهي غير قابلة للتجزئة، وإذا أمعنا النظر في ماهية الخطاب على أنه ملفوظ يشكل وحدة جوهرية خاضعة للتأمل. ففي حقيقة الأمر فإن الخطاب ما هو إلا تسلسل من الجمل المتتابعة التي تصوغ ماهيته في النهاية.
أن يؤتى على إرساء صوتيّاتٍ وظيفيّةٍ ونحوٍ تابعيْن للغةٍ غير معروفة بعدُ لهو حجر زاويّة حريٌّ بأن يشهد على نضج هذين العلميْن الّذيْن تشكِّل مكاسبُهما تقاليدَ حيّة. فالمحاكمات الّتي تنازع الملكيّة الفكريّة، والّتي يمكِن إسناد أمر تفسيرها إلى الدّراسات الاجتماعيّة الملتفّة حول العلوم، كفيلةٌ بأن تُلبِس شأن مكاسب لم يثَر نقاشٌ حولها بعدُ، إذا لم يحتاط لذلك: فخارج نطاق اللّجان الّتي تتكفّل بمناقشة الرّسائل الأكاديميّة، فكلّ خبيرٍ متمرِّس يعرف كيف يشخّص الفونيمات الّتي هي وحدات ويعمد إلى نسخها صوتيًّا بوضعها ما بين خطّين مائلين، ولا تخفى عنه مورفيمات المباني المقدّرة الّتي تنطوي عليها الكلمة، ولا تفوته المركّبات الّتي تنتهي إليها زمر الكلمات والمتميِّزة بفضل الاحتكام إلى قانون الاقتصاد الّذي تخضع له الجملة، والكلمات لا ريب موجودة بما أنّه ثمّة كلمات متقاطِعة، وتقلّص نصوصٍ إلى كميّة معيّنة من الكلمات، وقواميس ذات قوائم معجميّة متوقَّعة. يليق باللّسانيّ أن يكون رائد فكرة ذات فحوى حول مسائلَ نظريّةٍ على غرار الاستعانة بمقاربة ثنائيّة في الصّوتيّات الوظيفيّة أم دون ذلك، ومثل وجاهة مفهوم المركّب الفعليّ أم عدمها ..الخ، لكن من الأهميّة بمكان ألاّ تكون تلك الفكرة مناوِئة لما اشتهر من جهة أخرى على أنّه مكسبٌ.
وفي حال إذا ما ورد هناك خللٌ فيجب إمّا أن يتبرّأ ذلك اللّسانيّ من فكرته، أو يتصدّى للاستيعاض عن المقاربة الشّاملة الّتي كانت تسير عليها المادّة المعنيّة، وهذه مسئوليّة وقفٌ على بعض الأعلام المشهورة، مثل مؤسِّسي النّحو العامّ والمعلّل، وروّاد النّحو المقارن، وزعماء النّحو البنويّ والنّحو التّحويليّ. يجد المرء نفسَه هنا إزاءَ حالة مبتذلَة ما انفكّت العلوم تجتازها
وفي هذا الصّدد فإنّ التّقدّم بجردٍ تحصيليٍّ ينجَز في اللّسانيّات من شأنه أن يُعيد إلى ذهن ذلك المرء حالةً مرّت على كلٍّ مِن علم الاجتماع وعلم الاقتصاد : فالموادّ الثّلاث لا تزال حديثة النّشأة، فكفاها ذلك صوابًا لئلاّ تستأثر بحقّ جحد هذا أو ذاك من مشيّديها.
ليس غيّاب نظريّة جامعة هو الشّيء الوحيد الّذي يُقنع المرءَ بالعدول عن أي نبذٍ لغيرِها، لكن ذلك مرتبطٌ أيضًا بالتّشعّب الّذي تختصّ به وقائع اللّغة.