نظرية التلفظ عند ميكاييل باختين
بقلم: نعيمة البخاري بنعيسى
تنطلق النظرية العامة عند ميكاييل باختين، من فكرة أنه لا يمكن التلفظ دون علاقة بالملفوظات الأخرى. فكل علاقة بين الملفوظات ليست بالضرورة تناصية: فالملفوظ يعتبر كشاهد على الذات، فالعلاقات المنطقية الدلالية الغيرية يجب أن تدخل في دائرة أخرى للوجود: فالملفوظ الحاضر، يدرك كتمظهر لمفهمة للعالم، والملفوظ الغائب كتمظهر لآخر، وبين هذين المظهرين يحصل الحوار، ومن هنا يرى باختين أنه لا يوجد ملفوظ يكون مجردا من بعده التناصي وأن كل خطاب يحيل على الأقل على ذاتين وبالتالي على حوار فعلي.
لقد شكل باختين رافدا هاما وأساسيا عند جوليا كريستيفا ومن هذا المنطلق تأتي استلهاماتها النظرية حول التناص، كسمة مصاحبة للنص. كذلك، يبدو التوجه الحواري ظاهرة مميزة لكل خطاب يلتقي بخطاب الآخر، على كل المستويات التي تقود في اتجاه موضوعه، ولا يمكن أن لا يدخل معه في تفاعل. وهكذا يشتغل مبدأ الحوارية، في أغلب الأجناس الشعرية. ولا يشتغل جيدا فنيا، وينطفئ داخل الخطاب الشعري، وعلى العكس يصبح داخل الرواية أحد مظاهر الأسلوب الأكثر أهمية ويخضع لتأسيس فني. ويلاحظ باختين أن هذا ناتج عن كون القصيدة هي فعل للتلفظ في حين أن الرواية تمثل أحدها.
يدخل اهتمام جوليا كريستيفا في دائرة اهتمام باختين بخصوصية العلوم الإنسانية الموجهة إلى الأفكار والمعاني والدلالات التي تصدر عن الآخر، والموجودة لدى العالم تحت مظهر النص. فالنص كمكتوب أو كمعطى شفوي، هو هذه الحقيقة المباشرة لحقيقة الفكر والتجارب التي داخلها وحدها نجد اتجاهات هذا الفكر، فحيث لا يكون هناك نص، لا يكون هناك موضوع للبحث وللتفكير.
إن الإنسان ليس هو موضوع العلوم الإنسانية، بل الإنسان باعتباره منتجا للنصوص. فالعلوم الإنسانية في رأي باختين هي علوم للإنسان في خصوصيته، والإنسان بخصوصيته الطبيعية يعبر، ويخلق نصا، وحيث لا يدرس الإنسان خارج النص وفي استغلال عنه، فهذا ليس علوما إنسانية وبالتالي تعتبر العلوم الإنسانية تفريعات للسيميائيات، وفي نفس الوقت يرى أن مفهومي مجموع العلامات أو السيميائيات والإيديولوجيا هما قابلان للتبادل على اعتبار ان الإيديولوجيا عند باختين هي مجموع الانعكاسات والتعريفات داخل العقل الإنساني للحقيقة الاجتماعية، والطبيعية الذي يعبر عنها ويركزها في الكلمة.
تتفق جوليا كريستيفا مع باختين في نقدها للنظرية الشكلانية البنيوية، الذي يكمن في انغلاقها داخل النص. فكل العلاقات لها خاصية منطقية، ولا توجد عندها إلا ذات واحدة في حين أن باختين ومريدته يدرك دائما وجود أصوات، وعلاقات حوارية فيما بينها.
هذا الصراع الذي نكتشفه عند جوليا كريستيفا، هو صراع بين الذاتي والموضوعي، يقود إلى الدفاع عن الذاتية، ذاتية الشيء لمعرفته، فالنسبة للعلوم الإنسانية التعمق في فهم الشيء هو الأهم.
هكذا تلامس الحوارية الباختينية الكتابة كذات وكتواصل نصي، وإزاء هذه الحوارية نجد مفهوم فاعل الكتابة يندثر ليخلي المكان لآخر هو الازدواجية، وهو يدل على إدماج التاريخ، تاريخ المجتمع في النص. وهذا الأخير في التاريخ. ويطرح باختين هنا العبر ـ لسانيات كعلم ينطلق من حوارية اللغة للوصول إلى معرفة العلاقات التناصية، فالحوار هو الذي يمنح الحياة للغة. فالعلم لا يتحدد بموضوع واقعي، لكن بموضوع المعرفة الذي هو ناتج عن تبني منظور مخالف إزاء نفس الموضوع العبر لسانيات يتوافق مع الخطاب في حين أن موضوع اللسانيات هو اللسان، وهذا يعني أن موضوع العبر لسانيات هو اللغة في كليتها المادية والحية، والخطاب هنا يعني الملفوظ. وبالتالي فكل ملفوظ لا يمكن أن ينسب للمتكلم الواحد، إنما هو نتاج تفاعل بين المتكلمين. إنه إنتاج لهذه الوضعية الاجتماعية المعقدة، الذي يبرز داخلها. وهذا يدل على أن المتكلم يشارك في تشكيل معنى الملفوظ، مثلما تقوم بذلك كل العناصر الأخرى الاجتماعية، من سياق التلفظ، وهذا ما يفرض علينا مسلمة أن الإنسان هو كائن اجتماعي ولا يمكن اختزاله في بعده البيولوجي. وهذا يرتبط بالتفكير في طبيعة الإنسان الاجتماعية في الفكر الماركسي. كذلك يرى هيغل أن الوعي بالذات لن يكون حقيقيا لأجل ذاته، إلا في النطاق الذي يرى انعكاسه في أشكال من الوعي الجديدة. فالوعي بالذات يرجع إلى القدرة على إثارة مجموعة من الأجوبة المحددة التي تنتمي للآخر. فمن غير الممكن أن تدرك الذات أو ذاتنا، تتشكل خارج التجربة الاجتماعية، فأصل وأساس الذات، مثلما هو أصل الفكر، تكون اجتماعية. وبالتالي، تنعكس داخل الملفوظات دينامية اجتماعية. وتبرز هنا نظرية التلفظ عند باختين كنظرية جمالية متماسكة، تقوم على مفهمة للوجود الإنساني، حيث يلعب الآخر دورا فاصلا، فهو يقول بأنه من غير الممكن إدراك الكائن خارج العلاقات التي تربطه بالآخر. وبالتالي فالعلاقات بين الملفوظات الحقيقية هي علاقات بين الذات المتكلمة والملفوظات الحقيقية الأخرى، وهذا يحيلنا على وضعية المتكلم.
إذا عدنا إلى النص، فهذا الطرح المنهجي، يريد أن يجعل من النص البؤرة التي تلتقي فيها حوارات العناصر المشاركة في عملية النص، انطلاقا من النص نفسه. وهنا تتوافق جوليا كريستيفا مع باختين من حيث هذا الاستخدام الإجرائي، بل إن هذا الفهم أوحى لها بالبحث عما أطلقت عليها الإنتاجية النصية، أي الانتقال من مقاربة النص كنسق مغلق على نفسه ومكثف بذاته إلى التعامل معه كسيرورة تداولية وكخطاب تاريخي غارق في الكثافة المرجعية. وتصرح في مقدمة كتاب "شعرية دوستيوفسكي" لم يعد هدف التحليل عند باختين هو أن يبين مما يتكون العمل أو الأثر الأدبي، إنما كيف يموقعه داخل تصنيف من الأنساق الدالة داخل التاريخ( )، وتؤكد كذلك على أن هذه المقاربة التلفظية مليئة بالحدس الذي يستدعي تدخل النظرية الفرويدية، بفضل المكانة التي توليها لرغبة الذات. وهذا ما ستعمل على استغلاله والتوسع فيه، انطلاقا من دراسة باختين الكلمة ـ الخطاب الذي تتواجه فيه محافل خطابية كلامية متعددة.
تحدد خصوصية النص الأدبي، وخصوصية اللغة الشعرية كاشتغال قابل للدرس والتحليل داخل تاريخ الأنساق الدالة، وهذا ما يطرح مفهوم علم الأدب كفرع من علوم الإيديولوجيات، ويقتضي تحليلا انطلاقا من رؤية لتاريخ الأجناس الأدبية، وكذلك اعتبار اللغة ممارسة. وهذه الإشكالية تستدعي الذات والمعنى كإنتاج داخل اللغة.
إذن، المجال النصي يشكل مجالا حواريا، فهو يفترض وجود كتابات أخرى، مهما كانت طبيعة المعنى في النص. وهذا يعني أن النص، يقع تحت سلطات كتابات أخرى، تفرض عليه كونا وعالما معينا، غير أن كل نص ينتج من حركة معقدة من تأكيد النصوص الأخرى ونفيها في آن واحد. ويحضر هنا تأكيد جوليا كريستيفا على خاصية للحوار «كخرق يعطي قانونا، يميزه بشكل جدري ومقولاتي عن شبه ـ الخرق، الذي يشهده تيار أدبي حديث "شهواني" وبارودي»( ).
سيتضح من خلال هذه الجدلية القائمة بين النصوص، مشروع جوليا كريستيفا بانطلاقه من نظرية التلفظ هذه باعتبارها نظرية فلسفية وبراغماتية، تهتم بالمتكلم بالذات. ومن هذا المنظور ستعمل على منح أدواتها التحليلية طابعا منطقيا في محاولة لإخضاعه لمنطق حواري، كما رأينا مع النفي والرفض عند فرويد.
إذن، تبدو نظرية التلفظ عند باختين كرافد أساسي وهام عند جوليا كريستيفا استطاعت عبره، أن تبرر حضور العالم المتبلور في لغات ومفاهيم داخل النص، وتقرير آلية تكون الرؤية بإدماج عناصر العالم إدماجا بنائيا توليديا، وهذا يقيم إدماجا يخلق علاقات جديدة، وينتج تصورات ودلالات مفارقة ومغايرة لدلالات العناصر الداخلة في حركة الخطاب المدروس أو في خصائصه. وقد قدمت هذه النظرية كذلك، لجوليا، مفهوم التناص باعتباره يصور العمل الأدبي، ويشكله داخل خطابات مجتمع ما، وانبنائه من عناصر الخطابات الأخرى في هذا المجتمع، وهذا ينقض نظريات الإلهام التي تعتبر العمل الأدبي، والشعري خاصة، أصلا وبداية، وكلا مستقلا وهية علوية، كما ينقض نظرية المحاكاة التي تربط الكتابة بالطبيعة، بدلا من الموروث اللغوي والثقافي المعبر عنه بالكلام. وقد سيق وذكرنا أن جوليا كريستيفا قد وجدت في الحوارية الباختينية معارضة صريحة للبنيوية.وعلى العموم، ستعمل جوليا كريستيفا انطلاقا من باختين ونظريته على تأسيس فلسفة للغة، استنادا إلى نظرية اللاوعي، والماركسية، وكذلك لتوظف التناص بشكل مبهر داخل اللغة الشعرية حيث أبرز قصوره باختين.