يخرج صوت نحيب من إحدى الغرف, في ذلك الرواق الطويل المظلم, تكورت فوق السرير تلتف بملاءة أحضرتها لها الممرضة حين وصولها إلى الغرفة, اضطرت للبقاء في ذلك المكان الذي طالما كرهت زيارته و كرهت رائحته و كرهت رؤية وجوه المرضى الشاحبة المنذرة بالموت القريب.
كانت هي الوحيدة في ذلك الجناح التي تكاد تموت ألما و قهرا و غيضا, كادت تموت بالعار الذي سيلاحقها طوال حياتها, هذا إن لم تضع لحياتها حدا
قتلها التفكير في كيفية إقناع الطبيب بإجراء العملية, لم تكف أدمعها عن الانهمار, بللت الوسادة بأكملها, كانت لا تسمع في ذلك الليل المدلهم المبهم الإصباح سوى صفير الريح خلف النوافذ, يرافقه صوت الحزن و الانهيار بداخل نفسها, يرافقه انكسار القلب و الأمل من هذه الحياة المرة.
كانت تبكي سلاسل الأوجاع التي مرت عليها طوال عمرها الصغير, تشكو الفقر الذي حرمها من أبسط عوامل الراحة, تلعن الدنيا و الحياة, تلعن ذلك الشيء المسموم الذي يريد أن ينمو في أحشائها, الذي سمم أحلامها و هدم آمالها, تلعن الموت الذي أخذ والدها و كان السبب في جعل ذلك الوحش المتحجر القلب -أخوها الأكبر- ربا لعائلتها .
لا يزال الليل طويل يأبى أن ينتهي, و هي غارقة في دوامة من الأحزان و الآلام و الغضب, من اليأس و البأس, تتمنى أن تستيقظ من هذا الكابوس الذي يسحقها, لكن بقرصات الألم المتواصلة و الآهات التي تصدر من كل جزء من جسمها النحيل, تدرك أنها الحقيقة التي تهزمها و تجعلها كالحطام فوق ذلك السرير.
ما إن غفت حتى فاقت, فإذا بالطبيب عندها يتحدث إلى الممرضة
_ حالة اغتصاب أخرى لكن أظن أن هذه مختلفة عن سابقاتها
تفتح عينيها فتقعد و تعتدل : - أيها الطبيب هل ستجري العملية يجب ألا يبقى في بطني, هذا عبئ لا أستطيع أن أتحمله.
سكتت بعد طول محاولة و توسل ورجاء تنتظر رد الطبيب, بقيت صامتة لمدة و العبرات المنهمرة من عينيها الحزينتين الذابلتين تترجمان حجم الأسى و الحزن الذي يحملها قلبها الصغير.
_ عمليات الإجهاض ممنوع إجراءها, كما أنك لم تخبرينا بما حدث لك على الأقل نعرف من هو المجرم الذي فعل هذا بك, أخبرينا و لا تخافي نحن نود مساعدتك.
و كيف لها أن تخبرهم بمن فعل هذا بها, إنها تشعر بالعار و الخجل, ليته كان أحدا من مجرمي الشوارع أو متعاطي المخدرات, ليته كان شخصا غريبا لا تعرفه. كيف لها أن تقول من ؟ , شعرت بالندم لبرهة من مجيئها إلى هنا, لو ألقت بنفسها في بئر عميقة لانتهى أمرها و انتهت الفضيحة, لو تناولت مادة سامة تقتلها, لو قامت بشنق نفسها لانتهت من هذه المعانات و انتهت من العذاب و ارتاحت قليلا.
فمصيبتها مصيبتان و حزنها حزنان , حزن على فقدها أغلى ما يمكن أن تفتخر به فتاة و الثاني حزن على الظالم الذي فعل بها هذا بينما كان يجب أن يحميها كفرخ صغير تحت جناحه.
لابد أن تحكي, فالطبيب لا يمكن أن يجري العملية دون أن يدري كامل القصة لأنها مسؤولية كبيرة أن يقوم بعملية كهذه لفتاة في عمر هذه
لم يبق سوى أن تحكي , تتذكر الحادثة, ترتجف يداها , قررت أن تحكي, تحس بالبرد يلبس جسمها, تتذكر كيف عاد إلى البيت ثملا يترنح, دخل بوجه شيطاني و جثة بغل, نظر إليها نظرة جهنمية ,غرقت عيناها بدموع سرعان ما تنهمر,يرتجف جسمها و يتقطع صوتها
إنها تحكي تتزايد دقات قلبها و تضطرب أنفاسها , عرفت من نظرته أنه شخص لم تعد تعرفه , و من سيحميها من شره , كم صرخت ليساعدها أحد , و من سيسمعها من ذلك البيت البعيد عن جيرانه , من سينقضها من ذلك الوحش الآدمي , أمها التي طالما كانت الصدر الحنون لها كانت تزور أختها .
قالت كلما حدث, ازداد لونها شحوبا و صار صوتها نحيبا
تسمر الطبيب في مكانه و أخد الذهول لسانه , لا يدري ماذا يقول فمصيبتها لا مواساة فيها و لا عزاء , غير أنه بدا متأكدا مما سيفعل , فتلك الجريمة لا يمكن لها أن تنمو و تصبح إنسانا يمشي على قدمين , فذلك المولود لا يوجد له مكان بين الناس , لأنه مولود ترفضه الأخلاق و يرفضه العقل .
ربت على كتفها و قال و في نبرته شيء من المواساة و الحزن على حالها: استعدي لإجراء العملية.
النهاية.