الأدب العربي بين الإبداع والرسالة
الأستاذ: حمو عبد الكريم
باحث بالمركز الوطني للبحث في الانتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية – وهران
يشكل الباحثون والأدباء في كل الحضارات القديمة والحديثة، الدعائم الأساسية التي تنتقل من خلالها خلاصة تجارب الأجيال، وترتقي من خلالها البشرية سُلم الرقي درجـة بعد درجة، وإذا كانت الحضارة الإنسانية متنوعة الثقافـات ومشتتة العقليـات ما بين شرقية وغربية، قديمة ووسيطـة وحديثة؛ وإذا كان لكـل شُعبة من شُعب الدنيا لـون حضاري يميزه ولكل عصر من عصورها طابع يختلف به عما عداه، فإن تنوعات التغـير الحضاري لا تكاد تقف عند حد، فتتكامل داخل الأمة الواحدة نوازع شتى من الثقافات، بل ويكـاد لكل مدينة في الأمم الراقية أن يكون لها طابعها الذي تتميز به وتسـهم من خلاله في مجمل النتاج الحضاري للأمة."إن المجتمعات على اختلاف أنواعها تتميز بثقافاتها الخاصـة أولا وقبل كل شيء"1.
وعليه، فإن المجال الفعلي لوجود منظومة القيم هو دائرة السلوك اليومي للأفـراد ومختلف مظاهر التفاعلات الاجتماعية، ففي الأعمال ذات الأهمية الاجتماعية يتجسـد جوهر المعايير والقيم في وعي الفرد وتصرفه وسلوكه، وعلى أساس استيعابه لها يتحـدد أسلوب تفاعل الفرد مع الأفراد الآخرين والمحيط الاجتماعي بوجه عام.
وفي هذا الصدد يتحدد معنى الأدب الذي يشتغل على الذات الإنسانية الجمالية، والذي يسبح بالروح البشريـة إلى مصـاف الملائكية، مستعيناً باستحسـان الألفاظ وتوظيفها في أحسن تركيب كي تؤدي نسقا أدبيا راق2. ورغم التوسع النسبي الذي حققه الأدب العربي الحديث، فإن الحقل الأدبي لم يحقق درجة من الاستقلالية الكاملـة تجعل علاقته مباشرة مع القراء والمتلقين، وتحميه من وصاية الدولة والمؤسسات المحافظة. وهذه وضعية تعود إلى عوامل كثيرة، في طليعتها ارتفاع نسبة الأمية، وتدهور مستوى التعليم، وضعف القوة الشرائية، ومحاصرة السياسة الثقافية الرسمية للأعـمال الأدبية الجديثـة. فالأدب يصقل النفوس ويهذبها ويفتح أمامها آفاقا جديدة، وما متعة النص، حسب العنوان الذي أطلقه رولان بارت، إلا متعة نبيلة وشفافة، وتعتبر من أرقي المتع البشرية.
و لا يستطيع الأدب اليوم أن يطور ويعمق وعي الجمهور القارئ إلا بتركيزه على فرضيتين: المادة الفكرية التي يقدمهـا للمتلقي، والأداء الفني الجـمالي الذي ينسجـم ومتطلبات المتلقين. وما الأدب المتطور إلا ذاك الذي يخاطب فكـر القارئ وإحساسـه الجمالي في آن.
في عصر الانترنت والمعلومة الساخنة، لابد أن يكون الكاتب العربي حالماً عالمـاً، ليستمر في التأليف والكتابة، ويعتبر نفسه ملتزماً بمفاصل هؤلاء الناس الذين يضـارعهم بآمالهم وخيباتهم، بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وبأفراحهم وأقراحهم، ويا له من حلم جميل، لا بل مقدس.
فالأديب الملتزم هو أولاً أديب (أي مثقف ثقافة إنسانية دينية واسعة، ومطلـع على شتى فنون الأدب وأساليبه، وعارف بأسرار اللغة وهمس الكلمـات، ومدلول الصوائت والصوامت)، ومن ثم فهو ملتزم بقضايا الجماهير و بتكوين الوعي الاجتماعي والسياسي والجمالي لديهم.
وإذا كان الكاتب يُعير كل هذا الاهتمام بالقارئ وبالجمهور، فإنه يقرأ تاريخ هـذا الجمهور بعينين ثاقبتين، فالكتابة الأدبية لها بعد تاريخي بالضرورة، والأداء الفني يشكـل عنصراً مهماً فيها، إذ يستطيع الكاتب المتقن والواعي لدوره التنويري أن يطور ذائقـة القارئ وإحساسه الفني ورهافته ولغته الجمالية. فالكاتب الجيد ليس فقط ذاك الذي يقدم أفكاراً ونظريات، بل الذي يجود بأدوات فنية متطورة تلبي تطلعـات القارئ المعاصـر.
ولكن الإشكالية التي يعاني منه الأدب العربي هو الفرق الشاسع بين المستوي النظري والمستوى العملي. فكل ما قيل حول دور الأدب في تغيير وعي الجمهور صحيح نظرياً، بيد أنه عندما يصطدم بأرضية الواقع المعاش يصبح في جانبه الأكبر مجرد أحلام. وعندما ننظر إلى القارئ العربي على امتداد 24 دولة عربية إسلاميـة، وعندما ننظر إلى حجـم المسلمين في العالم إجمالاً، نتصور أن الكِتاب يصيب معظمهم.وأن المقروئية قـاب قوسين أو أدني، وهذا ليس صحيـح، إذ يجب أن نحجب من أصـل هذا الرقم أكثر من نصفه، بسبب الأميـة الفعليـة، كمـا يجب أن نشطب من الباقي أكثر من ثلثيه، بسبب الأمية الثقافية التي تزداد غلتها عقداً بعـد عقد. وهذا ما يفسر الظروف البائسـة التي تحيط بالكتاب الرصين الذي لا يتجـاوز عدد 3000 نسخه تنتشر سلحفاتياً بين المحيـط والخليج. فكم الإنتاج الأدبي في الوطن العربي، حسب إحصائية لليونسكو تؤكد أنه في عام 1991م أصدرت البلدان العربية (6500) كتاب مقابل (102000) كتاب في أمريكا الشمالية، و(42000) كتاب في أمريكا اللاتينية والكاريبي. أفي هذا البخل الثقافي اليسير،وفي الإجحاف الحضـاري البائـد من المتفقهين عمـل المصلحـون والنهضويون والتنويريون والبادسيون ومؤسسو الجامعات والمعاهد والمدارس والنوادي الثقافية على هذا... فإن العلمـاء المشايخ أمثال رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وعبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي.. وغيرهـم، لم يثوروا على الأوضاع جزافاً ولم يدحضوا الغـاصب المستدمر هراءاً، ولم يُحيوا القيم الإسلامية والروحية اعتباطاً.. وإنما كل هذا عن إيمان راسخ ويقين صائب، بأن حال هذه الأمـة سوف يعلى شأنها، ويقدس دينها، ويجتزء شرها.
يجب على القارئ العربي أن يستنير بالكتب التي تتحدث عن التحرر والديمقراطية وحريـة التعبير والتحديث الاجتماعي والسياسي والانفتاح الديني والأخلاقي والتسامح والمجتمع المـدني واحترام الطبيعة والبيئة، كما يهتم بالنقاط المضيئـة في التاريخ العربي و يستلهم من التاريخ الإسلامي شخصيته وعينه على الحاضر والمستقبل في آن واحـد.
العربية لغتنا تحتاج منا إلى أن نبذل جهداً أكبر في خدمتها وترقيتها نحوياً، وإملائياً ومطبعيـاً ومصطلحاتياً. والأدب يعتمد في مادته على اللغة، مادامت اللغة مشروطـة ببناها الصوتية والنحويـة والدلالية والمعجمية..
ولعل أول ما يجب البدء به ، إن كنا حقا نريد أن نبدأ تصحح مجامعنا العلمية ونعيد النظر فيها وفي ما قدمتـه للعربية، و أن نقلل من استعمال اللغات الأجنبية في بيوتنا وفي محلاتنا وفي شوارعـنا ولا نعتمد على الألـفاظ العامية في حياتنا العامة في التـدريس، والإذاعة والتلفزيون، وفي الصحافة المكتوبة وفي كل الأحاديث الثقافية المبـسطة، فليس هناك أي مبرر ولا حجة ولا عذر لنا في المضي في احتقار لغتنا، وتلطيـخ محياها الكـريم بالتراب، يوميا أمام ضرائرها من اللغات الأجنبية .
وأما الأمر الآخر فهو أن ننشر وعياً لغوياً في مدارسنا ومعاهدنا، وجامعاتنا وجميع مؤسساتنا الثقافية بضرورة استعمال اللغة العربية الفصـحى (والفصاحة تعني في أصـل العربية الخلوص والنقاء)، وذلك كي نهيئ الأجيال الصاعدة إلى تحمل الرسالة والنهوض بعبء الأمانة ونفض غبار الخمول، وقتام الدهور من على وجه هذه اللغة الأزلية التالدة.
الهوامش:
1- معن زيادة، حول الثقافة والثقافة القومية، مجلة الوحدة، العدد 41 /فبراير 1988، ص (136-137.
2-- فالنظم هو الذي يحدد فصاحة الكلمة. إن الكلمة المفردة لا تستمد معناها من ذاتها مستقلة عما يجاورها من الكلمات بل تستمد معناها في الأسـاس من موقعها إلى جـوار الكلمات التي ترد قبلها أو بعدها."فالألفاظ - كما يقول الجرجاني - لا تتفاضـل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة. وأن الألفاظ تثبت لها الفضيـلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصـريح اللفظ.ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعيـنها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر" عبد القاهر الجرجاني دلائل الإعـجاز، ص 38.