(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2)
المقدمة
مرّ قرن من الزمان أو يزيد واللغة العربية تكابد صراع البقاء وحدها، والمتحدثون بها في غفلة عما يجري به الدهر، وما يسعى إليه الأعداء في ثبات ودأب، وما يلغطون به من مغالطات في وقاحة عهدناها في أعداء الإسلام على مر العصور وعلى كل مستويات الصراع التاريخي بيننا وبينهم.
وليس لهم من وراء ذلك إلا تمزيق شمل هذه الأمة، وتفتيت وحدتها، وقطع صلتها بدينها شريعة وعقدية. ولكنهم في كل مزاعمهم يبدون عكس ما يريدون، فهم يحاربون الإرهاب في الظاهر، ويريدون الإسلام في الباطن، وهم ينشرون الديمقراطية المزعومة من اجل حرية الإنسان، ولكنهم يتبرؤون من نتائجها إذا جاءت بإسلاميين، وهم يحاربون بلادنا من أجل تحرير الشعوب من الطواغيت والمستبدين‘ وهم الذين أجلسوا المستبدين على سدة الحكم في كل بلاد المسلمين.
وهذا منهجهم الخبيث، ولعبتهم القذرة في التعامل معنا على كل المستويات. يذرفون علينا دموع التماسيح وأضراسهم تطحن عظامنا، وألسنتهم تلوك لحومنا، وأفواههم تتلذذ بامتصاص دمائنا.
لقد جرب الغرب حربنا عسكريا فكانت خسارتهم فادحة، لأنهم أحرص الناس على حياة، ونحن احرص الخلق على الشهادة، فلما فشلوا وانهزموا في ميادين البسالة لم يجدوا إلا ميادين الكيد والخسة والفسالة، وكان ميدان الطعن في اللغة من الميادين الفسيحة التي هرولوا فيها، وجندوا البغثان وخفافيش الظلام من بني جلدتنا، حتى صدق فيهم قول الشاعر:"إن البغاث بأرضنا يستنسر". و أصبح ميدان اللغة ـــ في ظل غياب المنهج العلمي في دراسة اللغة في بداية القرن ــــ ميدانا فسيحا لأصحاب الهوى والزيغ من الثلة الآثمة التي سيطرة على مقاليد الأمور في جامعتنا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولازالت نفثات السم المنعقد فوق رؤوسنا تستمد جذوتها من الماضي فتغشنا بين الفينة والفينة غيامات صيف من سموم الأفاعي، سرعان ما تتبدد أمام صمود اللغة، وقد يفاجئنا تافه يقضي جل وقته في حانات الطرب، وتنظيم مهرجانات الفساد، ليقف بقزميته الشوهاء مطاولا أهل العلم باللغة، فيكتب كتابا عنوانه مثير للشفقة في تركيبه ودلالته:"لتحيا اللغة العربية، يسقط سيبويه".
إن صوت العلامة رمضان عبد التواب لا يزال يرن في أذني:" أدركوا العربية قبل أن يتسع الخرق على الراقع".
ولا تزال كتابات العلامة أحمد مختار عمر تصرخ بأعلى صوت:" أوقفوا هراء التلفاز والمذياع، فإنه يفسد أذواق وعقول أبنائنا، ولا تزال شكايته للإذاعة والتلفاز المصري قائمة لم تجد قاض نبيل يقطع بمعاقبة الذين يجدون في نشر العاميات المقيتة بين ربوع وطننا الحبيب.
ولازلت أرى امتعاض أستاذي العلامة عبده الراجحي عندما حملت إليه هذا الكتاب في الصيف قبل الماضي، ولا تزال ملامح الثقة والاطمئنان بادية أمامي وهو يقول لي:" لا تخف، فإن هذه اللغة باقية، لأنها تستمد بقاءها من القرآن"، وعندما أبديت نيتي في الرد على الكتاب قال إن هذا الكتاب لا يستحق الرد.
وإذا كان من حق هؤلاء الأفذاذ أن يتكلموا في شؤون اللغة، وعلاج مشكلاتها، فليس من حق الذين يعرفون عن الفرنسية أكثر مما يعرفون عن لغتهم أن يحشروا انفسهم في زمرة العلماء الذين قضوا زهرة شبابهم في تحصيل العلم، ودراسة اللغة، والقيام على نشرها وتعليمها، وحبسوا أنفسهم على متابعة كل جديد في ميدان اللغة، مؤصلين للجديد على خليفة صلبة من تراثنا اللغوي العظيم، حتى لقب فارس مضمارها الدكتور الراجحي من قبل الحداثيين بزعيم السلفية المحدثة ــ فقط لأنه ممن يمسكون بالتراث، وينطلقون بقدم راسخة من خلاله، على أساس من قناعات علمية لا مجال فيها للهوى، ولا مكان للزيغ عن الحق الذي يقرره علم اللغة، والمنطق الذي يرتضيه العقل النزيه الذي أنضجه التحصيل حتى استوى على سوقه.
الباب الأول
(خلفية الصراع بيننا وبين الغرب)
الفصل الأول: الإشكالية الإسلامية
الفصل الثاني: إشكالية الكنيسة الشرقية
الفصل الثالث: الحلول المطروحة
الفصل الرابع: الحل العسكري
الفصل الخامس: مؤتمر فيينا 1213م وبدايات الغزو الفكري
الفصل السادس: استلهام الغرب تجربتهم مع الكتاب المقدس
الفصل الأول
(الإشكالية الإسلامية)
الأحداث تنقضي ولا تعود أبدا ، ولكنا يمكن مقاربة الأحداث من خلال منهج الاسترداد. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20
ونحن مأمورون بتأمل السنن ومعرفة العواقب التي تحتمها السنن الإلهية، التي لا تحابي أحدا.
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ }آل عمران137
قد يفلح المؤرخ في رسم صورة واضحة من خلال النظر والتأمل، وقد يفشل. والنجاح أو الفشل في استرداد حوادث التاريخ ، وإدراك السنن يعود إلى المنهج الذي يعتمد عليه المؤرخ في رؤيته لهذه الأحداث ،. لأن المنهج يمثل الأداة التي يستخدمها في تأمل تلك الأحداث ، وكذلك قد يعود ذلك الفشل وهذا النجاح إلى شخصية المؤرخ ،. إذا لم يكن موضوعيا في تناول الأحداث . ولاشك أن السلف قد نجحوا كل النجاح في تحقيق أحداث التاريخ ، وتفوقوا على انفسهم في ابتكار منهج للنقد التاريخي ،. لا يضارعه منهج في تفوقه ، ويرجع سر تفوقه إلى الموضوعية التامة ، والصدق الكامل في تحقيق أحداث التاريخ ،. لأنهم علموا أن الإسناد من الدين ، وكانوا يأبون كل الإباء إضاعة دينهم. هذا إلى جانب أن الاعتماد على الإسناد قد أثبت بكل المقاييس تفوقه على الوثيقة التي قد يكذب كاتبها وقد يلفق ، هذا فضلا عن سبقهم في هذا المضمار ، فجمعوا بذلك بين الموضوعية ، والصدق ، والتحقيق ، والسبق. فأحداث الإسلام وما أحاط به من حضارات ودول تكاد تمثل شاخصة للعيان ، ويبقى أن نتعلم نحن كيف نفقهها ونفسرها، ولعل في تجربة ابن خلدون في تفسيره حوادث التاريخ باعتبارها حوادثا متفاعلة ، يلد بعضها بعضا ، ويؤثر بعضها في بعض في إطار سنن كونية صارمة لا تحابي أحدا ولا تجامل أحدا ، ما يضيف إلى منهج النقد التاريخي العربي إضافة حقيقية أتمت وأكملت ما بدأه أسلافه ليكون لدينا منهج تكاملي يجمع بين تحقيق الحدث التاريخي وفقهه ، و في إطار هذا المنهج المتكامل سنحاول النظر إلى علاقة البيزنطيين بالإسلام في إطار أوسع وأقدم ، وهو علاقة الغرب بالشرق القديم ، فلا يمكن فهم هذا الصراع بمعزل عن الصراع التاريخي القديم بين المشرق والمغرب. إضافة إلى موقفهم من الإسلام كحدث حيوي جديد كان له أبلغ الأثر في تغيير إطار العلاقة التاريخية التي كانت تحكم الحضارات القديمة قبل الإسلام ، وتبديل الحدود في معادلة الصراع ،. مما حدا بالمؤرخ والقانوني المسيحي " فارس خوري" إلى تغيير أدوار التاريخ ، حيث يقول : " يقسم العلماء الغربيون التاريخ إلى ثلاثة أدوار: قديم ، ومتوسط ، وحديث ، ويضعون سقوط الدولة الرومانية المقدسة حدا بين العصور المتوسطة والقديمة. ثم يقول : " ولست أقول إن سقوط الدولة الرومانية لا يصح اتخاذه فاصلا بين التاريخ القديم والمتوسط ، فقد كان أثر سقوطها عظيما ، وإنما هنالك حادثة أعظم كان جديرا بالعلماء اتخاذها حدا فاصلا بين فترتي التاريخ العالمي، وأعني بذلك ظهور الإسلام"1إن هذه النظرة تحتم علينا النظر إلى بعض الفروض في السياق التاريخي الذي أفرز تلك العلاقة الجديدة بين الشرق والغرب - بعدما ساد الغرب قرونا طوالا - وتمحيص هذه الفروض تمحيصا دقيقا ، وفهمها فهما موضوعيا. وأول هذه الفروض ماذا كان يمكن ان يحدث لو لم تولد امة الإسلام في هذه الحقبة التاريخية؟!!
إذا أمعنا النظر في هذه الحقبة التاريخية ، فإن الإرهاصات التاريخية القائمة أنذاك تؤكد بما لا مجال معه لشك أن بقاء الدولتين العظميين ( الفرس – والروم) فرض مستحيل مع عوامل التحلل والفساد الذي دب في جسديهما المتهالك، وأن التغير كان سيفرض نفسه على العالم ، ويكفي أن نلاحظ الدول المستعبدة في ظل هاتين الدولتين، وأن نرمق العيون التي تصبوا إلى الحرية ، وأن نسمع أصوات الثائرين الباحثين عن الحرية وهم يجرون قي أقدامهم قيود الأسر، ويحملون على كواهلهم أنيار الاستعباد، وانين المرضى المهملين وقد أقعدهم المرض، ونرى دافعي الضرائب وقد كستهم
الذلة ، وأتعبهم الفقر ، وأرهقتهم المهانة ، وكان يجب أن نرى الظلم وهو
1- أنو الجندي الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية – دمشق – دار القلم 1998 ص9-10
يبدد آمال دول، ويطمس طموح شعوب بأكملها، ولهذا فقد كان الفرض الأولى بالطرح هو: "هل من إرهاصات تاريخية تنبئ عن تغيير وشيك في تداول الأدوار بين الشرق والغرب؟!. نعم لقد كانت كل إرهاصات التاريخ مع التغيير، وأن الذين كانوا يرون استحالة التغيير كمن ينكر الشمس في رابعة النهار، لقد كان البيزنطيون أهل كتاب ، وكانوا على يقين ببعثة نبي آخر الزمان من العرب ، بمعنى ان بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لم تفاجئ الغرب ، وكانت هذه هي أول إرهاصات وعلائم التغيير الوشيك فهل أعد الغرب العدة لحرب الإسلام؟ ، وما نوع العدد والعتاد الذي أعدوه لحرب العرب ( أتباع الدين الجديد)؟ أم أن توسع الإسلام غربا فاجأهم ؟ .ألم تنبه رسائل النبي أذهان البيزنطيين ؟ بعدما قطعت الدعوة أشواطا من الصراع داخل الجزيرة العربية قبل الانتقال خارج حدود الجزيرة مما أعطى البيزنطيين فرصة للتفكير فيما يجب فعله إزاء الدعوة
الجديدة التي تهدد كيان الإمبراطورية المتهالكة، وهذا يضعنا أمام تساؤل كبير ، ألا وهو ما الحلول التي فكر فيها البيزنطيون لوقف المد الإسلامي؟ . بمعنى آخر فيما كان يفكر البيزنطيون حال المد الإسلامي؟.
وكيف كانوا ينظرون إلى العرب ؟. هل كانوا ينظرون إلى العرب كما تتناقل كتب التاريخ على أنهم كانوا مجرد أمة من الرعاع لن يتمكنوا من الصمود أمام قوة البيزنطيين؟ ، أم أنهم كانوا يدركون أن دورة تاريخية لحضارتهم قد أوشكت على الانتهاء ، وقد تبدت النهاية وتبلورت في صراعات داخلية ، وثورات شعبية ، وتقاتل مذهبي جعل من نصارى الشرق أعداء ألداء للكنيسة الرومانية (الغربية) ؟. وهل كان القيصر يدرك أن دورة حضارية جديدة قد بدأت وأن أمة فتية بكرا قد خرجت لتوها من رحم الصحراء ، فكانت كالمارد الذي دمر قمقمه متعديا الحواجز والعقابيل،. لتقضي حضارتين نحبهما على يديها بعدما أصابتهما كساح الشيخوخة ، وظهرت عليهما علائم الموت والفناء ، وأصبحت البشرية في حاجة إلى حضارة جديدة ترفع عنها أصار الذل ، وتحطم قيود العبودية، وتدفع نير الاستبداد والاستعباد ، إنني لا أشك في أن الروم أدركوا طرفا من ذلك بواسطة ساستهم وفلاسفتهم ورجال الدين ، والواقع التاريخي أنذاك – ربما – يضع أيدينا على الكثير من ذلك.
ليست المواجهة بين الشرق والغرب مواجهة حديثة ، ولكنها بدأت من نحو ثلاثين قرنا ، عند غزو الاسكندر المقدوني بلاد المشرق مستوليا على بلاد الشام والشمال الإفريقي ثم جاء بعده الرومان البيزنطيين ، ثم دالت دولتهم وفتح العرب العالم الغربي محررين الإنسانية من عبادة الإنسان لأخيه الإنسان، واستمر الصراع بين المسلمين والفرنجة خلال القرون السابقة مرورا بالحروب الصليبية في العصور الوسطى والاستخراب العالمي في العصر الحديث ، وانتهاء بالحروب الصليبية الأمريكية التي يقودها اليمين المتطرف ، والذي يُعد جيش الرب (يسوع) الذي يعجل بنزول المسيح من السماء في مملكة بني إسرائيل
وفي خلال رحلة الاستخراب التي يقودها الصليب تعددت مذاهب الاستعمار وتنوعت طرائق الغزو بين غزو يغلب عليه الطابع العسكري الذي تشوبه ملامح الغزو الفكري الساذج ، وغزو فكري يقصد إلى تغير
هوية الأمة ، والقضاء على منظومتها الفكرية ونسقها القيمي،. وبذلك يتمكن من محو شخصيتها وانتزاع قسماتها العقلية والفكرية ،. فينحسم الخلاف لصالحه ، وتنتهي المعركة بالانهزام الساحق ، ولعل في تدمير كل ما يمت إلى تراث العراق بآصرة من أكبر الأدلة على وعي الاستخراب الأمريكي بأهدافه ‘ وصدق الله إذ قال : " {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }1
وكذب لقطاء السياسة في بلادنا إذ هيئوا الأجواء للشيطان الأكبر الذي جاء ليحرر العبيد من نير واستبداد الحكام.
إن الملاحظة الجديرة بالتأمل هي أن الغزو الفكري والاستخراب الغربي لم يفترقا منذ بدأت علاقة الحراب والعداء بين الشرق والغرب ، وإن غلب على الصراع العصور القديمة الجانب العسكري وصاحب ذلك فرض نموذج الحضارة الغربية على الشرق بعد أن يتم الغزو ، أما في العصور المتأخرة فإن الغزو الفكري والتبشيري أصبح الأساس الذي يسبق الضربة العسكرية الماحقة إذا تعثر المبشرون في تغيير هوية المجتمع ، ولعل الغرب أفاد من حروبه الطويلة مع الشرق تغير حدود ومعادلة الصراع حتى يحقق أعظم قدر من الانتصار على العالم الإسلامي ، ولعله وجد أن الأجدى والأنفع له أن يجعل الغزو الفكري المتسلح بالتخطيط الجهنمي الماكر ، واستعمال العملاء ساسة ومفكرين هو سلاحه الأول في محاربة العالم الإسلامي عموما ، والعالم العربي خصوصا ،. ولذا سنجد أن الغرب اعتنى بالعالم العربي عناية فائقة ، وخصه بمزيد من التخطيط والاعتناء.
بعدما توطدت أركان الإسلام في الجزيرة العربية، وبدت في الأفق الملامح السياسية لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة، هي مرحلة ما بعد صلح الحديبية ، حيث الاطمئنان على الدعوة من مناوشات قريش، وحيث أصبح المسلمون طرفا معترفا به في معادلة الصراع بين الحق والباطل، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشر الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية،
1-البقرة120
فأرسل رسله إلى ملوك وحكام الدول المجاورة، والإمارات العربية التي كانت تابعة يوم ذاك لهذه الدول الكبرى وفي هذه السنة الثامنة من الهجرة
بعث إلى الغساسنة وكانوا من العرب الضاربين على حدود بلاد الشام ( رسولا)* يدعوهم إلى الإسلام، فقتلوه، فأنفذ إليهم جيشا يتألف من ثلاثة آلاف بقيادة مولاه زيد بن حارثة فلقيته جموع هرقل إمبراطور الروم عند مؤتة وهي قرية من قرى البلقاء في حدود الشام"1 وقد استشهد في هذه الغزوة ثلاثة من أكابر الصحابة هم: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة.
ولم يأخذ حكام الروم الغاية من هذه الغزوة مأخذ الجد، ولم يكونوا يعتقدون أن زوال ملكهم في الشرق سيتحقق على أيدي المسلمين، الذين أرادوا بغزوة مؤتة تأديب الروم بسبب قتلهم رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحارث بن عمير الأزدي)، واستطلاع قوة وكفاءة جيش الرومان، ودراسة طبيعة الأرض التي سيخوضون عليها معاركهم، ومعرفة خصائص قوات الروم وأساليب قتالهم.
لقد كانت الروم تنظران إلى العرب بشيء من الاستخفاف والاستهانة، ولم يدر في خلدهم أن هزيمتهم يمكن أن تتحقق على يدي العرب التائهين في الصحراء.
ولم يكن العرب يمثلون بالنسبة لهم مشكلة، وكانوا يظنون أن عملاءهم من الغساسنة سوف يكفونهم أمر العرب.
ولم يكن التهديد المحدق بإمبراطورية الروم والمؤذن بزوالها متمثلا في المؤمنين المندفعين بقوة الإيمان كالسيل الجارف، لنشر الدعوة خارج حدود جزيرتهم، ولكن كانت هناك مشكلات داخلية مزمنة أدت إلى ضعف الرومان ، وجعلت إمبراطوريتهم مهددة بالتمزق والانهيار، بسبب التمرد الشعبي، والثورات الداخلية.
"
1- تاريخ الإسلام حسن إبراهيم دار الأندلس بيروت ج1 ص35
* هو الحارث بن عمير الأزدي قتله شرحبيل بن عمرو الغساني
فقد كان حكام الروم في أواخر أيامهم يعاملون الأهلين بالظلم ويسومونهم العذاب، فتأفف من جورهم أهالي البلاد التي كانت تحت سلطانهم،ومالوا إلى الخلاص من ربقة الذل والاستعباد وتغير الحال التي أصبحوا فيها على أي شكل كان"1 ولم يكن الروم وقد ضعف أمرهم، وكادت تدول دولتهم بحيث يتمكنون من دفع العرب عن بلادهم فخارت نفوسهم وداخلهم شيء من اليأس. فساعد هذا تلك الأمة الطموح ، مع ما عليه رجالها من الشجاعة وقوة الإيمان وعدم المبالاة بالموت على فتح الشام وفلسطين وغيرها من البلاد"2
ولم تكن شجاعة العرب المسلمين وقوة إيمانهم وحدهما السبب في انتصار المسلمين على الروم، ولكن موقف المسلمين الفاتحين من الدول التي زال منها حكم الرومان المستبدين كان له اكبر الأثر في سرعة اندحار الروم وزوال ملكهم، فلم يجبر المسلمون الفاتحون أهل البلاد المفتوحة على الدخول في الإسلام، ولم يتعرض هؤلاء إلى أي صورة من صور التضييق عند ممارسة شعائرهم ، كما لم تتعرض معابدهم وصوامعهم وكنائسهم للهدم والتخريب،. ولم "يشتط العرب في معاملة القبط بل عاملوهم بمنتهى الليونة، فخيروهم بين الإسلام والبقاء على دينهم: فمن أسلم منهم صار له ما للمسلمين وعليه ما عليهم من الواجبات، ومن بقي على دينه فرضت عليه جزية صغيرة مقدارها ديناران"2بعدما توطدت أركان الإسلام في الجزيرة العربية، وبدت في الأفق الملامح السياسية لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة، هي مرحلة ما بعد صلح الحديبية ، حيث الاطمئنان على الدعوة من مناوشات قريش، وحيث أصبح المسلمون طرفا معترفا به في معادلة الصراع بين الحق والباطل، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشر الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية، فأرسل رسله إلى ملوك وحكام الدول المجاورة، والإمارات العربية التي كانت تابعة يوم ذاك لهذه الدول الكبرى." وفي السنة الثامنة من الهجرة فأرسل رسله إلى ملوك وحكام الدول المجاورة، والإمارات العربية التي كانت تابعة يوم ذاك لهذه الدول الكبرى."3 ووصلت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى إمبراطور الروم
1- تاريخ الإسلام حسن إبراهيم حسن دار الأندلس بيروت ج1 ص223
2- تاريخ الإسلام حسن إبراهيم حسن دار الأندلس بيروت ج1 ص224
واستقبل رسالة النبي بالحفاوة والترحاب ،
بداية الدعوة إلى العامية ( ولهلم سبتيا )
1- دعا المستشرق الألماني (ولهلم سبتيا) الذي كان يشتغل في دار الكتب المصرية عام 1880م إلى استعمال اللهجة العامية في مصر بدلا من اللغة الفصيحة، وقد دفعته دوائر الاستشراق التي مثلت مقدمة الاستعمار الحديث إلى تأليف كتاب في قواعد العامية المصرية سمّاه(قواعد اللغة العامية في مصر)1.
على أننا نخطئ أشد الخطأ عندا نعتقد أن هذه البداية الحقيقة لعلاقة الاستشرق باللغة العربية، فقد سبق هذه الدعوة تخطيط طويل من دوائر الاستشراق توصلوا من خلاله إلى وجوب دراسة اللغة العربية، " بعد بروز الاتجاه الفكري في أروبا، والدعوة إلى حرب المسلمين ثقافيا، وبخاصة عقب الهزائم المتلاحقة التي حلت بهم وبخاصة إثر الحروب الصليبية"2.
" وقد دعا إلى هذا الاتجاه، وفي فترة مبكرة، رئيس دير كلوني clunyالمعروف باسم بطرس المبجل petrus venerabilis الذي تبنى فكرة ترجمة القرآن للمرة الأولى، فترجمه الإنجليزي روبرت كتون Robert ketton إلى اللاتينية سنة 1143م. وكانت هذه التجربة أول استثمار جاد للغة العربية.
وقد كان ذلك جزء من مخطط عام يدعو إلى تنصيير المسلمين من خلال تشكيكهم في معتقداتهم، أي بالوسائل الثقافية بدلا من قوة السلاح".3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الدكتور محسن عبد الحميد "اللغة العربية بين شعوبيتين" ص9 مكتبة القدس بيروت/ بغداد 1977م.
2- الدكتور إسماعيل عمايرة " بحوث في الاستشراق واللغة"ص408 دار وائل عمان 2002م
3- المرجع السابق ص 409
على أن الاتجاه إلى الغزو الثقافي كان مسبوقا باتجاه آخر هو الاتجاه العسكري الذي لم يتح للأوربيين وقتا لتعلم اللغة العربية كما ذهب إلى ذلك الدكتور إسماعيل احمد عمايرة المختص في شؤون الاستشراق، وكانوا يرون " أن الحل الأمثل للتعامل مع المسلمين هو القضاء عليهم عسكريا، فإذا كان هذا هو الحل فلا داعي، إذن، لإضاعة الوقت في تعلم لغة القوم وأفكارهم، ففي هذا مضيعة للوقت، وقد أعرب عن هذا الهدف " رامون لولRAMON LULL " إثر سقوط عكا في أيدى المسلمين عام 1291م"1.
قال " لول" فيما أورده عنه "سوذرن": " إذا عاد المبتدعون (النساطرة) عن بدعتهم، واعتنق التتار المسيحية فيمكن القضاء بسهولة على السرازنيين.(نسبة إلى سارة زوجة إبراهيم عليه السلام)2.
النساطرة هي جماعة اعتنقت العقيدة" النسطورية في القرن الخامس الميلادي التي قال بها نسطوريوس بطريرك القسطنطينية، حين اعترض على تسمية مريم العذراء بوالدة الإله ، على أنها ولدت فقط الإنسان الذي اتحد مع الأقنوم الثاني اتحادا مجازيا لاحقيقيا فصار بمنزلة الابن فعارضه كيرلس بطريرك الإسكندرية ويوحنا بطريرك أنطاكيا وانعقد بسبب ذلك مجمع أفسس عام 431 م وقرر لعنه وطرده وإثبات أن للمسيح طبيعتين إلهية وإنسانية متحدتين في أقنوم واحد وقوام إلهي واحد ولذا نفى نسطوريس وأقام في مصر ببلدة أخميم "3 (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب)ج2ص1161
ولاشك أن هذا يعبر في يعبر عن وجود أزمة روحية وعقدية في الفكر الديني المسيحي ، ولعل ذلك يرجع بصورة أساسية إلى العامل اللغوي ، حيث تنزل الكتاب المقدس بلغة ، وكتب بلغة أخرى، وحتى لو كتب بنفس اللغة التي نزل بها فإن العبرية والآرامية كلتيهما قد مرتا بكثير من التطورات التي أماتت هذه اللغات ومنحتها خصائص جعلتها مختلفة عن اللغة الأصلية
ويعلق عمايرة على هذا الكلام بقوله:" ولاشك أن هذا الاتجاه العسكري يمثل خطوة متقدمة نحو ظهور الحركة الاستعمارية الأوربية التي تحولت فيما بعد إلى توجه هجومي وقد كانت في العصور الوسطى ذات أهداف دفاعية، وقد واصل هذا الاتجاه طريقه، حين تجسد في صورته الاستعمارية، والتقى مع الاتجاهات الأخرى في نظرتها إلى حل "المشكلة الإسلامية" في نظر الغرب. وقد أصبح كل اتجاه من هذه الاتجاهات يعرف دوره وموقعه من الاتجاهات الأخرى، إذ كلها تسعى نحو هدف مشترك"3.
فالغرب، إذن، فكر في الكثير من الحلول للمشكلة الإسلامية، أو في الإسلام الذي مثل له مشكلة، وفكر جادا في القضاء على الإسلام بكل الوسائل، ولم يأل جهدا في التحايل ما وسعته الحلية في ذلك، ومن غير المنطقي ألا يفكر في اللغة العربية كوسيلة للقضاء على الإسلام، إلى جانب الوسائل الأخرى، وقد أفاد الغرب من تجربته مع الكتاب المقدس بعدما تصدعت وحدتهم في القرن السادس عشر بسبب اختلافهم في "صحة النصوص التي تتشبث بها الكنيسة "الكاثوليكية" بعد ثورة "البروتستانت" بزعامة" مارتن لوثر" الإصلاحية وقد تعين عليهم الرجوع إلى اللغات الأصلية التي تنزلت بها "التوراة" وهي "العبرية" و"الآرامية"، وهي اللغات التي أسموها اللغات السامية، وهي أخوات للغة العربية، ولكن الآرامية والعبرية كانتا قد اندثرت، فألزمهم ذلك الاستعانة بالعربية، لأنها تحمل الكثير من خصائص أخواتها، بل إنها أصل اللغات السامية، وفي تصوري أن هذا الحدث هو الذي ألهمهم الحيلة الشيطانية في القضاء على الفصحى للقضاء على الإسلام، فكما أن ابتعاد كتابهم المقدس عن اللغة التي تنزل بها أوقعهم في الاختلاف والتمزق، فكذلك يجب أن نبعد القرآن عن الفصحى التي تنزل بها فيحدث للعرب ما حدث لنا ومن هنا كان الدعوة إلى العامية، واصطناع لغات جديدة من اللهجات العامية، وبذلك تتفرق العرب شذر مذر كما يقول الأستاذ العقاد في معرض رده على اقتراح عبد العزيز فهمي بكتابة العربية بأحرف لاتينية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1--المرجع السابق ص407.
2--المرجع السابق ص408.
3- المرجع السابق ص408
فدعوة "ولهلم سبتيا" لم تكن كما يبدو لنا فكرة فاجأت عقل الرجل، فاقترحها علينا، ولم يكن هو أول من فكر فيها، وإنما للفكرة بعد تاريخي ضارب أطنابه في تربة الاستشراق، جاءت بعد تدبير وكيد مستمرين من العصور الوسطى، والتقى هذا الكيد الفكري مع التدبير العسكري، فكان ظهيرا له على اقتحام العالم الإسلامي، " وإعادة صياغته على النمط والنموذج الغربي"1.
وكان ــ كذلك ــ لتجربة الغرب في تحول لهجاتهم المحلية إلى لغات، وتحول اللغة الأم(اللاتينية)إلى لغة متحفية ميتة، وانقطاع صلتهم بتراثهم، إلا بواسطة اللغة العربية التي ترجمت هذا التراث في قرون الظلام في الغرب دور كبير في تنبيه أذهانهم إلى مسألتين مهمتين نتجتا عن موت اللغة الأم، ومثلتا في الوقت ذاته الجذر التاريخي للواقع الغربي آنذاك.
المسألة الأولى: الصراع الكنسي فيما عرف بعصر الإصلاح، وما نتج عنه من انقسام في الفكر الكنسي المسيحي، وربما يكون في ذلك ما يبرر اهتمام الغرب بالفرق الإسلامية، وتأجيج في نار العداء بين السنة والشيعة على وجه خاص، ثم التشكيك في الإسلام من خلال هذا التفرق، ومن ثَم طرح السؤال المغرض: بأي إسلام نؤمن؟!! إسلام الشيعة أم إسلام السنة؟!
المسألة الثانية التي نتجت عن موت اللغة اللاتينية المد القومي الذي نتج عن انقسام الغرب إلى دول لغوية، فأدرك الغرب من ذلك أهمية اللغة في توحيد الأمم، فعامل اللغة ــ في رأي ــ يأتي في المرتبة الثانية بعد العقيدة الدينية وقبل عوامل التوحيد الأخرى بالنسبة للأمم والشعوب، فكم من شعب لم تربطه وشائج الدم والقرابة بأمة العرب يعتبر نفسه أخا للعربي في قلب الجزيرة*، وكم من عربي الدم والأصل أصبح غريبا برطانة اكتسبها من هنا أو هناك، وصدق رسولنا الكريم الذي كانت تمزق له سدف الغيب فكان يخبر وكأنه يرى حين قال:"ليست العربية بأم ولا أب ولكن العربية اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي".
وكذلك كان من العوامل التي ساعدت الغربيين على إحكام خطتهم تقدم الدراسات اللغوية، ومعرفة الكثير من أسرار اللغة، وأهميتها التاريخية، ومعرفة الأسر اللغوية بصورة شبه دقيقة، وتقدم طرق التحليل اللغوي، وإدراك العلاقة بين اللغة كأداة وبين الفكر والثقافة كمضمون لهذه الأداة، ودور كل منهما في التأثير على الآخر، ومعرفتهم أن اللغة الأداة(الوعاء) إذا خُرقت بصورة ما، أو أفرغت من محتواها الثقافي والفكري لأمكننا قطع علاقة أصحاب اللغة بهذا المحتوى الفكري والثقافي. وكذلك، إنشاء دوائر لدراسة اللغة العربية بعد مؤتمر فيينا الذي انعقد سنة1312م،
"والذي أوصى أن تدرّس العربية في كبرى المراكز العلمية الأوربية:باريس وأكسفورد وبولونيا وأفينون وسلامنكا وتعد هذه المحاولة بداية الاهتمام باللغة العربية رسميا".1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المرجع السابق ص414
وكان إرهاصا مبكرا للاستشراق الرسمي المدعوم من الحكومات الغربية، والذي سار في دراسة اللغة من خلال خطط ومناهج مدروسة الوسائل، ومحددة الأهداف، ولكنه لم يؤت ثماره إلا قبل استعمارنا بقرن من الزمان على وجه التقريب، حيث بدأت الدراسة الفعلية للغة العربية، حتى إن النهضة الحقيقية لكتب التراث بدأت على أيدي المستشرقين، ولاتزال مخطوطات التراث العربي تضج بها مكتبات الغرب، وقد قدر بعض المحققين هذه المخطوطات بعشرين مليون مخطوطة.
ولما كان هدف الغرب حل ما أسموه المشكلة الإسلامية، وكانت اللغة هي الأادة والوعاء الذي يحمل الثقافة والفكر الإسلامي، فكان لابد من كسر هذه الأداة، وخرق هذا الوعاء وإفراغه من محتواه الثقافي والفكري. وقد تعددت وسائل الغرب في سبيلهم لتحقيق هذا الهدف، والوصول إلى هذه الغاية، فكانت هناك الوسيلة العسكرية ــ كما أسلفت ــ والسياسية والاقتصادية، واستعمال العملاء وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره في هذا البحث الموجز لأننا خصصناه للطريقة التي كاد بها الغرب لغتنا وأداة تفكيرنا، ووعاء ثقافتنا.
إذن كانت اللغة العربية إحدى وسائل الغرب المفترضة لديهم لحل المشكلة الإسلامية، ولاشك أن وضع الأحداث في سياقها الزمني والتاريخي يمنحنا قدرة أفضل على فهمها، كما يعطينا فرصا أفضل على تفسيرها تفسيرا موضوعيا، لا مجال فيه للشطط أو التكلف. فما الوسائل المفترضة التي وضعها الغرب للقضاء على اللغة، لاشك ــ عندي ــ أن الغرب فكر في وسيلة من الوسائل التالية للقضاء على اللغة العربية:
• إدعاء صعوبة العربية الفصيحة ــ أولا ــ، واستحالة تعلمها، وسوف نبين أسباب هذه الدعوى عند تفسيرنا له في سياقه لدى ولهلم.
• التشكيك في قدرة هذه اللغة على احتواء العلم الحديث باصطلاحاته الكثيرة المتعددة.
• الدعوة إلى إحلال اللهجات محل اللغة الفصيحة، لقربها إلى الناس، وسهولة التحدث بها.
• إدعاء صعوبة الخط العربي وعدم قدرته على تمثيل الأصوات العربية تمثيلا صحيحا، متذرعين ببعض الأصوات التي لا تنطق نتيجة التفاعل الحادث بين الأصوات المتجاورة كالألف الفارقة واو عمرو، أو نطق بعض الأحرف التي لا أثر للتمثيل الخطي لها، كألف:هذا، وهذه والرحمن وغيرها من الكلمات، وسوف نناقش كل ذلك في سياقه من البحث إن شاء الله.
• الدعوة إلى إحلال الحرف اللاتينية محل الحرف العربية لقدرتها على تمثيل الأصوات بصورة أفضل من الحرف العربية، ليتم لهم بذلك الفصل بين اللغة ومن يتحدث بها من ناحية، وقطع صلة المتحدثين باللغة عن دينهم وتراثهم من ناحية ثانية، وبذلك يتم لهم التخلص من الوعاء القديم بمحتواه الفكري والديني، ويكون المسلمون قد دخلوا في النصرانية من حيث لا يشعرون، وتكون المشكلة الإسلامية بالنسبة للغربي قد حُلت بصورة نهائية.
ولعلك تلاحظ بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الخطة الخماسية الأبعاد تعتمد على التدرج من القضية التي يمكن تقبلها من أهل اللغة إلى القضايا التي يستبعد قبولها، لأنها تمس الدين والعقيدة بصورة مباشرة، فقد بدأوا بالتشكيك في قدرة الناس على تعلم اللغة، حتى تبدوا القضية وكأنها متعلقة بأصحاب اللغة، فليس في اللغة عيب سوى أنها لغة صعبة، وأنها في حاجة إلى نبي ليحيط، كما قال إمامكم الشافعي، وبنوا على هذه المقدمة اقترح التحدث بالعامية وهو اقتراح مخادع قائم على جهل الناس ــ آنذاك ــ وعدم قدرتهم على التفريق بين اللغة كأداة واللغة كموضوع، وهذا أقرب إلى القبول من اقتراح الحرف اللاتينية للكتابة من أو المعركة التي تُخاض باللغة العربية على أرض العرب المستضعفين من قبل المستعمر القوي، فإذا تم لهم ذلك، ونسي الناس قرآنهم وثقافتهم، وأصبحوا في حاجة إلى من يترجم لهم القرآن والحديث من الفصحى التي ماتت إلى العامية التي يتحدثونها، أصبح من اليسير عليهم أن يقبلوا بعد ذلك الكتابة بلغة العلم ( أحرف اللاتينية)، وهاهي تجربة أتاتورك أمامكم. ولكن إياكم أن تفروا في تجربة أبناء القردة الذين احيوا لغتهم بعد غياب أربعة ألاف عام من الاندثار والموات، لتصبح لغة العلم في جامعات تل أبيب، على الرغم من أنها أخت للغة العربية، وفرع من أفرع السامية، غير أن العربية أكثرها نضجا وسعة وصلة بالحياة وأقدرها تعبيرا عن الدين والحياة معا.
ولقد أثار ولهلم عددا من القضايا في هذا الكتاب تدل دلالة لا تدع مجالا للشك في أن هذا الكتاب لم توح به فكرة طارئة، أو خاطرة عابرة، وإنما هو نتاج استفراغ جهد عدد كبير من المستشرقين، وليس ولهلم إلا واجهة لهذا الدس الخفي، وكانت القضية الأولى التي أثارها لتتفق مع خطتهم المحكمة هي إثارة قضية صعوبة الفصحى واقتراح الحلول المناسبة لها، فقد أعددنا كل شيء.
ولعلها أخطر قضية أثارها حيث يقول:" ففي مثل تلك الظروف لايمكن مطلقا التفكير في ثقافة شعبية، إذا كيف يمكن في فترة التعليم الابتدائي القصير أن يحصل المرء حتى على نصف معرفة بلغة صعبة جدا كاللغة العربية الفصحى"1.
لقد ترك هذا الادعاء ندوبا جسيمة في نفوس متعلمي العربية، والمقبلين على تعلمها، بعدما سرت هذه الشائعة في الناس مسرى النار في الهشيم، ولاتزال آثارها تحدث فينا أثرها إلى يومنا هذا، ولا نزال نتلقى السؤال الذي مللناه من كثرة تكراره، وصعوبة الجواب عليه لأطفال في سن الزهور، اغتالت الإشاعة عقولهم البريئة، وأغلقتها أمام اللغة العربية وقواعدها، هذا السؤال المطروح في كل البلاد التي درسّت فيها هو: ليش ندرس القواعد؟ لم ندرس القواعد، في حين يقبل الطفل العربي على تعلم اللغة الإنجليزية التي لا تقل صعوبة عن العربية بنفس راضية وقلب مطمئن لكثرة المسوغات التي تدفعه إلى تعلمها في البيت وفي المدرسة وفي سفراته التي يلهو فيها في بلاد الفرنجة،وفي أماكن العمل التي يعمل فيها والده، فقد ارتبطت بمصدر الرزق والسعة، وفي عيادة الطبيب الذي يكتب له الوصفة الطبية باللغة الإنجليزية، وفي الجامعة حيث العلم يُلقن بهذه اللغة الحية، وفي واجهة المحلات حيث تباع الوجبات الساخنة والباردة، والملابس المستوردة.
أما العربية فقد ارتبطت في ذهنه برجل الدين الذي يخيفه من النار، ويدعو إلى الإسلام وهو متجهم الوجه، وبخطبة الجمعة حيث الخطباء مملون في كثير من الأحيان، وبالمعارك اللفظية التي لا يتقن العرب غيرها، وبالتخلف العلمي، فالطفل لا يقرأ بالعربية صنع في مصر أو السعودية، ولكنه يقرأ MAD IN ENGLAND بل إن ما يصنع في عالمنا العربي يكتب عليه MAD IN EGYPT ولا نكتب عليه صنع في مصر، ثم هي لغة الأفلام والأغاني والتمثيليات بل والنشرات العامية، ذات اللغة المبتذلة. ومعلم اللغة العربية هو المعلم الوحيد الذي ينظر إليه في أدبياتنا نظرة الازدراء والتحقير، والامتهان والاستهانة، وكذلك مُحفظ القرآن الكريم (سيدنا، أعمى البصر والبصيرة)، كما وصفه عميد الأدب في( قصة الأيام) خير شاهد على ذلك. وفي ما جاء بعدها من أعمال درامية مرئية، وقصص أدبي مكتوب.
وهو في الواقع أسوأ منه في الدراما ‘ فهو بالقياس لغيره ــ في زمن التكالب على المادة، واكتناز الأموال ــ رقيق الحال، ضيق الرزق، سيء المظهر والمنظر، ولقد كان من أهداف الإنجليز الكبرى زمن احتلال مصر أن يكون راتب معلم العربية أقل الرواتب، وحصصه آخر الحصص، ويتخيرونه إلا كبير السن، تظهر عليه أمارات العجز والضعف، وكأنه خارج لتوه من قبر، لترتبط العربية في أذهان النشء بالفاقة والفقر والعجز بل الموت، ولهذا لا يُقبِل على دراسة اللغة إلا المضطر، والذين لم تؤهلهم درجاتهم لكليات القمة، ولَعمري إن دراسة اللغة في حاجة إلى أذكى الطلاب عقلا، وأنبلهم نفسا، وأرقاهم ذوقا، ولن ينجح في دراسة اللغة ذووا العاهات، فضلا عن تدريسها، فليس دارس اللغة المتمرس أقل شأنا من دارس الطب والعلوم الأخرى. نعم لقد عملت هذه الدعوى عملها عندما جعلتنا نتعامل مع لغتنا من خلال مركب النقص، والتعامل معها باستهانة وسخرية، بل باستخزاء. ثم يجزم باستحالة إبداع" ثقافة شعبية"( يقصد مصرية) بمثل هذه اللغة العربية الفصحى التي لا تحمل قسمات وملامح الأمة المصرية، وروح الفكاهة والدعابة التي يتسم بها المصر من كثرة ما تعرض له من أزمات جعلته يهزأ بالمصاعب، ويبسم في وجه الأهوال، ولكن فأل ذلك الدعي قد خاب، فإن الأدباء الذين أثروا الأدب العربي المصري في هذا القرن هم الذين حملوا لواءه، وقادوا ركبه، وردوا إليه شبابه، حتى إن ربيبهم الذي تابع وتأثرا بالمستشرقين في أغلب ما قالوا(طه حسين) قال:" إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا معرفة لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضا". إن أجيال الأدباء الذين تتابعوا في القرن العشرين، والذين لم يتخل أحد منهم عن اللغة العربية الفصيحة كانوا خير دليل على زيف الدعوى التي إدعاها ولهلم ومن تابعه من أذناب الغرب، والمضبوعين بفكرهم، بل إن أكثر الناس عداء للعربية والإسلام في، وأكثرهم ترويجا للعامية في بداية القرن الماضي (سلامة موسى) لم يكتب في حياته جملة باللغة الدارجة أو العامية، حتى ما كان منه دعوة إلى الدارجة المصرية.
ولله در الشاعر حين قال:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها *** بينات فأبناؤهــــا أدعيــــا
"ثم يواصل كلامه في خبث واضح"وطريقة الكتابة العقيمة أي بحروف الهجاء المعقدة يقع عليها بالطبع أكبر قسط من اللوم في هذا، ومع ذلك فكم يكون الأمر سهلا لو أتيح للطالب أن يكتب بلغة، إن لم تكن هي لغة الحديث الشائعة، فهي على كل حال ليست العربية الكلاسيكية القديمة، بدلا من أن يجبر على الكتابة بلغة هي من الغرابة بالنسبة إلى الجيل الحالي من المصريين، مثل غرابة اللاتينية بالنسبة إلى الإيطاليين، وبالتزام الكتابة العربية الكلاسيكية لايمكن أن ينمو أدب حقيقي ويتطور"2.
ثم يكمل ولهلم تفاصيل حطته الخبيثة في النص السابق، فهو يعرض اقتراح التحدث باللهجة المصرية العامية أو الشائعة أي السهلة الميسرة
هكذا بدأت الدعوة إلى العامية، أو الدعوة إلى هجر الفصحى واصطناع لغة أخرى جديدة كما اصطنع الغربيون لغاتهم من اللغة الأم، وهجروها بعد ذلك فأصبحت في طي النسيان، إنها التجربة المستفادة من الواقع الأوربي، فاللغة العربية يجب أن تموت كما ماتت اللاتينية، والعرب يجب أن يتفرقوا إلى قوميات مختلفة كما تفرقت أوربا، وصلتهم بالتراث يجب أن تنبت كما انبتت علاقة الغرب بأرسطو وجالينوس، إنها التجربة عينها يستلهما الغرب في حربهم لنا، وإذا كانوا هم من التعقل بحيث يصطنعون من جديد" دول الاتحاد الأوربي" حتى إن الرجل في سويسرا يتناول عشاءه في أقرب مدينة فرنسية، ويؤدي له رجل الحدود التحية في احترام وتقدير، وإن الخليلة الفرنسية تقضي إجازة نهاية الأسبوع في حضن صديقها في بريطانيا دون حاجة إلى جواز سفر أو إقامة. بينما العربي على حدود بلده مستعد لأن يوقف عمر بن الخطاب ليسأله عن تأشيرة الدخول، وإذا تعسس ليلا ليتفقد أحوال الرعية فسوف يسأل عن بطاقة الإقامة، وسبب إطلاق اللحية.
إن الألم ليعتصر الفؤاد على أيام المسلمين الخوالي يوم كان المسلم يخرج من الرباط ليصل إلى جاكرتا فلا يوقفه أحد على الحدود، وأدب الرحلات الذي ابتدعه العرب خير شاهد على ما أقول.وأستميحكم العذر على هذا الاستطراد.
ودعوني أناقش ولهلم في عبارته السابقة نقاشا علميا متكئا على ما توصل إليه الغرب من حقائق لغوية تمثل قاسما مشتركا بين كل لغات الدنيا، وأول هذه الحقائق يقرر أن هناك فارقا بين اللغة كأداة، وبين نفس اللغة كموضوع، فاللغة كأداة ملك لكل المتحدثين بها، ولا يشترط أن يكون المتحدث عالما بقواعد اللغة أصواتها وصرفها ونحوها وبلاغتها، وإنما يتحدث بها اكتسابا من البيئة، وتقليدا تلقائيا لما سمعه من المحيط الذي نشأ فيه، وهذا لايعني أنه يجهل قواعد اللغة، وإنما يعني عدم قرته على صياغة قواعد اللغة صياغة اصطلاحية، ولو كان يجهل قواعد اللغة لما أمكنه ذلك من التحدث بها، وما مثله في ذلك إلا كمثل الذي أمسك مقود السيارة وانطلق بها يجوب شوارع مدينة جدة، ولكن عندما تسأله عن قواعد السواقة قد لا يتمكن من صياغة هذه القواعد بصورة مرضية، لأن ممارسة السواقة هو عين القاعدة، وممارسة الكلام هوهو القاعدة، فنحن حقا نعرف من قواعد اللغة أضعاف ما استنبطه النحاة، وسجلوه في كتبهم. ولهذا فنحن نتحدث دون وعي بقواعد اللغة، ولو طلب من الطفل أن يتأمل قواعد اللغة ــ أية لغة ــ وهو يتعلمها، لاستحال عليه تعلمها، ونحن جميعا دون أن ندري متساوون في استيعاب اللغة كأداة، لأننا نتحدث بها بنفس بدرجات متقاربة من الإتقان، ويفهم بعضنا بعضا دون عناء أو مشقة، وإذا فرض أن العامية المصرية تحولت إلى لغة فإننا سنكون في حاجة بعد ذلك إلى معرفة قواعدها المتعلقة بالأصوات والكلمات، والجمل، ولا مندوحة لنا عن ذلك، وسوف نعلّم هذه القواعد للأجيال التالية حتى نحافظ على الحد الأدنى من التفاهم المعتمد على هذه اللغة، وسوف ينشأ عن هذه اللغة الجديدة لهجات وسوف تتحول هذه اللهجات إلى لغات جديدة إذا تعاملنا معها بهذا المنطق غير اللغوي، وبذلك ستدور الأجيال في دوائر مغلقة، وستتقطع وشائج الاتصال بين الأجيال السابقة واللاحقة، ولن يحدث التراكم العلمي الذي جعل أوربا اليوم على قمة العالم بسبب هذا التراكم الذي حدث بالاتصال اللغوي بين الأجيال، ولن يكون هناك أدنى فرق بين الحيوانات التي لم تتمكن من بناء حضارة لعدم امتلاك لغة تنقل الخبرات من جيل إلى جيل، وبين الإنسان، لأنه يبدد جهود السابقين بالقضاء على لغته التي تحمل لنا خبراتهم التي نبني عيها، ويخطئ من يعتقد أن هناك لغة بلا قواعد، حتى لغة الاسبرانتو المصطنعة من مفردات الرومانية والألمانية تشتمل على العديد من القواعد، ولغة (الهُوا) التي استحدثت بقرية نائية من جنوة الجديدة من قبل أناس حجريين لم يتصلوا بالعالم الجديد من قبل إلا منذ عقود وصف( جون هايمن) قواعدها في مئات الصفحات.
واللغة العربية لغة طبيعية ككل لغات الدنيا لها مستويات تعبير، ولهجات مختلفة، وعدد لهجات الإنجليزية الأمريكية أكثر من مئة وأربعين لهجة، وكل اللغات الطبيعية التي نشأت في بلاد الدنيا لها لهجات أكثر بكثير من لهجات العربية، فما الذي جعل العربية غريبة غرابة اللاتينية، ألم ينفخ ثلاثة ملايين يهودي الروح في لغة منبتة لتصبح لغة علم وأدب وحياة في إسرائيل اللقيطة، وأصبح اليهودي المستجلب من الصومال يجد في تعلمها ليكتسب بها الهوية اليهودية. وما الذي جعل اللغة العربية غريبة عن أهلها؟!! . ومن أين اكتسبت الوحشية، والبداوة؟ وهل في اللغة عيب يمنعها من التواصل مع الحياة: قضاءًا للمصالح الاجتماعية، وتحملا لأعباء المصطلح العلمي، وتعبيرا عن المشاعر والعواطف التي يصوغ بها الأدب وجدان الأمة، ويصفي ذوقها من غرائز البهيمية، وعنفوان البداوة، وجلافة الثورة الصناعية التي لم تفلح في ترويض الغول الذي يسكن في ضمير الإنسان الغربي؟!. إن الذين يصمون اللغة بالغرابة والانقطاع عن الحياة ــ أية لغة ــ ليسوا منصفين ولا موضوعيين، قد يكونون عالمين بالمفاهيم التي تقررها المعرفة اللغوية، ولكن الأهواء والأغراض الخبيئة تجلعهم يتغاضَون عما تقرره علوم اللغة، إن اللغة في أعدل تعريفاتها مجموعة من الأصوات ارتضتها الجماعة اللغوية للتعبير عن مصالحها، لتصبح اللغة مستودعا تحفظ فيه الأمة كل منجزاتها في مختلف مناحي الحياة، في العلم والأدب والتاريخ، ولتكون مرآة ينعكس عليها كل ما يلم بالأمة من تطور علمى ورقي حضاري، فاللغة أداة ووسيلة لحفظ حياة الأمم في مختلف صورها، فإذا كانت الأمة متخلفة، وغير قادرة على إنشاء وقائع جديدة، واستحداث فنون، وابتكار معارف ومعاني فإن اللغة ــ من غير شك ــ ستقف عند المستوى الذي وقفت عنده الأمة، ولن تتمكن من التقدم خطوة واحدة.
إن اللغة ــ بصرف النظر عن وظيفتها، وعلاقاتها الخاصة الحضارية ــ مجموعة من الرموز والعلامات، وكل علامة أو رمز يدل على شيء في الواقع، حتى في الرياضيات البحتة التي تمثل عالما مغلقا من الرموز المجردة، تشير رموزها إلى متغيرات تكون قابلة للتطبيق على أشياء هذا العالم، أو على أقل تقدير الإشارة إلى هذه الأشياء.
وإذا كانت اللغة رموزا فلابد أن تدل على أشياء وإلا فلن يكون لها أي مضمون أو معنى، وسنكون كمن يذهب إلى السجل المدني ليسجل اسما لطفل لا وجود له، إن علم الطبيعة هو عالم من الرموز، وكذلك الطب والهندسة والزراعة، فإذا كانت هذه العلوم غير موجودة أصلا فكيف تعكس اللغة وجود ها؟؟!!!.
إن الذين يحمِّلون اللغة مسؤولية تخلف الأمم واحد من اثنين:جاهل أو حاقد، واللغة العربية لها تجربتها الفريدة ــ التي قطعت بها جهيزة قول كل خطيب ــ في مجال العلوم والتقنية على وجه الخصوص، ولاتزال المعاجم العلمية كمفردات الأدوية لابن البيطار، وغيره من معجم خلق الإنسان والحشرات والحيوان، وتحملت العربية عبء الحركة العلمية في العصور الوسطى ــ عندما كانت أوربا غارقة في ظلمات الجهل ــ بغير ولم يتضح أنها عجزت في ذلك أو توانت، ولايزال فن الترجمة مدينا في منهجيه الوحيدين: الترجمة الحرفية وترجمة المعنى إلى الحركة العلمية التي نشأت في العصر العباسي، فالعربية أثبتت جدارتها وقدرتها كلغة للعلوم والتقنية، فهل يحق لولهلم الدعي أن يصف عربيتنا بالغرابة، والعجز عن تحمل تبعات الإبداع، وتجريد العلوم في مصطلحات.
ويتبع الأذناب من بني جلدتنا ولهلم الدعي في إلصاق هذه التهمة باللغة العربية بغباء يدعو إلى الشفقة والرثاء، غاضين الطرف عن الأسباب الح