خليفة التليسي في ذمة الله
مؤلم جدا فراق من نحب، وقاس جدا رحيل الفرسان، وبقدر ما كان الفارس نبيلا بقدر ما كان الرزء كبيرا، وبقدر ما كان عمق الجرح الذي تتركه الفاجعة في القلب، ولست أدري لماذا ارتبط خليفة التليسي، رحمه الله، في ذاكرتي ووجداني بصفة "الفارس"، بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات في لغتنا العربية، وعندما بلغني نعيه، هنا في غربتي النيويوركية، قفز إلى ذهني فجأة بيت من الشعر القديم، أظنه لذي الرمة، يقول:
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا
فقلت: أعبد الله ذلكم الردى
أغمضت عيني قليلا، وقد أغرورقتا بالدمع، وعاد بي شريط الذكريات إلى "طرابلس" في أوائل ستينيات القرن الماضي، ورأيت نفسي فتى غض الإهاب أقرأ كتابا في زاوية بمكتبة "الحكومة"، التي صارت تعرف فيما بعد بمكتبة "مصطفى قدري معروف"، والواقعة خلف مبنى مدرسة "الفنون والصنائع"، وكان يديرها آنذاك والدي المرحوم الأستاذ إسماعيل السويح، وكنت ألمح عن بعد، في الطرف الآخر من المنضدة، شابا ذا قسمات جادة وملامح صارمة، بعث في نفسي إحساسا بالمهابة والاحترام في آن معا، وكان يقرأ باستغراق ويسجل ملاحظات على ورقة جانبية. ودفعني فضولي أن أقترب منه على استحياء لتحيته، ويبدو أنني قطعت عليه استغراقه، لكنه رد تحيتي بأجمل منها، وعلت محياه ابتسامة عذبة بددت صرامة ملامحه، ثم عاد إلى ما كان فيه. وتكرر المشهد، وعرفت من والدي، رحمه الله، فيما بعد أن ذلك الشاب الباحث هو الأستاذ خليفة التليسي، وأنه كان يطلب الكتب الايطالية، وكانت تلك المكتبة غنية بها، وأنه كان يهتم على وجه الخصوص بتلك التي تناولت تاريخ ليبيا، ويجتهد كل الاجتهاد في فهم اللغة الايطالية التي تعلمها بجهوده الذاتية.
ولقد سعدت فيما بعد بالتعرف على الأستاذ خليفة التليسي عن قرب، وقرأت له كثيرا، وكان أول ما قرأت له دراسته الرائدة عن أبي القاسم الشابي، ولقد كان في كل المرات التي حظيت فيها بلقائه، وخاصة في مكتبه بدار الكتاب العربي، هاشا باشا ودودا كريما، وكان - على اعتداده بنفسه – يفرح كطفل صغير بالكلمة الطيبة، ويستجيب للدعابة الجملية، ولا يضيق صدره إلا إذا أحس بالجحود أو الإنكار، أو وقع عليه شي من الظلم أو المهانة، وعندئذ يغضب غضبه مضريه، قد تتحول لاحقا إلى قصيدة رائعة، كتلك التي ولدت من وحي معاملة سيئة في مطار عربي، ومطلعها:
قد كنت أحسبه يصون مواهبا
فوجدته للنابغين محاربا
خليفة التليسي، شأنه شأن مجا يليه من فرسان الكلمة في بلادنا، أمثال الأستاذ علي مصطفى المصراتي أمد الله في عمره، كان غزير العطاء دون أن يتقوقع داخل دائرة تخصص ضيقة، وقد عالج النقد الأدبي، وكتب المقالة والقصيدة، كما استهواه تاريخ ليبيا ترجمة وتوثيقا، وكانت له اجتهاداته المعجمية وتراجمه الأدبية الجميلة لطاغور ولوركا، وروائع الأدب الإيطالي، وإليه يعود الفضل في تعريف كثيرين من أبناء جيلي بجماليات الأدب الايطالي، وخاصة من خلال ترجمته المتميزة للروائي الايطالي الكبير لويدجي بيرانديلو، واعترف بأنني تعلمت من الأستاذ خليفة التليسي كيف أرسم خطا فاصلا بين الإبداع الأدبي الرائع للغة الايطالية وبين الصورة الاستعمارية لايطاليا التي كانت تحول أحيانا بين أبناء جيلي وبين رؤية الإبعاد الإنسانية العميقة التي يزخر بها أدب تلك اللغة.
ولقد كانت للأستاذ خليفة التليسي نظرات نقدية موفقة في الآداب الغربية تضمنها كتابه القيم "كراسات أدبية"، وكان أيضا صاحب مختارات جميلة من الشعر العربي، قديمه وحديثه، ورؤية متميزة لمفهوم قصيدة "البيت الواحد"، أو ما كان يطلق عليه القدامى "بيت القصيد" ، أي البيت الذي يحمل شحنة هائلة من الجمالية الشعرية المكثفة.
كانت أول صورة اختزنتها ذاكرتي لخليفة التليسي حيي رأيته في المكتبة، وكانت آخر صورة اختزنتها له في مطار طرابلس منذ سنوات قليلة..كنت أتأهب للسفر إلى نيويورك، وكان – فيما أذكر – ذاهبا إلى تونس..تجاذبنا أطراف الحديث عن نيويورك والأمم المتحدة، وانتهينا بالحديث عن الشعر وجمالية البيت الواحد..ذكرت له بيتا للمتنبي عابه عليه النقاد القدامى، وهو قوله:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا
قلاقل عيس كلهن قلاقل
.. أطرق قليلا ثم أنشدني بصوته العميق المتهدج البيت الذي يليه وهو:
إذا الليل وارانا أرتنا خفافها
بقدح الحصى ما لا تريه المشاعل
ابتسم بعدها قليلا، وقال لي: ألست تجد هنا "بيت القصيد"؟..بعد لحظات، نادت المنادية بأن طائرة تونس على وشك الإقلاع..عانقت الأستاذ وشيعته بنظراتي إلى أن وارته عني بوابة "المغادرين"..بدا لي وهو يمشي وئيدا فارسا قد أنهكته المعارك، لكنه متشبث بصهوة جواده.
كانت تلك هي الصورة الأخيرة، وها أنذا أغمض عيني ثانية لأرى ذلك الفارس النبيل كما رأيته أول مرة منذ أربعة عقود، وقد تملكني إحساس مدهش بأنني اسمعه يهتف من وراء سجف الغيب:
وقف عليها الحب..