التداولية :
رغـم كـون التـداوليـة نشـأت نشـأة فلسـفيـة على يد " جون أوستين J. Austin " في النصف الثاني من القرن الماضي إلا أنها لم تلبث أن تشكلت لتصبح ذات سمت لغوي لساني .
ويعد اكتشاف التداولية اللغوية فتحا كبيرا ، إذ أثار أسئلة جديدة ، وأولى اهتماما بكل ما يتعلق بالسياق والمقام والمتكلمين ومقاصدهم وظروف الاستعمال والأفعال اللغوية .
وقد أشارت " فرانسواز أرمينيكو Françoise Armingaud " إلى أنه " لم يتم بعد الاتفاق بين الباحثين فيما يخص تحديد افتراضات التداولية أو اصطلاحاتها " (2).
وقد قدم " ليفنسون Levinson . S.C " وجوها متعددة عرّف بها التداولية ، نختار منها تعريفه الذي يجعل " التداولية دراسة كل مظاهر المعنى Aspects of Meaning من غير فصلها عن نظرية الدلالة ، إلا أن الدلالة محددة في عنصر شروط الصدق ، في حين تتناول التداولية التي لا تعلل بشروط الصدق "(3).
ويذهب " جيفري ليتش G.Leech " في تعريف التداولية إلى أنها دراسة المعنى في صلته بظروف الكلام ، وقد أدخل في هذه الظروف : المتخاطبين وسياق الملفوظ والهدف أو الأهداف من الملفوظ (4) .
وما نجده من عناية التداوليات الحديثة بالمتكلم والمخاطب انطلاقا من الاعتـقاد بأن الخطاب يتـوجه من أحد الطرفيـن إلى الطرف الآخـر ، وأن طبيعة هذا التفاعل هي التي توجه الكلام وتحدد مساره ، وهو ما حدا بـ " ليتش Leech " إلى القول بأنه لا يمكن أن ندعي فهما للكلام من دون استحضار شروط إنتاجه المحيطة به خاصة عنصر المتكلم والسامع (5) اللذين اعتبرهما ركنين أساسيين لا غنى عنهما ومظهرين مهمين في الحالات التكلمية (6) .
وقد ذهب " روجر فاولر R. Fowler " إلى أن اللغة المستعملة أيا كانت موضوعيـتها لغة موجهة من جهة انخراط المتكلم بمواقفه وأحكامه فيها وحتى تلك التي قد تبـدو غير ذلك إنما هي موجهة من ناحية عدم توجهها (7) .
ولا شـك أن اهتـمام المتكلم بمخـاطب هو وجهته ومقصده ؛ يجعله يراعي محله ببناء خطابه على أقدار معلومة أو مفترضة لمخاطب حاصل ، وحضور المخاطب – باعتباره طرفا مشاركا - أمر ضروري لإنجاز الخطاب وتوجيـه مختلـف مناحيه وهو وضع يخرج به من حال التقبل السلبي إلى حال يكون فيها شريكا فعليا في عملية الإنتاج (8) .
مـن هنـا اعتبـرت " أوركيوني K. Orecchioni " أن البـاث ( المتكلم ) والمتقبل ( المخاطب ) لهما نفس الدور في عملية اشتغال الكلام ، إذ هما اللذان يشغلان القواعد العامة (9) .
ولا يمكن إغفـال ما قدمه " جرايس " Grice في بيان الاختلاف بين ( ما يقال ) و( ما يعني ) ، إذ لاحظ وجود فجوة كبيرة بينهما ، إذ إن ( ما يقال ) : هو ما تعنيه الكلمات ظاهريا ، وغالبا ما يمكن شرحه وفق شروط الحقيقة . أما ( ما يعني ) : فهو التأثير الذي يحاول المتكلم متعمدا إضفاءه على المستمع أو المخاطَب من خلال إدراك هذا الأخير لهذا القصد (10)، بمعنى تضمنها لمعاني ضمنية (11) . مما يسترعي الانتباه إلى الصيغة باعتبارها مقولة نحوية تعتبر " تسمية تطلق على مختلف أشكال الفعل المستعملة لإثبات الشيء الذي يتعلق به هذا الفعل إثباتا تتفاوت درجاته قوة وضعفا ، وللتعبير عن مختلف وجهات النظر إزاء الموجودات (12).
وقد تنبه الدكتور المتوكل إلى مبدأ يراه ثابتا ؛ مفاده أن المعنى يحدد الشكل ، وأن الشكل يتصور بصور مختلفة باختلاف الغرض ، أي باختلاف التداولية – بلغة الدكتور المتوكل – إذ الوظيفة التداولية عنده هي المحددة لبنية الملفوظ (13).
مما سبق نستطيع القول بأنه يمكن النظر إلى التداولية على أنها علاقة ثلاثية بين : المتكلم ، والمعنى ، واللفظ ( أو الشكل ) ، ولا شك – كذلك – في صعوبة استبعاد المخاطَب ، إذ إنّ ما يلفظه المتكلم يستمد معناه بفضل نيته في إحداث تأثير معين في المخاطَب ، وذلك يستدعي معه – بالضرورة – سياق المعرفة العامة والخاصة التي يتقاسماها (14) .
ويعد بذلك قصد المتكلم والافتراض المسبق من الأهمية بمكان في عملية التواصل والإبلاغ ، وهو ما سنعرض له فيما يلي .
أ - قصد المتكلم :
إن مفهـوم القصد من المفاهيـم التي اسـتأثرت باهتمام التداوليين ، إذ تسـعى التـداولية جاهدة لاستكشاف بواعث الكلام وآلياته النفسية والجسدية (15).
وقد فرّق ليتش Leech بين الدلالة والتداولية ‘ إذ كلتاهما تعنى بالمعنى ، ولتوضيح الفرق بين الجملتين التاليتين :
1- ماذا تعني ( أ ) ؟
2- ماذا تعني أنت بـ ( أ ) ؟
يرى أن الدلالة تهتم بالمعنى meaninig في ذاته ( في الجملة 1 ) ، في حين تستحضر التداولية لفهم المعنى عنصر المتكلم Speaker أو مستعمل اللغة User Language ( الجملة 2 ) مع ما يقصده من قصود (16).
بل أصبح القصد ( Intention ) في نظر " سيرل Searl " نوعا واحدا من المقصدية ( Intentionality ) بين أنواع أخرى ، ويمتاز لديه بأن الوعي وراءه (17) ، ويذهب في كتابه (Intentionality ) في الباب الأول منه إلى مناقشة علاقة القصد بالإرادة والرغبة والقدرة والاعتقاد (18) . وهو ما يؤكد ارتباط الفعل اللغوي بالقصد ارتباطا وثيقا .
فالمقصد يحدد الغرض من أي فعل لغوي ، كما يحدد هدف المتكلم من وراء ما يتلفظ به ، وهو ما يساعد المتلقي ( المخاطَب ) على فهم الرسالة ، ومن ثَمّ يصبح توفر القصد والنية مطلبا أساسيا وشرطا من شروط نجاح الفعل اللغوي . والبحث عن مثل هذه الشروط يعد من الوظائف الأساسية للتداولية .
وقد نبه علماؤنا على ارتباط المعنى بالقصد ، إذ الكلام قد يحصل بغير قصد فلا يدل ، ومع القصد فيدل ويفيد (19) ، وحذر ابن القيم من إهمال قصد المخاطِب قائلا : " فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه " (20) . وأشـار السـكاكي إلى أنه " إذا اندفع المتكلم في الكلام مخبرا لزم أن يكون قصده في حكمه بالمسند للمسند إليه في خبره ذاك إفادته للمخاطب " (21) . ولا شك أنه بتغير أحوال المتلقي يتغير قصد المتكلم إذ تربط بينهما مقصدية الإفهام واستجابة التلقي .
وقد عرّف ابن خلدون اللغة بقوله : " اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده ، وتلك العبارة فعل لساني ، فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان . وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم " (22) . وهو ما يعني أن المتكلم يتخذ للمعنى الذي يقصده من الوسائل اللغوية والمقامية ما يعين على إدراكه ، وهو في ذلك كله يراعي حال المخاطَب (23) ، ومن هنا فإن قولنا : " إن زيدا منطلق ؛ إذا سمعه العارف بصياغة الكلام من أن يكون مقصودا به نفي الشك أو ردّ الإنكار ، أو من تركيب : زيد منطلق ، من أنه يلزم مجرد القصد إلى الإخبار .. (24)
وقد أدرك العلماء أن هناك وسائل من الممكن أن تقوي الفعل أو تضعفه ، فالأفعال الدالة على اليقين من مثل : أعلم وأرى ودرى وما شابه تقوي الحكم المقصود ، على حين تكون أفعال مثل : أشك وأزعم وإخال وأظن مُضْعِفةً للحكم المقصود .
ب - الافتراض المسبق :
ينطلق المتخاطبون عند كل عملية من عمليات التبليغ من معطيات أساسية معترف بها ومعروفة ، وهذه الافتراضات المسبقة لا يصرح بها المتكلمون ، وهي تشكل خلفية التبليغ الضرورية لنجاح العملية التواصلية ، وهي محتواة في القول ؛ سواء تلفظ بهذا القول إثباتا أو نفيا (25) .
ويرى التداوليون أن الافتراضات المسبقة ذات أهمية قصوى في عملية التواصل والإبلاغ ، وقد تم الاعتراف بدورها في التعليميات ، فلا يمكن تعليم طفل معلومة جديدة إلا بافتراض وجود أساس سابق يتم الانطلاق منه والبناء عليه (26) . ويمكن القول بأن الجملة الاسمية المنسوخة – في غالبها – مبنية على افتراض مسبق ، فإذا قلنا : صار محمد قويا ، فإننا نفترض أنه كان ضعيفا قبل ذلك الحكم . وإذا قلنا : كان محمد قويا ؛ فذلك يفترض ضعفه الحالي ، وإذا ما قلنا : ظننت محمدا قويا ؛ فالافتراض المصاحب لهذا القول أنه ليس قويا الآن ، بل هو ضعيف ، ويضاف إلى ذلك بيان ما داخَل المتكلم من ظن وشبهة .
وهذا ما جعل الافتراض المسبق يشغل جانبا أساسيا من اهتمام علماء الدلالة ، إلى أن برزت إلى موقع الصدارة من اهتمام الباحثين في أوائل العقد الثامن حين أصبحت الوجهة التداولية في دراسة المعنى بديلا لا غنى عنه للوجهة الدلالية في هذا الجانب (27) . وهناك من الباحثين من أراد أن يجعل الافتراض التداولي المسبق بديلا للافتراض الدلالي (28) ، ومنهم من رأى أنه لا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر (29) .