لعل هذا الجزء من بحث للدكتورة شفيقة العلوي يفيدك في تلمس مفاهيم ومبادئ النظرية الخليلية الحديثة ومن ثم دراسة البنية التركيبية فيها
وهو بحث بعنوان :العامل بين النظرية الخليلية الحديثة والربط العاملي لنؤام تشومسكي.
المفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية الحديثة:
الاستقامة والاستحالة:
لقد صنف سيبويه - محتذيا حذو شيخه الخليل - الكلام بناء على دلالته، فجعله أنواعا هي:
المستقيم الحسن، نحو: أتيتك أمس.
المحال نحو: أتيتك غدا.
المستقيم القبيح وهو أن تضع اللفظ في غير مكانه نحو قولك: كي زيدا أخاطب.
والمحال الكذب نحو: سوف أشرب ماء البحر البارحة(3).
ومن ثم بدأ التمييز بين اللفظ والمعنى في التحليل اللساني.
الانفصال والابتداء منطلق التحليل:
إن التحليل المنطقي الرياضي الحاسوبي للأنظمة اللغوية يستوجب أن تكون الصياغة واضحة غير ضمنية، محددة المبادئ لا يشوبها التعسف أو التعقيد. ومثال ذلك تباين العلماء في تحديدهم لبنية الجملة.
فالنحاة العرب الأولون انقسموا إلى فرق، فمنهم من انطلق من:
- معيار الفائدة، فقسمها إلى خبرية وغير خبرية.
- أو من معيار التركيب، فقسمها إلى صغرى أو كبرى.
أو من معيار الصدر، فيقسمها إلى فعلية ذات فعل وفاعل أو اسمية ذات مبتدأ وخبر(4).
وأما البينوين، فيعتمدون في تحليلهم للكلام البشري على مبدأ التقطيع والاستبدال. إذ يجزئون المدونة الكلامية إلى قطع ويستبدلونها بأخرى. فإذا ظل الكلام مستقيما مفيدا، كان دليلا على أنها وحدات معجمية مستقلة. وأما التوليديون التحويليون، فيفترضون أن كل جملة تتكون من مكونين اسمي وفعلي ويمثلون هده البنية بمشجرين الأول للبنية العميقة والثاني للبنية السطحية(5).
فإذا كان هدا حال اللسانين الغربيين، فإن منطلق النظرية الخليلية الحديثة مغاير تماما. إذ ينطلقون من واقع الحدث الكلامي أي من الخطاب نفسه، ويعتمدون معيار الانفصال والابتداء أي ما يكوّن قطعة منفردة في السلسلة الكلامية المفيدة لا يسبقها ولا يأتي بعدها شيء من الزوائد، ويمكن الوقوف عليها، كقولك: زيد أو هذا أو كتاب في الإجابة عن: من هذا وماذا أخذت. وهي الحقيقة التي يؤكدها سيبويه نقلا عن شيخه الفراهيدي (إنه لا يكون اسم مظهر على حرف أبدا لأن المظهر يسكت عنده وليس قبله شيء ولا يلحق به شيء)(6).
فكل ما ينفصل ويبتدئ به هو مفردة أو كلمة أي أصل تتولد عنه الفروع. ومن هنا، صار من الضروري أن يتخذ مبدأ الانفصال والابتداء معيارا أساسيا لتحيد أقل ما ينطق به أي الكلمة. وقد سماها النحاة الأولون الاسم المفرد أو ما بمنزلته. وأطلق عليها ابن يعيش في كتابه شرح المفصل والرضي في الكافية مصطلح (اللفظة) وهو الذي تبناه النحو الخليلي(7). (فالانفصال والابتداء يمكن الباحث من استكشاف الحدود الحقيقية التي تحصل في الكلام. وبهذا ينطلق الباحث من اللفظ أولا. ولا يحتاج إلى أن يفترض أي افتراض كما يفعله التوليديون الذين ينطلقون من الجملة قبل تحديدها، أي قبل تحديد مكوناتها المباشرة)(8).
فالأصل في النظرية الخليلية هو ما يبنى عليه، أي ما ليس فيه زيادة (أي كتاب). إنه أصغر وحدة متمكنة. وأما العبارات الأخرى، وتسمى ما بمنزلة الاسم المفرد فتعد زوائد تلحقه يمينا ويسارا. وهذا جوهر مفهوم التحويل عند التوليديين التحويليين.
وهكذا، يمكننا أن نستنج - وانطلاقا من هذا المبدأ - مثال أو الحد الذي يتميز به الاسم (كتاب) لفظيا ليس إلا، وهو الجر والتنوين والنداء والإسناد والإضافة. فكلها زوائد تندرج في حد الاسم في اللسان العربي(9).
وأما الفعل، فإنه تتصل به زوائد تغير بنائه، وتحوله إلى قطعة لغوية جديدة قابلة بدورها للانفصال والابتداء، وهي: تاء التأنيث، ونون النسوة ,أداة الجزم والنصب وأحرف المضارعة.
الموضع:
إن لكل جزء من اللفظة (أي ما ينفصل ويبتدئ به) موضعا خاصا به، يقترن به في المحور التركيبي. فأداة التعريف (أل) لا تكون إلا في يمين المفردة، وكذلك الحار الجار، وأما الصفة والإضافة فلا تظهران إلا في آخرها - أي على يسارها -. وهذ تحديد صوري إجرائي، رياضي للاسم يتميز به النحو الخليلي. وأما تحديده الدلالي، فهو ما دل على ذات(10).
فالموضع مفهوم أساسي، لأنه ليس مجرد موقع للوحدة اللغوية (أي اللفظة ) داخل السلسلة الكلامية؛ بل إنه قد يعدّ موضعا للعامل والمعمول الأول والثاني - كما سيرد أدناه - أو للمخصص.
- العلامة العدمية:
والموضع في النحو الخليلي (شيء وما يحتوي عليه شيء آخر)(11). إذ قد يكون فارغا. فخلو الموضع من الكلمة شبيه بالخلو من العلامة، أو ترك العلامة. وهو ما اصطلح على تسميته بالعلامة العدمية في مقابل العلامة الظاهرة المادية. وهذا المفهوم موجود في اللسانيات الحديثة إلا أنه غير مستغل.
الزمرة: إن مجموعة العمليات التفريعية التي تضاف للمفردة تكون مجموعة (un ensemble) بالمعنى الرياضي، يصطلح عليها - في النحو الخليلي - الزمرة الدائرية.
فزمرة الاسم مثلا هي تلك الزوائد التي تلحقه يمينا ويسارا(12).
التفريع والأصل والتحليل التقطيعي:
(إن الأصل هو ما يوجد ويستمر في جميع فروعه. وهو ما لا يحتاج إلى علامة. وهو بذلك مستغن عن فروعه)(13). إنه ما يبنى عليه.
إن النحو الخليلي تفطن لهدا المبدأ، فالألفاظ أو الجمل قد تتفرع إلى أنماط جديدة بزيادات (أي بتحويلات)(14). وهذا التحليل يعدّ أقرب إلى الإجراءات الرياضية الحاسوبية وأكثر دقة من التحليل التركيبي الذي يعتمد التقطيع والاستبدال وسيلة لاستخراج بنية الجمل - كما هو الحال عند البينويين والوظيفيين - إن التحليل الجملي الخليلي الحديث تركيبي تفريعي؛ إذ ينطلق الخليليون من أقل ما ينفرد ويمكن التخاطب به، ويولدونه بعملية تفريعية تحويلية أي بالزيادة على الأصل. وهذا مبدأ قار في اللسان، لأن اللغة - وكما يؤكد ذلك علماؤنا العرب - كلها أصول وفروع(15).
فالتحويل - إذا - هو الذي يحدد الوحدات في النظرية الخليلية الحديثة.
لقد أغفلت اللسانيات البينوية حقيقتين هامتين هما:
ضرورة الانطلاق في التحليل من اللفظة (أي ممّا ينفصل ويبتدئ به) لا من الجملة المفيدة أي الكلام.
لا يمكن استنباط بنية الكلام بمجرد التقطيع والاستبدال، كما يفعل جلّ البينويين بما فيهم تشومسكي، حتى وإن حاول صياغة تحليله بواسطة التشجير الذي يعكس بنية الجملة في مستوييها العميق والسطحي.
فأهمّ فرق - إذًا - يميز النظرية الخليلية عن اللسانيات الغربية هو منهج تحديد الوحدات إذ يسلط الغربيون البينويون على الخطاب أداة التقطيع لاستخراج الوحدات. ويلجأ التوليديون إلى التحويل لأجل تدارك نقائص التحليل إلى المكونات المباشرة وتفسير الغموض الناجم عن بعض التراكيب كالتركيب المبني للمجهول. وأما النحاة العرب، فإنهم ينطلقون من هذه التحويلات لأجل تحديد الوحدات، حيث يحملون القطع القابلة للانفراد أي للابتداء والانفصال بعضها على بعض، فتنعكس التبعية، ويدرك التابع من المتبوع، وتنجلي المواضع التي تختص بها كل وحدة. ومجموع هذه المواقع يكوّن ما تسميه اللسانيات الخليلية المثال أو الحد(16).
إن ثمّة مبدأ لسانيا ارتبط وتداخل مع نظرية العامل؛ وهو نمط التبعية النحوية - الذي استغلته اللسانيات الحاسوبية أيّما استغلال(17) - وهو مبني على فكرة أساسية مفادها أن جميع الألفاظ البشرية تابعة لما قبلها أو متبوعة (فهذه النظرية - أي التبعية - هي أقرب بكثير إلى نمط النحاة العرب وخاصة إلى مفهوم العمل)(18). فالفعل تابع للفاعل، والصفة للموصوف والخبر للمبتدأ وهكذا دواليك.
ونظرا لأهمية هذا المبدأ، فقد أدخله تشومسكي في نظريته الجديدة - الربط العاملي - من أجل تقديم تفسير صوري رياضي للتراكيب اللغوية، واستثمره لأجل تجاوز العقبات التي تظهر مع بعض الجمل المتداخلة المركبة.
2 - أسس نظرية العامل في النحو الخليلي:
ينطلق النحاة في هذا المستوى من أقل ما يمكن أن ينطق به البشر ويكون مفيدا. أي إنهم ينطلقون من كلام يستغني عما بعده. ثم يفرعونه بتوليد تراكيب جديدة مشتقة منه عن طريق التحويل بالزيادة. إن أهم المبادئ التي تقوم عليها النظرية الخليلية الحديثة - في مجال العامل - ما يلي:
العامل نوعان:
أ) ما أثّر نحويا كالنواسخ والأفعال.
ب) ما أثر دلاليا، وهو المسمى بمستوى التصدير وما فوق العامل(19)، كما سنوضح أدناه.
إن للعامل ثلاثة أشكال هي:
فقد يكون الابتداء أي العلامة العدمية (صفر) المؤثرة في البناء التركيبي الإسنادي الاسمي، أي في المبني والمبني عليه.
اللفظة المفردة ذات خاصية الاستقلال في التركيب كالأفعال.
التركيب الجملي المؤثر في المنصوبين، نحو: (حسبتُ) الولدَ ناصحا. وهو يشمل الأفعال التي تنصب مفعولين.
العامل: ما كان أولا، سواء في الذكر، نحو: (كان زيدٌ منطلقا) أو كان أولا في التقدير النحوي، إذا ما أخّر أي خالف أصل الوضع اللغوي، نحو: (منطلقا كان زيدُ) أو (زيدٌ كان منطلقا). ومن ثم، بات واضحا أن العامل في النظرية الخليلية الحديثة ما أثّر بغض النظر عن رتبته(20). ارتباط العامل بمفهوم البناء، يجعل المعمول 2 مرتبطا نحويا بالوحدة التركيبية المتلازمة (ع + مع1). فالخبر معمول مبني على المبتدأ والابتداء. لأنه محمول اسمي عليهما، كما يؤكد دلك البصريون(21). ومن ثم، فللسان العربي بناءا هما:
1 - بناء قائم على الابتداء - ينظر أعلاه -
2 - بناء قائم على الفعل، حيث يحمل الاسم على الفعل(22).
مبدأ التعلق بالأول: ففي السلسلة (إن تخرج أخرج) ذات الصياغة: (ع + مع1) + مع2 ضرب من التعليق. فقد رأى الخليل الفراهيدي - وكذا سيبويه - أن الفعل الأول - أي مع1 - معمول مباشر للعامل الحرفي الشرطي الجازم (إن). وهدا المعمول لا يستغني عن السلسلة الثانية - أخرج -، كما لا يستغني الخبر في باب الابتداء عن المبتدأ.فبين مع1 ومع2 - إذا - علاقة لسانية أشبه بعلاقة الوحدة التركيبية (ابتداء + مبتدأ) التي يبنى عليها الخبر بالضرورة، ولكن في مستوى تركيبي أعلى. وهذا التعلق بالأول شكل من أشكال البناء.
ومن ثمّ، تصبح (إن) هي المؤثرة بالجزم أيضا في السلسلة الثانية - أخرج - ضمن هذا البناء / التعلق(23).
3 - العامل بين النحو الخليلي والتشومسكي:
1 - العامل عند تشومسكي تركيبي، ولذلك نجده (أي تشومسكي) يركز فيه على تحديد وظيفته داخل التركيب أي بيان العناصر التي يتحكم فيها مكونيا.
تحديد نوعه أي العنصر النووي المشرف على الوحدات الاشتقاقية من حيث كونه فعلا، اسما، حرفا دونما اهتمام بتحديد الدلالات المنطقية لا النحوية المترتبة عنه.
أما في النظرية الخليلية الحديثة / العربية، فالعامل هو:
محور التركيب أي المهيمن (باعتباره نواة الكلام)، زيادة على الأصل ذات وظيفة تركيبية.
العامل سبب الحركة الإعرابية (أي هو سبب الآثار الصوتية التي تعكس الحالات الإعرابية). فهو، إذا، سبب بناء الكلام، وبدونه لا يكون (أي الكلام) وتنعدم الفائدة.
إذا، هناك علاقة رياضية تحكمه وعناصره هي:
كل عامل = حالة إعرابية
كل حالة إعرابية = علامة إعرابية
إذًا العامل = علامة إعرابية: الأثر الصوتي.
فهذا قانون العمل الجوهري، ولا يمكن تحقق وظيفته إذا أسقط عنصر من هذا القانون اللساني البينوي. وللأسف، فإن المتأخرين من النحاة لم يتفطنوا لهذه الوظيفة الأساسية المحورية، فحصروا النحو في الإعراب ذاته. وغدا الفصيح من تمكن من النصب والرفع والجر والجزم لا من سبر معانيها. فهذا تصور وفهم خاطئ للنحو وعامله، وهو المتسبب في بعجه (أي بعج النحو) بالقياس المنطقي(24).
2 - للعامل في النظرية الخليلية وظيفتان:
- فهو عامل تركيبي - ويسميه الدكتور حاج صالح عبد الرحمن - بنائي أو لفظي يهيمن على بناء الجملة.
- عامل معنوي يحدد المعاني النحوية كالمفعولية والفاعلية والحالية إلخ المتعاقبة على اللفظة بتعاقب العامل اللفظي.
3 - العامل يؤثر بكيفيات ثلاثة متباينة في النحو الخليلي:
يؤثر لفظا بترؤسه عناصر التركيب النووي (أي العامل والمعمول) وهو تأثير يتّحد فيه هذا النحو مع نظرية الربط العاملي يؤثر دلالة بتغييره للمعاني النحوية التي تنبئ عنها الحركات الإعرابية.
يؤثر تأثيرا دلاليا منطقيا لا بتغيير الحركات بل بتغيير المكون الدلالي الذي يتصدر التركيبين الاسمي أو الفعلي، إذ يضفي عليهما دلالات جديدة، قد تكون الاستفهام (هل جئت، هل أنت قادم؟)، التوكيد (قد جئت، أنت قادم) النفي (لم يأت، ما أنت قادم). فتتباين دلالات هذه التراكيب دون أن ينجم عنها تغيير في بنائها النووي القائم على ثنائية العامل والمعمول.
فتغير الصدر يستلزم تغييرا في المعنى المنطقي لا النحوي التركيبي؛ وهو ما يسمى بمستوى التصدير في اللسانيات الخليلية.
إن نظرية تشومسكي أهملت هذا النوع من العامل الذي تقوم عليه التراكيب اللغوية - في مختلف الألسنة البشرية، وهو ما أظهرت قوته وأكدت فعاليته النظرية الخليلية الحديثة(25).
4 - العامل والمعنى وظاهر اللفظ: إن (النحو العربي قد وضع على أسس ابستمولوجية مغايرة لأسس اللسانيات البينوية)(26). ومن ثم، نجد أن النحاة الخليلين في تحليلهم للتراكيب بغية استنباط بنيتها العقلية، يقدرون لكل معنى أي لكل بنية منطقية دلالية عاملا ذا أثر صوتي / حركة إعرابية.قد يكون: لفظا، أو تركيبا نحو:
عا (أعلمت زيدا) أباه مع1 حاضرا مع2.
أما في نحو تشومسكي، فنجد الاهتمام بالثنائية (عامل / دلالة) غائبا تماما، لأن التركيز عنده منصب على نوع آخر من المعنى هو المعنى النحوي الذي اصطلح عليه: الحالة الإعرابية. فهذا تحليل على اللفظ يباين اللسان العربي الذي يهتم بظاهر اللفظ وباطنه(27) أي معناه.
فقولي (زيد قائم) يجعل (زيد) معمولا أولا للعامل المعنوي الابتداء؛ إلا أنه من حيث الدلالة فسيكون (زيدٌ) فاعلا للقيام سواء أقلت: زيدٌ قائم أو كان زيد قائما أو إن زيد قائم. ومن ثم يغدو (زيد) هو العامل معنى. وهذا منحى غائب عن منهج تشومسكي. فالتحليل العاملي في النظرية الخليلية الحديثة تحليلي نحوي / معنوي يراد منه:
1 - معرفة العامل لمعرفة المعنى النحوي.
2 - استنباط التمثيل المنطقي الدلالي. وفي ذلك فهم للتراكيب (والتخليط بين هذين الاعتبارين على أحدهما دون الآخر يعتبر خطأ وتقصيرا)(28).
5 - التقدير النحوي والدلالي: لقد تفطنت النظرية الخليلية - في إطار معالجتها للعامل - إلى مبدأ التقدير بنوعيه النحوي والحالي. وهو ما يراد به اتفاق البناء بسبب اتفاق نوع العامل مع اختلاف المعنى المنطقي نحو(29):
عبدُ الله ذهب أخوه
عبدُ الله نعم الأخ
عبدُ الله كان موجود
عبدُ الله إنه موجود
فهذه التراكيب اللغوية متحدة من حيث بناؤها العميق، إذ أنها تقوم على التمثيل العاملي التالي:
ع (مع1 + مع2)
لكن لها تقديرات حالية مختلفة؛ ففي الأولى إخبار، والثانية مدح، والثالثة إخبار في زمن ماض، والأخيرة تتضمن إثبات الخبر وتأكيده.
وهذا يؤكد جوهرا خلافيا بين العامل التشومسكي والخليلي، الذي يميز بين العامل من حيث وظيفته البينوية والدلالية، أي يميز بين التقدير النحوي والدلالي للجملة. وهذا أساس علم النحو، أي علم العربية(30).
6 - وأساس هذا التفريق مبدأ الأصل والفرع، أي إن هذه العملية هي جزء من سلسلة نحوية تحويلية تربط بين الأصل البينوي الذي يخضع لعلم العربية وبين الفرع الذي يرتبط بعلم المفاهيم(31).
7 - إن التراكيب اللغوية تقوم على البناء التالي: (ع + ( مع1 + مع2) +خ) الذي تعترضه تغيرات، تجعله يتحول إلى:
ع (مع1 + مع2) + خ (ع + مع2) + مع1 + خ أو: مع2 + (ع + مع1) + خ
ومثل هذا الترتيب الذي لا يوجد له أثر في نحو تشومسكي، يسميه الحاج صالح (أي المدرسة الخليلية الحديثة) حد اللفظ أو الحد(32).
فللجملة الاسمية ترتيبها، حيث يرد المبتدأ أولا في الذكر قبل دخول العامل اللفظي، أي في السلسلة اللفظية المنطوقة. وأولا في الترتيب، حتى وإن تغيرت رتبته بعد دخول إن وكان، فهو دائما سابق للخبر المحمول عليه. والفعل في التركيب الفعلي يكون أيضا أولا في الذكر ما دام عاملا في الاسمين رفعا ونصبا. ومن ثم، فهو الأول في الترتيب.
إن للغة العربية ميزة تنفرد وهي:
إمكانية غياب الفعل وبقاء أثره كما هو حال النداء والاستغاثة والتحذير والإغراء، نحو: يا عبدَ الله أي أنادي عبدَ الله: الأسدَ أي احذر الأسدَ.
تحوّل الفعل العامل إلى معمول عند اقترانه بالجازم أو الناصب، وبذلك يفقد أولية الترتيب.
ومن هنا أمكن القول: إن الفعل في اللسان العربي يكون أولا:
في الذكر أي في النطق.
أولا في الترتيب مادام هو الحدث ومتضمنا الخبر.
أولا في النية عند غيابه لفظا واستمرار عمله البينوي.
فالأولية، كمفهوم، إذًا، غائبة في النحو التشومسكي.
8 - إن النظرية العاملية الخليلية قائمة على مبدأ التبعية والحمل على الأول. أي حمل الشيء على الشيئ؛ وبذلك فهي تعكس العلاقات الاندراجية الموجودة بين الوحدات المعجمية أي بين الألفاظ. وهذه الخاصية تنعدم عند التولييدين حتى وإن حاولوا تجسيدها بواسطة التمثيل التشجيري(33).
9 - إن التبعية عند الغرب واحدة، سواء تلك التي تحصل بين عناصر التركيب بسبب تأثير العامل في معمولاته، أو التي تكون داخل اللفظة مثل (كتاب زيد). أما عند العرب فللتبعية ضربان:
تبعية بناء، كتبعية الخبر للمبتدأ والفعل للفاعل.
تبعية وصل ناتجة عن إجراء التحويل بالزيادة على النواة المفردة، كدخول أل التعريف على الاسم (أل + اسم) والإضافة (كتاب ُ + على) كتاب علي.
كما يتضح من خلال هذا المشجر الذي أبدعته المدرسة الخليلية الحديثة.
إن التمثيل الشجري العاملي لا يستطيع أن يفرق بين حالات الترتيب الواجبة والجائزة، أي بين ما يجب أن يتأخر فيه المعمول، وما يجوز أو يجب تقدمه. ولذلك صاغت النظرية الخليلية الحديثة نموذجا شجريا يوضح هذه الإمكانية(34):
فالرجال ليس معمولا تابعا للفعل (كتبوا) مادام المعمول الأول لا يقدم على عامله قط؛ بل إنه معمول العلامة العدمية أي الابتداء(35).
خلاصة القول:
فالعامل كمفهوم موجود في التراث اللساني العربي والغربي على حد سواء؛ إلا أنه يتمايز فيهما بناء، قانونا ودلالة(36) لتمايز البيئة والحضارة ومنهج المعالجة.
فللنحاة الأولين حجتهم وآراؤهم العاملية.
وللسانيات الغربية / التشومسكية مذهبها.
وللنظرية الخليلية الحديثة منهجها، وهي تسعى لإخضاعه (أي المبدأ العاملي) إلى العلاج الآلي، الصوري للغة العربية من أجل إبراز ما قدمه العلماء الأولون، وكشف أسرارهم اللسانية وإعادة الاعتبار للعامل (لأنه ليس من المعقول أن يجهل كل الذي تركوه لسبب واحد وهو قدمه وعدم ظهوره في عصرنا هذا)(37).
ولكن من الإنصاف القول:
إن نظرية تشومسكي تتقاطع مع النظرية اللسانية العربية في منهجها وهو العمل والربط الإحالي وفي التحويل وغيرهما من المفاهيم اللسانية المحورية(38).
إن كتاب سيبويه ذا الطابع العلمي والتعليمي البيداغوجي لم يلتق مع الاتجاه التشومسكي اللغوي فحسب، بل إنه طرح أيضا مفاهيم أساسية في اللسانيات الشكلانية وأسس المدرسة الخليلية الممتدة عبر الزمن.
.