التحليل السيميائي للخطاب السردي في رواية "الربيع العاصف" لنجيب الكيلاني ـــ د.بلقاسم دفه- الجزائر
مقدمة:
يعد النص السردي من بين النصوص التي اهتم بها الباحثون في مجال علم السيميائيات: Sèmiologie"(1). ويحاول علم السرد "narratologie" من حيث هو فرع من علم النص "Textologie" إلى ضبط منهجه وجعل الظاهرة الأدبية تتسم بالعلمية، وذلك بإبعادها عن التأويل غير المعلل(2).
ولعل أبرز تحديد لعلم السرد ـ فيما أرى ـ هو مفهوم "ميك بال" Miek Bal حيث اعتبر علم السرد علم السردية "narrativitè"، أو هو العلم الذي يقبل صياغة النصوص السردية في بنيتها السردية(3). وذهب "ميك بال" إلى أن النص السردي يمكن أن يلاحظ من خلاله ثلاثة أنواع.
1 ـ النص السردي "Texte narratif".
2 ـ الحكاية "Rècit".
3 ـ القصة "Histoire".
والسردية بعدها نصاً بحسب مفهوم "ميك بال" هي الأسلوب أو الطريقة التي بها تفكك شفرات النص، وينتهي إلى أن السردية محددة بالعلاقات الرابطة بين النص السردي والقصة والحكاية(4).
وقد أدى الاهتمام بهذه الموضوعات والسيميائيات بخاصة إلى الاستعاضة عن فكرة "الوظيفة" "La fonction" بالملفوظ السردي والاعتراف بوجود وحدات سردية تتصل أحياناً بالجدول الإدراجي، وتتصل أحياناً أخرى بالجدول التعاقبي "Diachronique" فتنشئ العلاقات التي تربط بين الملفوظات السردية في علاقتها المختلفة(5).
وكان من نتائج السيميائيات بحسب الوجهة التعاقبية أن جنحت إلى تحليل القصة، واعتبرتها بنية سردية، أي شبكة من العلاقات الكبرى، وهي التي تشكل البنية السطحية "Structure de superficielle" للنص.
ويقوم المنهج الذي يقترحه التحليل السيميائي للخطاب السردي على اعتماد نماذج لغوية تحكم البنية السطحية والعميقة للمسار السردي.
إن النماذج التي سنتناولها بالدراسة تعد خطابات مشعة، أي: تستفز المتلقي، ومن ثمة فهي ذات طبيعة أدبية.
وسأدرس رواية "الربيع العاصف" معتمداً على ما قدمته علوم اللسان كعلم السيميائيات والسرديات وعلم الأصوات التمفصلي "La phonètique articulaire" لأندري مارتني "Andrè martiet".
والنظرية التمفصلية تنظر إلى أي خطاب مهما كان نوعه أو جنسه على أنه نص يقبل التشكيل في تمفصلين كبيرين، أصطلح على الأول بالتمفصل الأول "Première articulation"، واصطلح على الثاني بالتمفصل الثاني "Deuxième articulation"(6).
يدرك بالتحديد اللساني في التشكل الأول الوحدات الدالة "mocômes"، وهي وحدات صوتية تقبل التجزؤ إلى أقل منها. ويدرك في التشكل الثاني الوحدات الصوتية المميزة، وائتلافها يعطي التمفصل الثاني "Double articulation".
نعتمد على هذه الأفكار كلها، حيث نسعى إلى استثمار المفيد منها في تحليل هذا النص السردي بالتركيز على تمفصلاته النصية، وأوجهها السيميائية ذات الطابع الأدبي، وذلك بالوقوف على الوحدات السيميائية، أي: العلامات الدالة التي استمدت في بناء النظام السردي وكانت مشحونة بشحنات دلالية.
وفي هذا السياق نشير إلى أن الإجراءات السردية للخطاب السردي الإبداعي تنسجم مع المنطق السردي وروائع الابتكار، وعن طريقها يصل الدارس إلى رصد ملامح الخطاب السردي.
ولهذا من الممكن التعامل مع الإشارات والرموز في هذا النص السردي بتقسيمه إلى عدة تمفصلات، وتعد هذه بمثابة حقول دلالية، ولكل تمفصل وحدات سيميائية "Unitès Sèmiotiques" نجسدها في الوحدات الآتية:
1 ـ التمفصل الأول: الوحدات السيميائية الدالة على الحزن والمعاناة.
2 ـ التمفصل الثاني: الوحدات السيميائية الدالة على الفتن والصراع.
3 ـ التمفصل الثالث: الوحدات السيميائية الدالة على الشرف والبراءة.
4 ـ التمفصل الرابع: الوحدات السيميائية الدالة على انفراج الأزمة.
نتبين من خلال هذه الوحدات أن النظام السردي في قصة "الربيع العاصف" هو تفاعل منطقي لسير الأحداث، إذ تتحرك الشخصيات معبرة عن معان وأفكار وأيديولوجيات، حرص السارد على الكشف عنها وإبرازها، واستطاع رصدها وتفسيرها، وهي تعكس سلوكات اجتماعية متناقضة؛ تمثل القرية والمدينة، بل التأخر والمدنية، أو الجمود والروح الجديدة.
وما دامت القصة تحيل إلى وقائع لها حضورها في المجتمع المصري الحديث نحاول في دراستها أن نفيد في هذا الجانب من النظرية السيميائية التواصلية لرومان جاكبسون "R. Jakobson"، إذ هي طرح لساني يعتمد على وظائف ست، أهمها: الرسالة التي يشترط فيها أن تكون مسندة إلى سياق "Contexte"، وسنن "Code"، وواصلة "Contact". والمهم هنا الوظيفة المرجعية "La fonction rèfèrentielle" والسياق
(7).
الوظيفة المرجعية "La fonction rèfèrentielle" لرواية "الربيع العاصف":
أبرز السارد الأمكنة التي نسجت فيها وقائع القصة وأحداثها، فهي تنطلق من مدينة القاهرة، ومن حي "السيدة زينب" (مقر الشخصية المحورية منال عبد المجيد) مروراً بقرية "سنباط" و"كفر حسين"، ووصولاً إلى قرية "شرشابة".
وقرية "شرشابة" هي مركز الحدث، "وهي لا تبعد عن طنطا... أكثر من عشرين كيلو متراً"(8). وقد تم تعيين الحكيمة منال في "مستشفى الوحدة المجمعة لهذه القرية التي تدلف إليها لأول مرة في حياتها، لتقوم بعملها كحكيمة في هذه المؤسسة الجديدة"(9).
وقد اختار السارد قرية "شرشابة"، ويحمل المقطع الأول منها دلالة "شر". وقد اجتمعت فيه فعلاً كل المتناقضات من شر وخير، وحب وكره... فأضحت مقراً للصراعات، فعصفت بها الفتن من كل جانب، فأضحت خراباً، وحتى يد القدر انتقمت من أهالي القرية، فأصابت الآفات شجيرات القطن الخضراء فجأة، ولم تجد معها مقاومة.
أما الزمن فهو تصوير لفترة من حياة قرية "شرشابة"، وقد أحسن السارد اختياره، "وهو حين تمد المدينة يدها إلى القرية، ممثلة في الوحدة المجتمعة، وهي فترة مليئة بالصراع بين قديم ألفته القرية فاكتسب صفة القانون الثابت الواجب، وبين جديد مسلح بعوامل البقاء، فتحرر من كل ما هو رديء وجامد من الموروثات"(10).
ولعل اعتماد النظرية السيميائية الوظيفية المرجعية والانتباهية، والانعكاسية التي حددها جاكبسون Jakobson(11)، وكذا المعجمية من شأنه أن يبرز الكوامن المتوارية خلف العلامات، إذ القصة صدرت عن سارد يحسن توظيف التقنيات السردية؛ فهو يتحرك بالمسرود ضمن نهج واقعي؛ لا شأن فيه لمنطق المفاجأة أو المصادفة في النظام السردي.
الآليات الدينامية للقصة:
يرتكز بناء الحبكة السردية في رواية "الربيع العاصف" على نظرة عميقة، تعتمد التسلسل المنطقي للأحداث عبر الزمن، وعلى طبيعة منطق العلاقات بين الشخصيات، إذ تتعاقب الأحداث على مسرح الحياة، وتتطور المواقف وتنمو شيئاً فشيئاً حتى يبلغ بها السارد درجة عالية من التوتر والصراع، ثم يعود بها في حركة إياب إلى الأخذ بموقف سابق لبلورته، والسير به قدماً في معترك الأحداث السردية من النص، أو الشروع في بناء موقف سردي آخر، له علاقة رصينة بالموقف العام للوقائع المسرودة.
والقصة في عمومها تنبني على شخصية محورية، وهي شخصية: الحكيمة منال عبد المجيد، إذ تم تعيينها في قرية "شرشابة" ـ "وهي قرية مصرية في محافظة الغربية" ـ(12) بعد أن "خرجت حكيمة في مدرسة الحكيمات بالقصر العيني"(13) بالقاهرة، وعملت بالوحدة المجتمعة لهذه القرية فترة من الزمن، وافتتن بجمالها بعض أعيان القرية، وود كل منهم أن يظفر بها زوجة، لكنها امتنعت. وحولت بعد أن هدأت العاصفة التي هزت القرية "إلى مستشفى أم المصريين بالجيزة"(14).
وكان بحق أن تعد شخصية منال الشخصية المحورية في النظام السردي، أما باقي الشخصيات التي وردت في القصة، نحو: الباشكاتب عبد المعطي، والمعلم حامد المليجي، والحاج علي شيخ البلد، والطبيب رمزي إبراهيم... فقد قامت بوظائف ثانوية، وأسهمت بدورها في خدمة الشخصية المحورية "منال"، ومن نمو الأحداث وتطويرها وإبرازها حتى أصبحت القصة مترابطة ترابطاً محكماً.
فالسارد قد اختار طبيباً وحكيمة في الوحدة المجمعة، وبعض أعيان القرية، ليصور لنا من خلالهم هذا الصراع المشحون بالغضب والدماء؛ فالباشكاتب عبد المعطي والمعلم حامد والحاج علي، في جانب من الصراع، والدكتور رمزي والحكيمة منال في الجانب الآخر(15).
واستهلت القصة بالتحاق الحكيمة "منال" بمستشفى الوحدة المجمعة بقرية "شرشابة" وطوال الطريق كانت "تجفف دمعة تنزلق فوق خدها لتستقبل أخرى، كانت تحس أن قلبها وروحها وعينيها كلها تبكي"(16). إنها تركت مدينتها الفاتنة القاهرة، "حيث الحياة المضيئة والأهل والأصدقاء والذكريات"(17). وجاءت لتعمل في هذه القرية، "حيث الفلاحون والبعوض والتراب والأمراض المتوطنة"(18).
وهكذا يبدو مسار الحبكة للبنية السردية، من حيث الترتيب الزمني يتدرج من وصول "منال" إلى قرية "شرشابة"، وشروعها في العمل كممرضة في المستشفى، ومحاولة بعض أعيان القرية امتلاك قلبها بقصد الزواج، وصراعهم من أجلها.
كما كانت الأحداث الفرعية نفسها تتدرج منطقياً مع مرور الزمن إلى أن كثرت الإشاعات حول الحكيمة "منال" وحول الطبيب من جهة، والأعيان المنحرفين من جهة أخرى. فكان أن حولت إلى مستشفى أم المصريين بالجيزة، وينقل الطبيب رمزي إلى مستشفى العياط قرب الجيزة، قريباً منها.
وجاء سير الأحداث في هذه الرواية وفق منطق محكم؛ ليس لمجرد السرد بل كانت الأحداث تتسلسل في حلقات تتميز بالحبكة، إذ تدور حول: الحب، الكره، الحقد، الكيد، الغيرة، الإغراء، المتعة، الظلم، الغش، التنافس، الانتقام، الصراع، البراءة.
تمفصلات بنية الرواية:
في رواية "الربيع العاصف" علامات دالة بسياقاتها وأحوالها على أفكار السارد. فالوحدات السيميائية "Unitès sèmiotiques" هي علامات يتضمنها الخطاب السردي. وقد ظهرت لي من خلال بنيتها ونظامها السردي تتمفصل في خمس تمفصلات، لكل تمفصل وحداته السيميائية، التي هي نوايات تنطلق منها عمليات التوصيل. وقد وزعت بحسب التفمصلات على أربعة مباحث، هي:
التمفصل الأول: الوحدات السيميائية الدالة على الحزن والمعاناة.
لقد كشف السارد عن معاناة شخصيات الرواية بدءاً من الشخصية المحورية "منال"، وهي تذهب لأول مرة إلى الريف المصري، وإلى قرية "شرشابة"، وقد "أرسلت... نظراتها الدامعة"(19). فالنظرة الدامعة دلالة على الحزن والألم والمعاناة.
فالسارد تناول الجانب النفسي للشخصيات. وقد كشفت عنه الكلمات التي اتسمت بنسبة شيوع عالية، عكست مشاعر الحزن والقلق والخوف والمعاناة لدى الشخصيات الرئيسة، كشخصية الحكيمة "منال"، والباشكاتب "عبد المعطي، والمعلم "حامد المليجي"، وشيخ البلد "الحاج علي". ولو أن السارد ركز أكثر على شخصية "منال"، و"عبد المعطي"؛ فكان نصيبهما أوفر من حيث الغوص في أعماق نفسيتهما.
وقد شهدت على ذلك جوارح أولئك، وأولها "العين" التي وردت في مواضع عدة من النص، ولم تكن للرؤية بقدر ما كانت أداة للبكاء والمعاناة، كما نرى في مثل هذه السياقات: "وأجهشت بالبكاء وأغرقت صدر أمها بدموع كثيرة غزيرة"(20). و"ترقرقت الدموع من أهدابها الطويلة، وغامت عيناها"(21). و"رفعت منال عينيها المحتقنتين قليلاً"(22). و"تمتم عبد المعطي وعيناه مخضلتان بالدموع"(23).
أما كلمة "قلب" فوردت ـ هي الأخرى ـ في مواضع عدة، وصورت معاناة شخصيات الرواية في مثل السياقات الآتية: "الغربة ملأت قلبي بالخوف والقلق"_(24). و"قلوب تخفق بالخوف والغضب والوعيد"(25)، و"تغيرت القلوب"(26).
وجاءت كلمة "صدر" وقد ارتبطت بالهموم والمتاعب والمعاناة نحو: "كم كان خطابك كنزاً ثميناً بالنسبة لي فأضمه إلى صدري في حنان"(27).
واستخدمت كلمة "وجه" موصوفة مشاراً بها إلى الحزن والكآبة في مثل: "وازداد وجه عبد المعطي شحوباً، وارتسمت على محياه سيما الألم والمرارة"(28).
كما استخدم السارد كلمات أخرى تحمل ـ أيضاً ـ دلالة المعاناة، نحو: التنهد، الألم، الشحوب، الأسى، المرارة، الحزن، الكآبة، وذلك في مثل السياقات الآتية: "وتنهدت منال في آلم"(29). و"القرية القاسية التي تلف حياتها الجديدة بالشحوب والأسى"(30). "وتنهدت منال في مرارة"(31). و"اجتاحتها... موجة داهمة من الحزن العميق"(32). و"يرقد شاحباً كئيباً، هيكلاً فارغاً من الأمل والحياة"(33).
من خلال هذه العلامات السيميائية يتراءى لي الطابع المأساوي الغالب على سير أحداث الرواية.
التمفصل الثاني: الوحدات السيميائية الدالة على الفتن والصراع.
تنمو الأحداث وتتطور، وتتجدد المواقف، فتتوتر العلاقات بين الشخصيات، وتصطدم المصالح، ويتعمق الحوار، فتتنوع الأدوات السيميائية الشاحنة للسرد، وتتعدد عمليات التوصل، فيثرى حقل العلامات الدالة على الفتن والصراع، وأبرزها: الدماء، الكارثة، الهزيمة، خراب، ثعابين، شياطين، العواصف، الحرب، قنبلة، النار،... وذلك في السياقات الآتية:
ـ "سالت الدماء"(34)، "والدماء توشك أن تجري أنهاراً في حارات القرية"(35)، و"جاءت الكارثة"(36)، و"فيها ثعابين وشياطين"(37)، و"الجو ينذر بالعواصف"(38)، و"الحرب... أصبحت معركة عقول"(39)، و"قنبلة ذرية تنسف آلاف الرجال"(40)، و"النار تتقد تحت التراب"(41). و"تصارع الرجال من أجل امرأة متبرجة وطوتهم رغبات الجسد الساذجة"(42).
وهذه العلامات في سياقاتها المختلفة توحي بالكيد والفتن والصراع.
والذي يتأمل هذه العلامات الدالة من خلال بنيتها القصصية يدرك أن السارد يحرك الشخصيات في القمة، ويدفعهم إلى القيام بأفعال معينة دون غيرها. ولنحتكم إلى شخوص القصة:
ـ الباشكاتب عبد المعطي: تتغلب عليه النزعة الشريرة والرغبة في الإيذاء. إنه حقاً يدافع عن الحقوق المسلوبة لإنقاذ القرية من المجاعة، ولكنه أيضاً "إذا ضايقه أحد أو عرقل له أمراً... لا يعدم... حيلة كي يوقع أحدهم في ورطة"(43)، وهو "دؤوب حقود شرس بطبعه"(44).
ـ المعلم حامد المليجي: "تاجر سموم"(45)، وهو "الوحش الناعم الذي يخفي مخالبه وأنيابه وراء مظهره الضاحك دائماً"(46)، وهو كذلك "وغد كبير... كالذئب الذي خطف دجاج القرية تحت جنح الظلام"(47).
ـ الحاج علي شيخ البلد: "قاطع طريق... متعجرف... يسرق أموال الجمعية التعاونية، ويثير القلق والاضطراب برغم أنه شيخ البلد، والناس لا تخفى عليهم تصرفاته"(48).
ـ الطبيب رمزي إبراهيم: "هذا النفعي الذي لا يفكر إلا في المال والعربات الأنيقة، وتكوين ثروة بأسرع ما يمكن... ثم يحاول أن يسرق شرف فتاة مسكينة مثل منال"(49).
ـ الحكيمة منال عبد المجيد: يصورها لنا السارد "جميلة فاتنة... بيضاء البشرة..."(50). وهو لا يصورها إلا عابثة لاهية، لا تفيق من عبثها إلا حين تنطلق الشائعات من حولها.
ولفظة "فاتنة" هنا ـ فيما نقدر ـ هي مركز الثقل الدلالي، ونواة النسيج السردي السيميائي؛ إذ حضورها في المحور الإدراجي يجعلها من الوحدات السيميائية المختارة، فدلالتها متصلة بالفتنة... والفتنة أشد من القتل.
وقد افتتن بالحكيمة "منال" بعض رجالات القرية من أمثال: الباشكاتب عبد المعطي، والمعلم حامد المليجي، والحاج علي شيخ البلد.
وتشرب العلامات الأخرى: نحو: ذئب، وحش، عواصف، أعاصير، ثورة، حقد، خوف، نار... من معاني النواة السيميائية فاتنة، والتي منها الفتنة، فتسهم في إثراء الدلالة وتعميق الروائية، وتنويع أدوات السرد.
أما لفظة "النار" فاستخدمت لتدل على إشعال نار الفتنة في القرية، وقد جاء على لسان الباشكاتب عبد المعطي، وقد سألته منال عمن أشعلها، فقال: "أشعلت النار، وذهبت بهم إلى السجن... وأقمت الدنيا وأقعدتها"(51).
ولفظة "الذئب" هي الأخرى قد احتلت موقعاً حيوياً، وتكررت في مواضع عدة، منها: "الذئاب... الذئاب هذه الفراخ الصغيرة الرقيقة كيف تأمن على نفسها منهم؟"(52)، و"هذه القرية مليئة بالذئاب"(53).
تنزل العلامة "الذئب" ـ في هذا الخطاب السردي ـ منزل السداد، حيث وظفت بأحكام ودقة من لدن السارد، ومن حيث هي وحدة سيميائية ترمز إلى المكر، والخبث والكيد، والخيانة، ومخالفة العهد، والافتراس،... وكلها صفات ذميمة تمثل الدلالات التي ارتوت وتغذت منها كلمة "الذئب".
وقد انتقلت هذه اللفظة إلى الإنسان من هذا الحيوان المفترس، لذا قيل: الإنسان ذئب لأخيه. ولنتساءل: هل كان بعض رجال قرية "شرشابة" ذئاباً؟ ذلك ما أخبر به السارد في أكثر من موقف.
ويقابل هذه اللفظة لفظة "وحش"، فهي تومئ بالوحشية والافتراس. ووردت في سياقات مختلفة، منها: "وصورة المعلم حامد "الوحش" الناعم الملمس الذي يخفي مخالبه وأنيابه..."(54).
وتتطور الأحداث وتنمو، وتتشكل حتى يصل الخطاب السردي إلى حالة تتعقد فيها المواقف، وتتشابك فيها ملابسات الحبكة، فتغدو رمزاً يعبر عن رمز، وإشارة تحيل إلى إشارة، فيصطدم المتلقي بلفظة "العاصفة" في قول السارد: "لم يكد يمر وقت قصير، حتى اشتعلت العواصف في القرية، وجاءت الكوارث يأخذ بعضها برقاب بعض..."(55)، وقوله: "الجو ينذر بالعواصف"(56). وجاءت لفظة "الأعاصير" هي الأخرى لتدل على عمق الكارثة في: "وسط هذه الأعاصير المزعجة"(57).
ولفظة "العواصف" أو "الأعاصير" من حيث هي وحدة سيميائية نواة في الفعل السردي جاءت متصلة بالكوارث والاشتعال وإتلاف شجيرات القطن والبكاء والعويل في البنية السطحية "Structure de superficielle"، ودلالة على الرعب والإجرام والقتل في البنية العميقة "Structure profonde".
وتتفاعل العلامات الأخرى المدرجة ضمن الوحدات السيميائية الدلالة على الفتن والصراع، نحو: النيران، البؤس، الصراخ، الدخان،... وذلك في السياقات الآتية:
ـ "وألسنة النيران تضيء المكان(58)". و"ينطلق البؤس والشقاء"(59)". و"صراخ النسوة يملأ الأفق ويزاحم الدخان الأسود"(60).
وكل هذه العلامات تدل على شدة العاصفة التي أثارتها الفتن والصراع، وهي تسهم بدورها في تحريك انفعالات المتلقي، وفي تشويقه إلى متابعة السرد القصصي.
التمفصل الثالث: الوحدات السيميائية الدالة على الشرف والبراءة.
لقد اتهم بعض أهل القرية "شرشابة" الحكيمة "منال" في شرفها وفساد أخلاقها، حتى باتت "لا تسمع إلا الكلمات الوقحة التي أشاعوها عنها"(61).
وكانت كلما راودها أحدهم إلا وتذكرت كلمات أبيها، وهي صغيرة: "يا منال... احذري الرجال... لا تفرطي في شرفك قيد شعرة... سوف أنزعج في قبري... نحن فقراء... رأس مالنا الشرف، والشرف هو ستر الله"(62).
فالتفات السارد إلى الماضي من جديد والرجوع إليه يعد خاصية فنية رائعة في الطرح السيميائي، إذ يوصف ذلك بالارتداد في الفعل السردي، وهو العودة إلى فكرة ذكرت في سياق ما، فأرجئ تقديمها لغاية فنية، منها حب المزج بين الزمن الحاضر والماضي، وإدماج أحدهما في الآخر بطريقة تتوخى الحيوية والحركية المتجددة في المنظومة السردية(63).
ولما بلغت الشائعات مداها إلى سمع "منال"، اندفعت تقول: "هذا الرجل الذي تطلقون عليه قاموساً من الصفات... الوحش... الذئب... الثعبان... أنا لا أخافه... وعندما يفكر أن ينظر إلي نظرة غير مهذبة فسوف أقتلع عينه... يجب أن يعلم أهل "شرشابة" ما أقول... أنا لست هينة سهلة المنال، ولكني فتاة مثقفة... ذات كبرياء... لن أطأطئ رأسي لأحد..."(64).
فالسارد ينفي أن تكون "منال" سهلة المنال على غير دلالة اسمها الذي اختاره. والواقع إن إدراك المتضادات يشكل الأساس لما يسميه قريماس "greimas" بـ: "بالبنى الأولية للتدليل أو الترميز" التي ترتكز عليه نظرياته في علم الدلالة(65).
وهكذا نجد هذه الشخصية المتحولة تثور مدافعة عن شرفها، فهي قوية ثائرة، لا تلبث على شيء حتى تعدل عنه إلى سواه؛ فتهشم قواعد الصمت والتقاليد والعرف. ومن حيث هي وحدة سيميائية في النظام السردي نجدها تتحرك لتخترق النصوص السردية، وقد برزت على سطح الخطاب، وكشفت عن معاني: الجرأة، والصراحة، والحق، والتبرئة...
وقد برأ الباشكاتب عبد المعطي "منال" مما نسب إليها أهل القرية من أمثال حامد المليجي، والشيخ المداح (خطيب المسجد الكبير)، حيث يقول: لقد "ألصقوا بها كل إثم ونسبوا إليها كل كارثة... حتى الدودة التي أصابت القطن... كانت بسببها... لقد غضب الله عليهم بسببها... فعاقبتهم هذا العقاب الأليم"(66). ثم استأنف ليقول: "ليست منال هي السبب... إنهما [المعلم حامد، والحاج علي] يتناحران من أجل الفوز بها، وهي ترفض هذا وذاك"(67).
وتفرج الأزمة وتحل العقدة من خلال حلقات السرد المثيرة بعد أن يبلغ الحدث غايته من التوتر، فتنقل "منال" من قرية "شرشابة" التي جاءتها وهي كارهة إلى مستشفى أم المصريين بالجيزة، حيث تصبح قريبة من أمها وإخوتها بالقاهرة.
المفتصل الرابع: الوحدات السيميائية الدالة على انفراج الأزمة.
هدأت العاصفة التي اجتاحت قرية "شرشابة". وبتعبير آخر توقفت الفتن والصراعات، فعاد الأمن والسلام إلى أرجاء القرية، وذلك بعد أن أفرج على المعلم "حامد المليجي"، بضمان مالي، وأطلق سراح "الحاج علي" بعد إيقافه عن العمل بمشيخة البلد، وحول الطبيب "رمزي"، والحكيمة "منال" من الوحدة المجمعة.
وقدم السارد هذه الأحداث في مشهدين:
يبدأ الأول حين سماع نبأ الإفراج على المعلم "حامد"، وخروج الحاج "علي" من السجن، وتحويل الحكيمة والطبيب.
ويبدأ الثاني حين اتفاق الطبيب "رمزي"، والحكيمة "منال" على الزواج، واستعدادهما للرحيل. وينتهي حين تحركت العربة التي تنقلهما، ووقوف العشرات من رجال القرية لتوديعهما.
والزمن الحاضر للسرد ـ هنا ـ هو زمن الصباح المقترح لرحيل الباشكاتب "عبد المعطي" عن الحياة، ورحيل الحكيمة "منال، والطبيب "رمزي" عن قرية "شرشابة"، إلى حيث تم تحويلهما.
ولم يأت اختيار زمن "الصباح" موعداً للرحيل من قبيل الصدفة، بل جيء به إشارة "Signe" إلى بداية عهد جديد، تمد فيه المدينة يدها إلى القرية. فتتحرر من كل ما هو جامد ورديء من التقاليد البالية والموروثات المحنطة.
وقد استخدم السارد كلمات تومئ إلى النهاية السعيدة للقصة نحو: تهدأ، السلام، سعيدة، يبتسم، انبساطه، انشراحه، ود، تتعانق،...
وهذه الكلمات جاءت في سياقات تشير إلى نهاية الصراع وانفراج الأزمة، ذلك في مثل: "لتهدأ النفوس، وتعود المياه إلى مجاريها ويفوح عبير السلام"(68). و"لا شك أنك سعيدة بانتقالك قرب الأسرة"(69). ويبتسم قائلاً: "أجل... أعرف أن فيك شيئاً ما... يجعلك قريبة إلى نفسي"(70). و"كان هو الآخر في قمة انبساطه وانشراحه"(71). و"... صافحا الطبيب ومنال في وداع عميق... كانت قلوبهم تتعانق، وأطل من العيون بريق صاف نبيل بريق بدد ما شاب الذكريات من ظلام وآلام"(72).
وتتراءى لي دلالة الكلمات وما توحي به من خلال السياق أن العاصفة هدأت، وأن الأمن والسلام قد عاد إلى قرية "شرشابة".
ويمكن أن يستنتج من هذه الدراسة ما يأتي:
ـ المنظومة السردية في "الربيع العاصف" مفاعلة موضوعية، الإطار فيها مرتبط بالدعوة إلى الأخلاق الرفيعة، والتخلي عن الموروثات البالية والتقاليد الجامدة.
ـ الشخصيات والحبكة السردية والأبعاد المكانية والزمانية وردت كلها لتكشف عن حقائق الحياة وواقعها في الريف المصري.
ـ إن هذه القصة تبرز حقائق الحياة سهلة، وتؤمن بمقدرة الإنسان على الارتقاء والابتكار، وترحب بالجهود البناءة لتطوير حياة الأمة.
ـ ورود التمفصلات النصية منسجمة مع تطور أحداث القصة وتقنياتها، ونظامها السردي.
ـ اللغة السيميائية تمثل نظاماً علاماتياً متميزاً، يعكس أفكار وتصورات الجماعة اللغوية في فترة من حياة بقعة من الوطن المصري.
ـ ارتباط العلامة من حيث هي وحدة سيميائية بصورة حسية في تنمية أحداث الرواية وتطويرها، وفي ربط المخاطب "المتلقي" بأفكار المبدع، إذ تميزت الرواية بوصف عام بالإيحاء والتوصيل.