غالية الذرعاني مشرف منتدى
وسام النشاط : وسام المبدع : البلد : ليبيا عدد المساهمات : 268 نقاط : 511 تاريخ التسجيل : 29/04/2010 المهنة : معلمة
| موضوع: صَيّادُون في شَارعٍ ضَيِّقٍ....المُتَخَيَّل والواقِعُ 2010-10-28, 13:39 | |
| صَيّادُون في شَارعٍ ضَيِّقٍ المُتَخَيَّل والواقِعُ سليمان حسين
إِنَّ النَّصَّ الأدبيّ، بمجرد اكتسابه صفة أدبيّ يكون قد انتقل بطبيعته الجديدة بين الواقع(العالم، التاريخ)وبين المتخيل الذي يشكّل العلم الافتراضي المنبني في النصّ،وإنّ عملية الانتقال هذه هي لتي تحدد مفهومنا لمعنى الواقع والواقعية وكذلك لمعنى المتخيل وتحدد أيضاً أدبية النصّ في التمييز بين ما هو أدبي وما هو واقعيّ. هذا الفهم للواقع والمتخيل يولد أمام الباحث مفهوماً نسبياً يجعلهما متداخلين متقطعين ليتعدد الواقع وتتعدد مفاهيمه. في العمل الروائي المنجز يكون المتخيل هو واقع النصّ أي أن المتخيل يتحول من كونه متخيلاً إلى واقع افتراضي في الرواية لأن «الرواية تاريخ كان يمكن أن يقع»(1) تكون وظيفة الواقع في هذه الحالة متكأ تاريخياً، لأن النصّ يعزله ويقصيه عنه، ويكون الاتكاء عند الكثيرين من المبدعين جدلياً لا يمكن فصل مكوناته، أحدها عن الآخر لأنها تشكل فيما بينها عالماً متكاملاً يختل إذا نقص أو اختل أحد مكوناته. «صيادون في شارع ضيق،الرواية الثانية لجبرا إبراهيم جبرا قامت بتمثيل هذا العالم وصياغته مرة أخرى كعالم ثانٍ موازٍ للواقع، وقامت بمقاربته وتحريه وفرز مجموعة معطياته على الرغم من تعددها وكمها الهائل في مرحلة من مراحل حركة التاريخ العربي(3) كان الواقع فيها محشوداً في مواجهة الأحداث والحركات الاجتماعية الحضارية على المستوى الداخلي والمستوى الخارجي، لذلك كان على «صيادون » شأنها في ذلك شأن الرواية العربية عامة في تلك المرحلة أن تستنفر جميع قدراتها وتنوعاتها الثقافية في حدي الفنّ الرّوائيّ (الخطاب) أي المضامين و(لنص) الذي يشكل البنى الفنية حاولت الرّواية التعامل مع الواقع في اتجاهين رئيسيين عرضت من خلالهما العالم. 1- الخطاب الاجتماعي والحضاري: تجليات هذا الخطاب هي أيضاً في مستويات متداخلة: أ. المستوى الأول: تصوير الواقع الاجتماعي الكلي ومفرزاته الحضارية ودراسة وعي المجتمع في أكثر توجهاته وأكثر فئاته ورصد حركة المجتمع التي أنتجها واقعه. ب. والمستوى الثاني: متابعة انحلال الطبقة الإقطاعية بتصوير الوضع الاجتماعي والسياسي للبقايا الآسنة من هذه الطبقة. أولاً: الاجتماعي: لا يُمكن الحديث بشكل مستقل عن ظواهر اجتماعية بمعزل تام عن المتممات الشقيقة والجدلية التي هي ظواهر الحضارة وظواهر السياسة التي ينشأ عنها حتماً الفعل الاجتماعي ويتوجه ضمن مسار رؤيتها وتوجهها، ولكننا سنحاول - قُدرتُنا- الفصل بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي تسهيلاً للتناول والدراسة. - البوابة الأولى التي تفتحها «صيادون» على واقع المجتمع البغدادي في فترة الخمسينات هي تصوير الوجه السياحي( المفترض الحضاري الإيجابي) تنفتح هذه البوابة على أزمات حضارية واجتماعية ناظمها الإعياء الإنساني والحضاري الذي أصاب المجتمع والفساد المتراكم في جسم الحياة الاجتماعية، اللذان حوّلا الكائن البشريّ إلى كائن يقوم بوظيفية طبيعية بالمعنى الغريزيّ، شأنه شأن موجودات العالم الأخرى. - البوابة الثانية للمدينة الرمز (بغداد) هي المبغى(4)، هذه البوابة التي كونت (المرصد الاجتماعي) الذي سلط منه جبرا الضوء ضوء الكشف الذي يعري فيه الحياة الاجتماعية السائدة وهذا التصوير للمشهد الاسطوري لمدينة (البغاء) التي تتنفس بها بغداد من خاصرتها وتتقيأ فيها سخامها، يُتوجهُ الحدث الاجتماعي التقليدي الطعن حتى الموت غسلاً للعار(5). ولا يشكل المبغى البوابة الثانية للنموذج المدني العربي فحسب بل يشكل إضافة إلى ذلك المركز والبؤرة الاجتماعيين ويظهر التناقض الاجتماعي في مفارقة صارخة عندما يتجاور المتناقضات « نحن شعب من المتناقضات فأكبر بناياتنا تقع وسط البيوت الطينية وأفضل شعرائنا يكتبون أتفه النثر، ونحن نستعمل أنقى الكلمات لننحدر بعدها إلى ابذأ لغو يمكن أن تعبر عنه لغة من اللغات»(6).ويشتد التناقض في وعي المفارقة عندما تتجاور التناقضات الكبرى، يقول أحد الأشخاص في الرواية لجميل : «بدأت البداية الصحيحة إذن! أعني المبغى فهو وسط المدينة وفي هذه المنطقة أيضاً تقع أجدر مدراسنا بالاحترام/»(7). ثانياً: الطبقي: ساد الرواية بعد الانتهاء من المشاهد الافتتاحية التي تحدثنا عنها التصوير الطبقي لأحداث حياة أسرة سليلة البائد الإقطاعي ما زالت وفية أشد وفاء لقيم هذا البائد، لقد رصد الخطاب حركة تفكك هذه الطبقة وانحلالها ومحاولة حفاظها على بنائها من خلال محاولة نقلها إلى الطبقة التي يفترض أن تتحول إليها وهي البرجوازية ولكن دون جدوى. ما زالت هذه الطبقة وريثة القيم في العهد العُثماني لا تستطيع أن تعي أن هذه القيم يجب أن تزول وتتلاشى لذلك فهي تتخلى عن أفرادها إذا شكلوا خطراً ما على لهذه القيم: يقوم العقيد (طالب) وهو والد (عدنان) الشاب المتمرد بطرده من البيت والتبرء منه وكان هذا الطرد في البداية لأسباب أخلاقية تحول بعدها إلى بعده الطبقي، وقد استاء الوالد فوق كل شيء من معارف ابنه الجدد الذين ما كان المرء في العهد العثماني ليعترف بوجودهم»(8)لكنّ الحديث الطبقي في الرواية يبقى في أكثره وصفياً يعكس انحيازاً كبيراً نحو الواقع ضد المتخيل ويغيب الإعلان الصريح عن موقف واضح من هذا الطبقي. ثالثاً: الحضاري والفكري: ما يميز «صيادون» كخطاب روائي أشد التصاقاً بالواقع هو تلك القدرة البارعة على استيعاب البُعد الحضاري لأزمة الأمة العربية، وفي طرح جميع المتباينات الفكرية التي تحدد الانتماءات والنظريات التي ظهرت في سبيل الوصول إلى تجاوز الإشكالية العربية. حفل الخطاب بالمحاورات (الافلاطونية) حول أزمة الحضارة وحول الخروج من هذه الأزمة ولم تقف المحاورات عند مناقشة الريث الحضاري العربي فقط بل اعتبرت أن هذه الأزمة أزمة كونية أزمة الإنسانية جمعاء وتعددت الرؤى وتعددت الحلول وتباينت بين الدعوة إلى العودة إلى الصحراء (9) والقفول إلى قيم البادية والعشيرة في أقصى انضباطاتها واستلاباتها وبين البحث عن بدائل حضارية وصلت إلى طرح (نظام الفوضى) والبوهيمية بديلاً حضارياً.(10) إن هذا التباين في المواقف من الإشكالية يعكس تبايناً فكرياً في مرجعيته ويعود إلى التباين الواقعي في فترة كتابة الرواية إذ كانت التيارات الفكرية والمفاهيم في اشد صراع لها منذ الصراعات الفكرية الأولى التي جرت في القضايا الدينية والفلسفية في التاريخ العربي. 2- الخطاب السياسي: لم يخل تاريخ العراق على مدى مراحله من التناقضات إلى درجة كانت فيه هذه التناقضات إشكالية أعيت منطق الجدل التاريخي وأدهشته، وقد كان خطاب جبرا وافياً جداً لتصوير تناقضات الظرف السياسي في العراق على الرغم من أن المتوقع منه ككاتب ينتمي إلى شعب له قضيته الخاصة أن ينقل تناقضات قضيته ولكن الوضع السياسي العراقي يمكن أن ينسحب بنسبية ما على الظرف السياسي العربي عامة وجبرا كان يبحث عن فهم شامل لقضية الحضارة العربية والسياسة التي تصنعها، إذن كان هناك قضيتان سياسيتان مهمتان بالنسبة لجبرا: أ- الظرف السياسي العِراقيّ (الذي يمكن اعتباره نموذجاً منتقى للبحث والدراسة من النماذج العربية الأخرى) - صوّر الخطاب مفاصل الأحداث السياسية في العراق كالثورة والحركات الطلابية العراقية التي كانت تقود العمل الجماهيري الثوري إثر كل حركة سياسية أو انقلاب يجتاح العراق وصور أيضاً على المستوى السياسي علاقة الشعب بالسلطة وهي علاقة عداء، علاقة طرفها (حاكم متسلط ومحكوم متذمر) لقد كانت قضية الشعب العراقي الكبرى هي علاقته بالسلطة وطريقة تعاملها مع الأوضاع والأحداث السياسية وعلاقتها بالاستعمار. ب- الظرف السياسي الفلسطيني: شكلت قضية فلسطين المأزق الحضاري الأعظم الذي لم تتعرض لمثله الدولة العربية منذ قيامها، وكان لزماً على الخطاب أن يولي هذه القضية اهتمامه الأكبر لأنها التحدي الأكبر لصيرورة الحضارة العربية. لقد قام الخطاب بتوصيفات متنوعة لهذه القضية وفق الأبعاد التالية: - توصيف الحدث كواقع انتفت فيه فنية المتخيل، إذ وصف الخطاب الحدث احتلال فلسطين وتخلي البريطانيين عنها لليهود توصيفا تاريخياً انطباعياً انتقائياً. - لا يخلو هذا التوصيف من البعد الشعوري الفجائي في كثير من أبعاده إذ حمل الكاتب بطله ذكرى سوداء أليمة هي ذكرى أنه اندثار خطيبته تحت الأنقاض وقد تقطعت أوصالها على مرأى منه: «وكالمجنون تسلقت الأنقاض والحجارة الكبيرة وقضبان الحديد في أمل يائس ثم شعرت بشيء ناعم يرتطم بيدي، فحفرت حوله كانت يداً مقطوعة من الرسغ كانت يد ليلى وخاتم الخطبة يحيط بإصبع الخنصر فجلست وبكيت»(11) - يشكل الحدث انتقالاً حضارياً بين طور وطور إذ ينتقل الفلسطينيون - بفعل الحدث الذي قامت به مجموعة همجية احتفظت بهمجيتها منذ بدائيتها - من الطور الذي توصلوا إليه، طور التراكم الحضاري والإنساني إلى طور الطفولة الحضارية التي تتميز بخصيصة البحث عن اللقمة والعودة إلى الصيد من أجل إشباع الحاجة الأولية :«المسألة الآن مسألة حاجات أولية، نحن نساق بالتدريج إلى حيث بدأ الجنس البشري حينما بدأ الزمن، بدلاً من أن نفكر باستعادة أرضننا غدا علينا أن نفكر بإطعام اللاجئين. لا بد من أن نأكل فحتى وجبتنا اليومية الواحدة أصبحت في خطر، علينا بالعودة إلى مرحلة الصيد»12 لقد كان جبرا في "صيادون" وفياً للواقع، واستطاع ببراعة نقله إلى نص، إلى خطاب، إلى حديث روائي يُقنع فرضيات الواقع والمتخيل بنسبية معينة نظراً إلى الهدف الذي ألفت من أجله الرواية وهو كما صرح جبرا في أكثر مقابلاته محاولة شرح قضيته للآخر ؛ لذلك قام بكتابتها بالإنكليزية. أيلول 1991.
الهوامش:
1) الحلم والفن والفعل، جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات 1988 ط(2)ص 345 من كلام لأندريه جيد. 2) كتب جبرا روايته «صيادون في شارع ضيق» بالإنكليزية وترجمها الدكتور محمد عصفور ونشرها لأول مرة بالعربية عام 1974 وقد نشرتها دار الآداب في طبعتها الأولى. 3) ظهرت الرواية بالإنجليزية في إنكلترا عام 1960 وطبيعي أن نستنتج أن جبرا كتبها قبل هذا التاريخ أي أن الرواية كتبت لتصور واقع الخمسينات وما قبلها. 4) يظهر في مشهد وصول جميل فران بطل الرواية إلى بغداد من الصفحة التاسعة حتى الصفحة الخامسة عشرة. 5) صيادون ص 36 وكذلك ص 56 مشهد مقتل الفتاة غريمة على يد أخيها يوسف. 6) صيادون 39. 7) صيادون 369 8) صيادون 44- 9) و10) يمكن العودة إلى الفصل الثالث عشر حيث يجري حوار يمتد على مدى الصفحات 89- 100. 11) صيادون ص 19. 12) صيادون ص 24. |
|