عشاق الكتب
عبدالعال بن سعد الرشيدي
(من موقع الألوكة الثقافية)
قال ابن قيِّم الجوزيَّة - رحمه الله -: "وأمَّا عُشَّاق العلم فأعظَم شغفًا به وعِشقًا له من كلِّ عاشقٍ بمعشوقه، وكثيرٌ منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر".
وقال أبو الفضل الرازي: هذه الأوراق تحلُّ منَّا محلَّ الأولاد.
وذكَر الإمام أبو محمد بن حزم - رحمه الله - في "رسالة مراتب العلوم" دعائِمَ العِلم، فعَدَّ منها "الاستكثار من الكتب، فلن يخلوَ كتابٌ من فائدة، وزيادة علمٍ يجدها فيه إذا احتاجَ إليه، ولا سبيلَ إلى حفظ المرء لجميع علمِه الذي يختصُّ به؛ فإذْ لا سبيل إلى ذلك، فالكتب نِعْم الخِزانة له إذا طُلِب.
ولولا الكتبُ لضاعَت العلوم ولم تُوجَد، وهذا خطأٌ ممَّن ذَمَّ الإكثار منها، ولو أُخِذَ برأيِه، لتَلِفَت العلوم، ولجاذَبهم الجُهَّال فيها، وادَّعوا ما شاؤوا؛ فلولا شَهادة الكتب لاستوَتْ دعوى العالم والجاهل".اهـ.
أخرج الخطيبُ في
"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" عن الزُّبير بن أبي بكر بكَّارٍ قال: قالت ابنةُ أختي لأهلنا: خالي خيرُ رجلٍ لأهله، لا يتَّخِذ ضرَّةً ولا يشتَرِي جارية، قال: تقولُ المرأةُ
(أي: زوجته): والله لَهذه الكتب أشدُّ عليَّ من ثلاثِ ضرائر!".اهـ.
1 - ذكَر الحافظ ابن حجر في
"الدرر الكامنة" في ترجمة شافع بن علي الكناني ت 730: أنَّه كان يُحبُّ جمعَ الكتب، حتى إنَّه لَمَّا مات ترَك نحو العشرين خزانة ملأى من الكتب النَّفِيسة،
أصابَه سهمٌ في وقعةِ حمص في صدغه سنة 680 فكان سبب عماه؛ فلزم بيته، وكان من شِدَّة حُبِّه للكتب إذا لمس الكتابَ يقول:
"هذا الكتاب الفلاني، ملكتُه في الوقت الفلاني، وإذا طُلِبَ منه أيُّ مجلَّد كان، قام إلى الخزانة فتناوَله كأنَّه كما وضَعَه فيها".اهـ.
وهذا ابن الجوزي يتكلم عن نفسِه في
"صيد الخاطر" أثناء حديثه عن المطالعة والإكثار منها: "وإني أُخبِر عن حالي: ما أشبَعُ من مطالعة الكتب، وإذا رأيتُ كتابًا لم أرَه، فكأنِّي وقعتُ على كنزٍ، ولقد نظرتُ في ثَبَتِ الكتب الموقوفة في المدرسة النِّظاميَّة، فإذا به يحتَوِي على نحو ستَّة آلاف مجلَّد، وفي ثَبَتِ كتب أبي حنيفة، وكتب الحُمَيديِّ، وكتب شيخنا عبدالوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشَّاب - وكانت أحمالاً - وغير ذلك من كلِّ كتاب أقدر عليه.
ولو قلت: إنِّي طالعتُ عشرين ألف مجلدٍ كان أكثر، وأنا بعدُ في الطَّلب".اهـ.
2 - وفي ترجمة الحافظ أبي طاهر بن أبي الصَّقر ت (476) في
"المنتظم"؛ لابن الجوزي أنَّه قال عنه:
"كان من الجوَّالين في الآفاق، والمُكثِرين من شيوخ الأمصار، وكان يَقول: هذه كتبي أحبُّ إليَّ من وزنها ذهبًا".اهـ.
وقد أُصِيْبَ ببعضها كما ذكَر الذهبي في
"تاريخ الإسلام"، أعظمَ اللهُ أجرَه في مصيبته بها.
3 - قال السخاوي في
"الضوء اللامع" في ترجمته الإمام اللغوي محمد بن يعقوب الفيروز آبادي ت(817) أنَّه اقتَنَى كتبًا نفيسَة
(حتى سمعَه بعضهم يقول):
"اشتريتُ بخمسين ألف مثقالٍ ذهبًا كتبًا، وكان لا يُسافِر إلا وصحبته منها عدَّة أحمال، ويُخرِج أكثَرَها في كلِّ منزلةٍ فينظر فيها ثم يُعِيدها إذا ارتَحَل".اهـ.
4 - جاء في
"سِيَر أعلام النبلاء" في ترجمة المستنصر بالله أبي العاص الحكم بن عبدالرحمن الأُموي، صاحب الأندلس أنَّه "كان جَيِّد السيرة، وافِر الفضيلة... ذا غرامٍ بالمطالعة وتحصيل الكتب النفيسة الكثيرة حقّها وباطلها، بحيثُ إنها قاربت نحوًا من مائتي ألفِ سِفر، وكان باذِلاً للذهب في استِجلاب الكتب، ويُعطِي مَن يتَّجِرُ فيها ما شاء، حتَّى ضاقَتْ بها خزائِنُه، لا لذَّة له في غير ذلك.
وكان الحَكَمُ مُوثَّقًا في نقلِه، قلَّ أن تجد له كتابًا إلا وله فيه نظرٌ وفائدة، ويكتب اسمَ مؤلفه ونَسبَه ومولِدَه، ويُغرب ويُفيد".اهـ.
5- قال الجاحظ في
"كتاب الحيوان":
"سمعتُ الحسن اللؤلؤي يقول: غَبَرَتْ أربعين عامًا ما قِلْتُ ولا بِتُّ ولا اتَّكأتُ إلا والكتابُ موضوعٌ على صدري".
6 - قال ابن رجب - رحمه الله - في "ذيل طبقات الحنابلة": قال الإمام طلحة بن مظفر العلثي قال: بِيعَتْ كتب ابن الجواليقي في بغداد، فحضرها الحافظ أبو العلاء الهمداني، فنادوا على قطعةٍ منها: ستين دينارًا، فاشتراها الحافظ أبو العلاء بستين دينارًا، والإنظار من يوم الخميس إلى يوم الخميس، فخرج الحافظ واستقبل طريق همذان، فوصَل فنادى على دارٍ له، فبلغت ستين دينارًا، فقال: بيعوا، قالوا: تبلغ أكثر من ذلك، قال: بيعوا، فباعوا الدار بستين دينارًا فقبضها، ثم رجع إلى بغداد فدخَلَها يوم الخميس، فوفى ثمن الكتب ولم يشعر أحدٌ بحاله إلا بعد مدَّة.
7- وفي ترجمة العلامة النحوي عبدالله بن أحمد المعروف بابن الخشَّاب ت (567) عن ابنِ النجار قال: إنَّه لم يَمُت أحدٌ من أهل العلم وأصحاب الحديث إلا وكان يشتري كتبه كلَّها، فحصلت أُصول المشايخ عنده.
وذكَر عنه: أنَّه اشترى يومًا كتبًا بخمسمائة دينارٍ ولم يكن عنده شيءٌ، فاستمهَلَهم ثلاثة أيامٍ، ثم مضى ونادَى على داره، فبلغَتْ خمسمائة دينار، فنَقَد صاحبَها وباعَه بخمسمائة دينار، ووفَّى ثمن الكتب.
وعن ابن الأخضر، قال: دخلتُ عليه يومًا وهو مريضٌ وعلى صدره كتاب ينظر فيه، قلت: ما هذا؟ قال: ذكر ابن جني مسألة في النحو، واجتهد أنْ يستشهد عليها ببيتٍ من الشعر فلم يحضره، وإنِّي لأعرف على هذه المسألة سبعين بيتًا من الشعر، كل بيت من قصيدةٍ تصلُح أنْ يستشهد به عليها.اهـ.
هَوَايَ هَوًى لَمْ يَذْخَرِ النَّاسُ مِثْلَهُ بِهِ طِبْتُ مَا بَيْنَ الكِرَامِ وَطَابَا
أُحِبُّ اللَّيَالِي لاَ لِلَهْوٍ وَإِنَّمَا لِأَقْرَأَ سِفْرًا أَوْ أَخُطَّ كِتَابَا
تُسَيِّرُ أَقْلاَمِي رِكَابًا خَوَاطِرِي فَتُدْرِكُ مِنْ ظَعْنِ الْخَيَالِ رِكَابَا
|
وكان المرحوم أحمد زكي شيخ العروبة منذ نشأته الأولى من عُشَّاق العلم، وهذا العشْق هو الذي كان يَحمِله على إنفاق كلِّ ما زاد عن حاجته من المال في اقتِناء الكتب النَّفِيسة، ولا سيَّما الخطية النادِرَة، وقد جمَع خِزانة منها ذات قيمةٍ كبيرةٍ، وقَفَها على طُلاَّب العلوم وأمرُها مشهورٌ. وقعتُ على كلامٍ للشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - حينما سأَلَه سائلٌ عن: حكم مَن يجمَع كتبًا ولا يقرؤها، وهذا نصّ الفتوى:
س: أنا رجلٌ - ولله الحمد - لديَّ العديدُ من الكتب النافعة والمفيدة والمراجع، لكنَّني لا أقرؤها بل أختار منها البعض، هل يلحَقني إثمٌ في جمعِ هذه الكتب عندي في البيت، مع العلم أنَّ بعض الناس يأخُذون من عندي بعض الكتب يستَفِيدون منها ثم يُرجِعونها؟نشر في "جريدة المسلمون"، العدد (498) في 26/ 2/ 1419 هـ.ج: قال الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - ليس على المسلم حرجٌ في جمْع الكتب المفيدة وحفظِها لدَيْه في مكتبةٍ لمراجعتها والاستِفادة منها، ولتقديمها لِمَن يَزُورُه من أهل العلم ليستَفِيدوا منها، ولا حرج عليه إذا لم يراجع الكثير منها، أمَّا إعارتها إلى الثقات الذين يستَفِيدون منها فذلك مشروعٌ وقربةٌ إلى الله - سبحانه - لِمَا فيه من الإعانة على تحصيل العلم، ولأنَّ ذلك داخلٌ في قوله - سبحانه -: ﴿
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]، وفي قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والله في عَوْنِ العبد ما كان العبدُ في عَوْنِ أخيه))؛ أخرجه مسلم برقم (4867).
"مجموع فتاوى ومقالات ابن باز" (الجزء رقم: 24، الصفحة رقم: 79).اهـ.
• وانظر المزيد
"تقييد العلم"؛ للخطيب البغدادي - وكتاب
"في الحضارة الإسلامية"؛ لعبدالله الحبشي، وكتاب
"عشاق الكتب"؛ لعبدالرحمن الفرحان،
"المسارعة إلى قيد أوابد المطالعة"؛ لجميل العظم.