ترميز الدلالة في خطاب جبر إبراهيم جبراً
الروائي
نموذج الصَّخر والماء
سليمان حسين
ما يُميّز النصّ الروائي الذي ينتجه جبرا إبراهيم جبرا القُدرات الإبداعية المتعددة، وأهمّها القدرة الشعرية للأداء الرّوائيّ، والقُدرة البلاغية التي يحَمّلها لِلُّغةِ، إذ تجافي اللغة الأداء السرديّ التقليديّ وتتجاوزه رامية إلى دلالات بلاغية جماليّة ذات منزع شعريّ صرف، وربّما يكون مردْ ذلك إلى التنوّع الإبداعي والمساحة الثقافية والفنيّة الواسعة التي يتحرك عليه جبرا إبراهيم جبرا فهو أولاً من النقاد العرب الذين كان لهم الأثر الكبير في تطور الحركة النقدية العربية الحديثة، وهو كذلك فيما يتعلق بالترجمة فقد قام بترجمة روائع شكسبير بروائع لا تقل قدراتها الإبداعية اللغوية عن الأصل الشكسبيريّ، يضاف إلى ذلك أنه فنان تشكيلي وقد كتب كماً نقدياً لا بأس به في نقد الأعمال التشكيلية لبعض الفنانين العرب، والعراقيين بخاصة لأنه عاش الجزء الأكبر من حياته في العراق، ويعد جبرا إبراهيم جبرا من الروائيين العرب الكبار الذين اسهموا إسهاماً كبيراً في إرساء أسس الفن الروائي بعد إسهامهم في تطويره وإنمائه ويمكن أن نشير أيضاً إلى أن جبرا أنجز في حياته ثلاثة دواوين شعرية نحى فيها المنُحى النثريّ للقصيدة لكنّ هذه التجربة الشعرية كما يبدو لم يكن لها القدرة الإبداعية التي توفرت للأنواع الأدبية الأخرى التي أنجزها جبرا وأنه انتبه إلى ذلك فأوقف إنجازاته الشعرية، وللكاتب مجموعة قصصية واحدة لا ترقى أيضاً إلى مستواه الإبداعي في الأنواع الأخرى وهذا الغنى الإبداعي المتنوع جعل للكاتب خصوصيته الإبداعية في إنجاز النصوص.
ليس هدفنا هنا أن ندرس الرمز والترميز دراسة نظرية أو أن نحدد مفاهيم خاصة للرّمز أو الرّمزية وإنما الهدف أن نعرض قراءتنا لمجموعة من الدلالات التي انزاحت بمدلولها أو تخطت هذا المدلول إلى مساحات تعبيرية إضافية لا تستطيع اللغة الإشارية الخام الامتداد إليها.
أنشأ أكثر النقاد نصوصهم النقدية التي نصت على استكشاف الرّمز، على النص الشعريّ لأنّ استكشافه (بكل مفهوماته) رافق حركة النص النقديّ الشعريّ وتطور بتطوره، ومازال النصّ النقديّ الرّوائي العربي في أكثر توجهاته يعتمد المقولات النقدية الشعرية، لأن نظرية الرّواية العربية ما زالت أيضاً في طور التساؤل والبحث عن الأقانيم العامة والنواظم. وليس النصّ النقديّ العربيّ وحده الذي طرحت حوله مثل هذه الإشكالية، بل قام النقد الغربي بطرح هذا التساؤل على حركة النقد الأوروبية، وقد أشار إليه ميخائيل باختين في كتابه"الخطاب الرّوائي" وربما يكون الهدف الأول لوضع كتابه محاولة الإجابة عن هذا السؤال.
في محاولتنا هذه لمحاورة النص ومقاربته سنقوم بقراءة دلالتين رمزيتين في خطاب جبرا إبراهيم جبرا الروائي "الصخر والماء" وطبيعي أن الماء يستدعي البحر كدلالة رمزية خاصة لها أبعادها ومدلولاتها وظهر هذا الثالوث الرمزي (الصخر، الماء، البحر) بوضوح في روايتي جبرا "السفينة" و" البحث عن وليد مسعود" وظهوره متعدد الدلالة لذلك سيتم عرضه وفق ترتيب يكاد يكون تطوريا يخضع لنظام ما، نسبياً.
الــصـخـرة
أ - في السفينة:
1) القدس أجمل مدينة في الدنيا على الإطلاق... ارتقيتُ كل ما فيها من تلال وهبطت كل ما فيها من بين بيوت من حجر أبيض وحجر وردي وحجر أحمر، بيوت كالقلاع تعلو وتنخفض... كأنها جواهر منثورة على ثوب الله"(1).
2) "أولعنا بقرية عين كارم، لأنها تجمع بين الصخر والشجر والماء، وربما لأنها مسقط رأس المعمدان"(2)
3) الصخور امرأة رائعة، ترتفع وتنخفض ارتفاع وانخفاض البطن والنهدين"(3)
في المعادلة الأولى تكون الصخرة ذات مظهر جمالي مكمل فني للوحة في حلم الكاتب يظهر فيها التمازج بين الأرض (الصخر) والسماء، إذ تستدعي الصخور الملونة صورة الإله بأبهى ما يُمكن، وقد رصع ثوبه بجواهره الصخور.
ويتجلى في المعادلة الثانية ارتباط وثيق بين الصخر "ماء المعمودية المحمول النفسي الخبري الذي يعود في جذوره إلى البئر الأولى" التي سقى جبرا منها "ينابيع رؤياه" ينابيع عالمه النفسي أولاً والروائي ثانياً.
ولكي يتم جبرا هذا العالم الموحّد في ذات بطل السفينة قام بإسباغ الأنوثة على الصخر". في المعادلة الثالثة تظهر الصلة الواقعية بين الجسد والصخر من ناحية الملمس؛ ففي الماء يكون ملمس الصخرة الناعم ملمساً أنثوياً خاصة إذا كانت هذه الصخور بيضاء، ومن الملاحظ أن عالم الإبداع لدى الكاتب، لا تتم مصادره إلا بهذا الرمز من خلال تجليات مادية في الجسد لعالم الروح، وعلى هيئة حوريات أسطورية تنبجس الصخور من الماء لتكون أنثى، إن المعهود أن الماء عندما يريد أن يحقق المعجزة ينبجس من الصخر، ولكنّ المعجزة هنا تأتي من قلب المقولة السابقة، وذلك كي يحقق النصّ لذة التضاد التي يسعى إليها الكاتب دائماً.
وتتكرر وتتنوع هذه الدلالات في خطاب جبرا لأنها تشكل بنية خطابية أساساً في عالم الخطاب، ودليلاً على ذلك نأخذ النص التالي الذي يجمع مرموزات الصخر جميعاً ونستوضح معالم الخطاب فيه: "لقد جعلنا من الصخر سراً نتقاسمه فيما بيننا قلنا، إن الصخر، يرمز إلى القدس، شكلها شكل الصخرة... فلسطين صخرة تبنى عليها الحضارات لأنها صلدة عميقة الجذور تتصل بمركز الأرض، والذين يصمدون كالصخر يبنون فلسطين كلها، والمسيح من اختار ليكون خليفة؟ سمعان الصخرة !والعرب ما الذي ابتنوه ليكون أجمل ما ابتنى الإنسان من عمارة؟ قبّة الصخرة، وهؤلاء المزروعون في الليلة المقمرة ترى رؤوسهم وأكتافهم ناتئة من حفرها وإذا هي صخرة، وبركة السلطان ما الذي نهواه فيها؟ الصخر الذي يحيط به الماء كلما كان هناك ماء فلنتغزل بالصخر" (4) يتكوّن هذا النصّ من مجموعة مقولات سنقوم بقرءاتها كل على حدة.
1- "قلنا إنّ الصخر يرمز إلى القدس" تخفي هذه المعادلة وراءها علماً إشارياً هو الإشارة الضمنية إلى قدسية الصخرة لارتباطها بالمقدس الديني ويكفي أن نعيد كتابة هذه المعادلة بضم الدال في القدس لنفهم هذا الارتباط" الصخرة ترمز إلى القدس"
2- "فلسطين صخرة تبنى عليها الحضارات لأنها عميقة الجذور..." ترتقي هذه المعادلة إلى الفهم الحضاري الإيجابي لرمز الصخرة، لإظهار وجه آخر لمقولة "صخرة تتحطم عليها" إن فلسطين صخرة للبناء وليست صخرة للتحطيم والهدم على الرغم من أن الواقع التاريخي الراهن يفرض عليها أن تكون أولاً صخرة محطمة ثم صخرة بانية ولكن بطل السفينة (وديع عساف) اكتفى بمرحلة البناء وأسقط المرحلة التي لا يمكن أن تتم الثانية دونها - ويلعب هنا التاريخ دوراً مهماً في دلالة الرمز دوراً قيمياً لأن التاريخ والجذور تأصيليان، في تثبيت العالم وتسويغه.
3- ولا يتوقف رمز الصخرة عند دلالة الارتباط بالغيب، بل ينتقل ليحمل دلالة وطنية اجتماعية دون فصلها عن سياقها العام لتنشأ دائرة خصب بين الوطن والمقدس والمسيح وخصب البقاء والخلود (المرأة)، "والمسيح من أختار ليكون خليفة له سمعان الصخرة، وخاتمة هذا النشيد "فلنتغزل بالصخرة".
4- البعد الحضاري واضح يؤكده جبرا في كثير من مواضع الخطاب:"العرب ما الذي ابتنوه ليكون أجمل ما ابتنى الإنسان من عمارة؟ قبّة الصّخرة" يتلامح لنا من كل ما حمله جبرا في السفينة أن مصدر هذا الرمز يعود إلى المسيحية كمكون ديني في ذات الكاتب، نقرأ في الكتاب المقدس "هلمّ ترنَّم للرّب فهتف الصّخر خلاصنا، نتقدم أمامه بحمد وبترنيمات، نهتف له، لأن الرّب إله عظيم ملك كبير على كل الآلهة. الذي بيده مقاصير الأرض وخزائن الجبال له الذي له البحر وهو صنعه ويداه سكبتاه اليابسة"(5)
ب- في البحث عن وليد مسعود:
"في الإصحاح الرابع والتسعين وما يليه نقرأ أن السيد المسيح قبل أن يسلم نفسه جمع حوارييه الأثنى عشر لرفع صلاة إلى الربّ وتأدية رقصة دورانية كان هو قائدها، من كلماته في تلك الصلاة، دأب الألوهة الدوران.. سأنفخ في المزمار لترقصوا كلكم دوراناً، من تقاعس عن الرقص فاته سر هذا الاجتماع "هذا النص... يمكن أن يكون مفتاحاً لما فعله وليد مسعود في رواية جبرا "البحث عن وليد مسعود" لقد قام وليد وهو في الفراش مع (مريم الصّفّار)*** برقصة دورانية مترنحة، رقصة (مولوية) محاولاً البحث عن السرّ الذي يربطهما بين الألوهية والأنسنة.
لقد تحركت في وليد وفي مريم الألوهية التي أثارها النشيد الكنسي لعذراء النشيد الذي تعزفه آلة التسجيل بجانبهما، لقد كانت هذه الرقصة تمهيداً وفاتحة لانفجار عنيف في مريم الصّفّار خلق في داخلها عالماً يعود بنا إلى جزء من عوالم السفينة في ترميز الصخرة، لقد أفرد جبرا فصلاً كاملاً في (البحث عن وليد مسعود) لصخرة مريم الصفار بعنوان" مريم الصّفّار تتشبت بصخرة تسكن أعماقها"(6) نقرأ في هذا الفصل ".... أحوم حول كل صخرة، الحجارة المكسورة الحادة أحسُّها تنغرز في قدمي فتزيدها خفة، وجسدي الوثني المشرع لوحشية الليل المثخن بالنجوم ينفذ في الأشياء كلها وتنفذ الأشياء كلها فيه أهو تلاشٍ هذا الوجد كله... التقطت صخرة من الحوض وحملتها، رغم ثقلها... وناولته الصخرة فأخذها منى قائلاً رائعة مثلك!، ودفعني بها برفق إلى الداخل وشعرتُ بضربتها الندية على خاصرتي... وعدنا إلى غرفة النوم وألقى هو بالحجر على الفراش ثم استدار نحوي وركع بين ركبتي... وإنهال على نهدي وشفتي يمتلكني للمرة العاشرة وكأنها المرة الأولى.. وبين الحين والحين ألمح وراء كتفه الصخرة غائرة بثقلها في الفراش"(7)
ما يمكن أن نلحظه الرّابط الواضح أولاً بين رمزية الصخرة والباعث الديني، إننا أمام طقس وثني يُمارس في معبد الآلهة لكن ضمن شرط حضاري وأفق ثافي جديدين تمثل الصخرة في هذا الطقس التعويذة التي تصل بين الأنسنة والألوهة.
والنزعة في هذا المشهد نحو إيجاد عشتار الأمّ المقدسة التي وصلتنا عن طريق الصخرة المجسدة، إنّ مريم الصّفّار تحاول خلق عشتار جديدة في الربط بين جسدها والصخرة. ووليد مسعود يقوم بدور "الرجل المطاوع وغير المقاوم المفتون بهبات ثدييها التواق إلى الخلود بالالتحام الجسدي معها"(8).
البَــــحــر:
صوّة أخرى من الصُّوى الرّمزية التي تحقق الارتباط بين الطامح ومطمحه (المطلق) هنا يفترق البحر كواقع عن الصخر بأنه ذو أفقين أفق ممتد واقعي حقيقي يضاف إلى أفقه الرّمزيّ كما أن غموض الصخرة الموحي بوساطة قساوتها وضيق مساحتها يختلف عن غموض البحر ووحيد بطراوته وامتداده على الرغم من المجاورة المكانية بينهما. لكنهما عندما يأتلفان يشكلان رمزية خاصة نظاماً رمزياً ثنائياً (الصخر والماء) عندما يفارق البحر (كرمز) الصخور فإنه يؤدي وظيفته الرّمزية المستقلة (المعبر) هنا نرى اختلافاً عن الصخر الذي كان رمزاً للاندماج والامتزاج ليصبح البحر قناة بين المنطلق والمستقر، لا يُمكن أن يكون مستقراً لأنه مستقر الموت، إن البحر بناء ثان فوق بناء الصخر يستند رمزياً إلى الصخر (منطلق الخلاص والصلة الامتزاجية)
« البحر جسر الخلاص »
ويكتسب البحر جماله من ارتباطه بالمقدس الوطني إلى جانب ارتباطه هناك في (اللامرئي، اللامحدود) بالسماء فالثلاثة متمازجة ومتماثلة إضافة إلى بعده الحضاري :"هذا البحر الأزرق يتألق غير مكترث، غير حافل، أنا أعرف ذلك لأنه يظن أنه يجمع حضارات الدنيا على شطآنه، ولكنه يحمل أيضاً لطعات من شاطئنا تجعله على هذا التألق، هذا الحُسن، أنا أحب البحر المتوسط وأركب السفينة فيه لأنه بحر فلسطين، بحر يافا وحيفا، وبحر هضاب القدس، ونظرت غرباً، لن تعرف أين تنتهي الأرض وأين يبدأ البحر وأين يلتقي الاثنان بالسماء، فهي ثلاثتها متداخلة متمازجة ومتماثلة.
ويتسم البعد الرمزي الدّلالي في أداء رواية جبرا بالتكامل فليس هناك رمز أحادي مستقل، وإنما تتضافر العناصر الرمزية مجتمعة لتؤدي الأغراض الأيديولوجية والنفسية بمعنى أن الكاتب يحشد جميع أدواته الرمزية اللغوية والفكرية ليخلق لغة ذات إيحاء نفسي محملة ببعد فكري وهذا يعني أنها تخلق المعادلين الشعوريّ والنفسي في جانب والفكري الأيديولوجي في جانب آخر.
أيلول 1991
الهوامش:
1) السفينة: جبرا إبراهيم جبرا، دار الآداب بيروت ط(2) 1979ص17و18
2) و3) نفسه ص18 وما بعدها.
4) السفينة ص56،57.
5) الكتاب المقدس المزامير، المزمور (95)ص 900.
**0ينابيع الرؤيا: عنوان كتاب نقدي لجبرا.
***- مريم الصفّار شخصية عصابية ذات بعد فكري وسيكلوجي خاصّ من شخصيات "البحث عن وليد مسعود
6- البحث عن وليد مسعود: جبرا إبراهيم جبرا، دار الآداب، بيروت ص 225.
7- نفسه ص227- 228.
8- المرأة والألوهية: محمد وحيد خياطة، دار الحوار، اللاذقية سورية ط(1) 1984.
9- السفينة ص5.
10- نفسه ص23.
****- لغز عشتار: فراس السّوّاح، سومر للدّراسات، قبرص ط5، 1985.