ثقي بي
لابن زيدون
ثقي بي يا معذبتي فإني سأحفظ فيك ما ضيعت مني
وإن أصبحت قد أرضيت قوما بسخطي ، لم يكن ذا فيك ظني
وهل قلب كقلبك في ضلوعي فأسلو عنك حين سلوت عني
تمنت أن تنال رضاك نفسي فكان منية ذاك التمني
ولم أجن الذنوب فتحقديها ولكن عادة منك التجني
من هو ابن زيدون ؟
هو أحمد بن عبدالله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي ، ولد بالرصافة من ضواحي قرطبة من أب عالم وأديب ومتفقه عرف بسعة روايته ، وغزارة معارفه ، وكرم أخلاقه ، وقد نوفي ولبنه لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره ، فكفله جده لأمه ، وهو ابن الهداهيد ، الذي اشتهر بالشدة والحزم .
ثقافته وعلمه : كانت قرطبة حاضرة العلم لذلك العهد لأن فيها ابن ذكوان وأبو بكر مسلم بن أحمد بن أفلح النحوي والأديب ، لزمه ابن زيدون وأخذ عنه فنونا من العلم ، فبرع في الفقه والتفسير والحديث واللغة والأدب والتاريخ .(1)
(1) موسوعة دواوين الشعر ، ديوان ابن زيدون ، تح : حنا فاخوري ، دار الجيل ، 1990 ، ص 15-16.
أدبه :
لابن زيدون عدة رسائل في النثر أهمها الرسالة الهزلية أو التهكمية ، التي جعلها على لسان ولادة وهاجم فيها ابن عبدوس ، والرسالة الجدية التي بعث بها من سجنه إلى أبي الحزم الجهوري يستعطفه ويطلب عفوه .
وله ديوان كبير اهتم به العلماء والأدباء اهتماما خاصا لما رأوا فيه من تمثيل للحياة الأندلسية في شتى نواحيه ، وطبعة طبعته الأولى 1932 في شركة ومطبعة البابي الحلبي بمصر ، وقد حققها وشرحها كامل الكيلاني (1) .
عرف ابن زيدون بعشقه لولادة بنت المستكفي ، وفيها نظم هذه القصيدة حينما حصلت الفرقة بينهما نتيجة لإعجاب ابن زيدون بجارية لها اسمها عتبة ، ولأنه سجن فترة أيضا ، ولظهور منافس له هو ابن عبدوس الذي أراد التقرب من ولادة .
والرسالة الهزلية هي فيه ، جعلها ابن زيدون على لسان ولادة ، وابن زيدون في هذه الرسالة كأنه يبعث بقصيدة ملؤها الولاء وكذلك الود والبقاء على العهد رغم أنه لا ينال من ذاك إلا ما هو ضده ونقيضه .
(1) المرجع السابق ، ص 16 .
العنوان :
يطالعنا العنوان دعوة صادقة من ابن زيدون لمحبوبته ولادة التي دعاها لتثق به ، وهذا العنوان بالطبع من وضع المحقق وليس من لبن زيدون ، وذلك لأن القصائد لم تكن تعنون عند القدماء ، وكانت في الغالب تذاع ببدايتها . ولكن أليس يا معذبتي أكثر وقعا وتأثيرا في النفس كعنوان للقصيدة ، إنها تعذبه وتسخط عليه ، وتسلو عنه ، ولا تنيله الرضى ، ولقد تعودت على أن تجني عليه ، فهي دائمة التعذيب له متعمدة لذلك قاصدة له .
ولكن بالنظر إلى العنوان ثقي بي فهو بكرمه يتغاضى عن كل ذلك ، ويقدم الوعود الرائعة لها بالبقاء على الود وحفظه ، وأنه باق على ذلك غير متحول عنه ، على الرغم مما تقابله به من جفاء وصد .
إن ابن زيدون يقدم لنا النتيجة قبل أن يعرض لنا الأسباب فالثقة من جهته هي النتيجة الحتمية لما فعلته به والذي تلى هذه العبارة ولم يسبقها ، وهو يبدأ بفعل أمر في بداية القصيدة مما يوحي لنا بقوته ، وأنه يأمرها رغم هذا كله ، ويتضح أيضا أنه لا يتضرع لها ، بل هو في موقف قوة حتى في هذا الموقف مما يدل على عزة نفسه وإبائه .
المعنى العام للقصيدة :
إن ابن زيدون في هذه القصيدة متعب معنى من أثر ما تفعله به ولادة من تعمد لصده والسخط عليه ، فهو يدعوها إلى الثقة به ، فهو يستحق ذلك ، وأنت بسخطك علي وذلك رغبة منك ، لقد خيبت ظني ، فأنا لم أتوقع ذلك منك ، وقلبي ليس كقلبك فيسلو ويصبر ، كما الحال مع قلبك الذي سلى وابتعد عني ، ولقد تمنيت أنال رضاك ، ولكن الموت ألما كان هو العقاب لتلك الأمنية ، وكل ذاك لم يكن لذنب اقترفته ، ولكن هي عادتك في التجني علي ، ورغم كل ما قدمه من دلائل على أنها تتعمد تعذيبه ، فهو يقدم الولاء لها في البيت الأول ، ويؤكد لها أنه موضع ثقة رغم أنها ضيعت الكثير .
فابن زيدون يوضح في هذه القصيدة أنه حافظ للود ، باق عليه حتى وإن لم يجازى بالمثل ، وهذا يدل على عمق عاطفته وصدقها .
التجربة الشعورية للشاعر :
عاطفة الشاعر وتجربته تجربة حقيقية ، فهو معنى مضنى القلب ، آلمته ولادة بصدها ، فأبدع هذه القصيدة وغيرها الكثير في ذكرها ، ومنافسه ابن عبدوس على حبها يثير النيران في قلبه ، فهي كانت تجتمع في مجلسها الأدبي بالرجال ، فهو في هذه القصيدة يعاتبها على فعلها به ، معاتبة مخفية ولطيفة فطلابه لها كان كأنه طلاب للموت ن فجو القصيدة يؤكد أن التجربة واقعية وحقيقية .
كلمات لها أثر :
إن النص بمحتواه الفكري والمعنوي والتعبيري الذي أراد الشاعر من خلاله إيصال إحساسه ، ركز على بعض الكلمات التي استند عليها كأساس لإقامة النص وتثبيت دعائمه ، وإن لكل نص كلمة هي المحور الذي تدور عليه القصيدة ، ولقد ذهب العديد من الباحثين للاعتقاد بأهمية الكلمة المحورية فقال د. محمد مفتاح ، صاحب كتاب دينامية النص :" فقال نقصد بها ما يبنى عليها النص ، سواء كانت مذكورة أو مضمرة ، ونجد لها شواهد في التراث الإنساني بصفة عامة ، ومنه التراث العربي ، فقد تذكر الكلمة _ المحور ، وقد تضمر لأغراض دينية أو سياسية أو دعابية هزلية ، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك ما نجده في أشعار التعمية والألغاز والتورية "(1)
وبالنظر إلى ما سبق فإننا بحثنا عن هذه الكلمة المؤثرة الحاملة للمعنى في طياتها ، والتي كان التركيز عليها كبيرا، وهي هاهنا كلمتان " ثقي بي " فكل النص يدور على محور هذه الكلمة ، والتي ذهب الشاعر فيها بعد أن عبر عن غضبه عليها مما تفعله به ، وما تتعمده من صد له ، إنه يقدم هذه النتيجة ويصدرها في البيت الأول ، فهو يؤكد لها واثقا أنه ليس ممن يجازون أحباءهم بمثل ما فعلوا ، ولكنه في ذلك يعلو عليها فهو يصفح ويسامح ويتجاوز عن زلاتها ، فكأنه عندما صدر هاتين الكلمتين كان كريما جدا جدا معها ، فهو لم يقدم العتاب واللوم والغضب ولكنه قدم العهد على البقاء وهذا هو الأساس ، فهي بالتأكيد تدرك أنها تغضبه وتؤذي شعوره بتصرفاتها ، ولكن في نظره ليس الألم هو المهم ولكن المهم هو أثره ، فالشاعر ها هنا يقول لها أنا سأبقى على العهد ولن أضيعه وهذا قمة الخلق من ابن زيدون .
تحليل القصيدة :
يبدأ هذا البيت بفعل أمر في بدايته وهو ثقي بي ، فهو يستهل هذا البيت بدعوة لها للوثوق به ، ويناديها بياء النداء وهي بعيدة ، وبعدها عنه هنا لأنها معذبته ولأنها تتعمد صده ، ثم يعقب الفاء وإن المؤكدة لما بعدها وهي سأحفظ عهدي في ما عندي ولن أكون مثلك وأضيع ما ضيعيته أنت مني .
(1) دينامية النص ، د. محمد مفتاح ، المركز الثقافي العربي ، ط 2، 1990 ، ص 94.
والسين سأحفظ للتسويف ، وضعف الذال في يا معذبتي للدلالة على شدة التعذيب وقوته وعمقه ، وكذلك ضعف الياء في ضيعت للدلالة على أنها ض يعت الكثير وبكثير من القص والعمد ، فهي لم تحفظ العهد وهو على العكس منها حافظ للعهد ، ولقد جمع الشاعر في هذه القصيدة بين الثنائيات الضدية ومنها في هذا البيت الحفظ والتضييع .
أما البيت الثاني فيبدأ بحرف شرط وهو إن ، ولقد استخدمه هنا ليؤكد أنها إنما تسخطه وتغضبه لترضي آخرين بغضبه وحنقه عليها ، وهنا إشارة إلى ابن عبدوس الذي كان ينافسه في حبها أنه يشير هنا إلى أنها لا تريد إغضابه لأنها تريد ذلك فحسب ن بل لأنها تريد إرضاء الآخرين بغضبه ، وهذا أمر لم يكن يتوقعه هو منها ولا يظن ذلك بها .
وفي البيت أيضا ثنائية ضدية فهي ترضي الناس لتغضبه ، وهذا مما يزيد ألمه وعذابه ، فالأولى منها أن تفعل العكس ، ويستخدم أداة النفي لم لتؤكد على خيبة أمله وظنه فيها .
البيت الثالث :
يبدأ البيت بحرف الاستفهام هل ، فهو يثير سؤالا استنكاريا يوضح فيه أنه ليس مالكا لقلب كقلبها لذلك فإنه لا يستطيع أن يسلو كما فعلت هي ذلك بسهولة ، ويرجع ابن زيدون ذلك إلى الاختلاف في تكوين القلوب ، فقلبها أشد قوة من قلبه وأكثر تحملا وقدرة بالمقارنة مع قلبه ، لذلك فهو لا يستطيع السلو عنها لأن قلبه لا يعاونه ولا يطاوعه على ذلك .
وبين قلب قلبك جناس ، وكذلك بين أسلو وسلوت جناس غير تام
واستخدم كاف التشبيه في قوله كقلبك .
البيت الرابع :
ولقد تمنيت أن أحصل على رضاك وكان ذلك أمنية صادقة وخالصة ودلل على ذلك بتضعيف تمنّت ، فكان هذا التمني الصادق مقابلا بما لم أتوقع ن فكانت هذه الأمنية الجميلة منية أو موتا ، أو بالأحرى هي طلاب للموت ورغبة فيه ، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على صعوبة الحصول على ودها وحبها فهي صعبة المراس والانقياد ، وهو في سبيل الوصول إلى رضاها كأنه يطلب الوصول إلى حتفه ن ويدعم ذلك أيضا بالتضعيف في كلمة منية والتمني .
وبين التمني ومنية جناس غير تام ، وهو في شطري البيت يقابل بين أمرين مطلوبين فهو في الشطر الأول يطلب الحياة بطلبه لودها ورضاها ، وفي الشطر الثاني يتضح له أنه إنما كان يطلب الموت ن فهو يقابل هاهنا بين الحياة والموت ن وكلاهما تقوده إليهما الحاجة أو طلب الود من ولادة فشتان بين الأمرين ، واستخدم اسم الإشارة ذاك للدلالة على بعد تلك الأمنية .
البيت الخامس :
أما البيت الخامس فهو فيه مدافع عن نفسه بنفي تحصيله للذنوب التي يمكن أن تجعلها تحقد عليه ، ثم استخدم ولكن للاستدراك وقال هي مطبوعة ومعتادة على التجني والظلم ن فهو لا يستحق سخطها ولا حنقها عليه ، لأنه لم يفعل ما يجعله مستحقا لذلك ، ولكن هي معتادة على ذلك ، فكأن ابن زيدون بعد أن رسم لنا لوحة غضبها وسخطها عليه وأسباب ذلك من طلابه لودها ورغبتها في إرضاء غيره وقسوة قلبها ، فهو يدافع عن نفسه بأنه لم يفعل ذنبا ولكن الذنب كله يعود عليها ، لأنها معتادة على ذلك.
ولقد عرف كلمة التجني فكأنه يريد أن يؤكد من خلال التعريف أن التجني معروف فعلا عنها ن وكذلك الذنوب عرفها فكأنه يقول أنا لم أفعل ذنبا ، ولو فعلته لعلم وكان معروفا ، ولكنني لم أفعل .
ملاحظات :
يحفل النص بالسخرية التهكمية المريرة الممزوجة بالألم ن فهو يحبها ولكنه لا يجد ذلك منها ، فيقول لها كوني على ثقة بأنني حافظ لما أضعته أنت مني ، فيتهكم ويسخر بمرارة من فعلها ، ويسير في القصيدة على هذه الوتيرة من السخرية المرة ، وخاصة في البيت الأخير ، حين يقول : أنا لم أذنب ولكن هي عادة في نفسك أن تتجني علي .
تشيع الثنائيات الضدية في أبيات القصيدة ومنها : الرضى والسخط في البيت الأول ، والتضاد المعنوي بين شطري البيت الرابع ، والحياة والموت في البيت الأخير " معنوي ".
والثنائيات الضدية هي جزء أساسي من البنيوية ، فبناء النص فيها قائم على التضاد ، ولكن ما هي البنائية ؟
البنيوية هي :" نظام يعمل على ضوء قوانين ، وهذا النظام يقوم ويتطور بناء على وظيفة هذه القوانين الداخلية دون الرجوع إلى عناصر خارجية ، وتتميز بالشمولية والتحويل والتنظيم الذاتي ".(1)
والثنائيات الضدية ي تقنية بنائية وظفها ابن زيدون وغيره قبل ظهور النظرية البنائية بمئات السنين ، ولقد وظفها هنا لبيان المفارقة بين ما هي عليه وما هو عليه .
(1) البنيوية في اللسانيات ، د. محمد الحناش ، دار الرشاد الحديثة ،1980، ص 10
يغلب على أبيات هذه المقطوعة أن الشاعر يعرض لما أصابه ثم يفسره في الشطر الثاني ، ويبين سببه وأثره في نفسه .
قد نعتبر قول الشاعر في البيت الثاني " قد أرضيت قوما " هو عبارة عن إحالة وتلميح إلى ابن عبدوس الذي كان منافسا له في طلب ودها.
إن النص وما يحمل في طياته من معان ، وما يحيط به ويتدخل فيه ويشارك بفعالية في دلالته وأثره من عتبات للنص والتي تعرف باسم النص الموازي ، والتي تقدم وتنير لنا الكثير في القصيدة أو في العمل الأدبي عموما ،" وهذه العلامات توجه قراءتنا للنصوص الشعرية ، وتسهم بدور كبير في إثراء تأويلنا لها "(1) ، وفي قصيدة ابن زيدون منحنا التقديم الذي صدره المحقق عونا كبيرا في فهم النص ، فذكر لنا أنها بعد حادثة مدح وإعجاب ابن زيدون بإحدى جواري ولادة وهي عتبى ، وما تلى ذلك من جفاء بينهما ، وكذلك ظهور ابن عبدوس الذي كان يطمع في حب ولادة ، فأضاء لنا هذا الذكر لهذين السببين محتوى القصيدة وأثر بشكل واضح في سهولة إدراكنا لمعاني القصيدة .
القصيدة من البحر الوافر وتفعيلاته :
مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن مفاعلتن فعولن
(1) الدلالة المرئية ، د. علي جعفر العلاق ، دار الشروق ،2002، ص 55.
ثقي بي
لابن زيدون
ثقي بي يا معذبتي فإني سأحفظ فيك ما ضيعت مني
وإن أصبحت قد أرضيت قوما بسخطي ، لم يكن ذا فيك ظني
وهل قلب كقلبك في ضلوعي فأسلو عنك حين سلوت عني
تمنت أن تنال رضاك نفسي فكان منية ذاك التمني
ولم أجن الذنوب فتحقديها ولكن عادة منك التجني
من هو ابن زيدون ؟
هو أحمد بن عبدالله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي ، ولد بالرصافة من ضواحي قرطبة من أب عالم وأديب ومتفقه عرف بسعة روايته ، وغزارة معارفه ، وكرم أخلاقه ، وقد نوفي ولبنه لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره ، فكفله جده لأمه ، وهو ابن الهداهيد ، الذي اشتهر بالشدة والحزم .
ثقافته وعلمه : كانت قرطبة حاضرة العلم لذلك العهد لأن فيها ابن ذكوان وأبو بكر مسلم بن أحمد بن أفلح النحوي والأديب ، لزمه ابن زيدون وأخذ عنه فنونا من العلم ، فبرع في الفقه والتفسير والحديث واللغة والأدب والتاريخ .(1)
(1) موسوعة دواوين الشعر ، ديوان ابن زيدون ، تح : حنا فاخوري ، دار الجيل ، 1990 ، ص 15-16.
أدبه :
لابن زيدون عدة رسائل في النثر أهمها الرسالة الهزلية أو التهكمية ، التي جعلها على لسان ولادة وهاجم فيها ابن عبدوس ، والرسالة الجدية التي بعث بها من سجنه إلى أبي الحزم الجهوري يستعطفه ويطلب عفوه .
وله ديوان كبير اهتم به العلماء والأدباء اهتماما خاصا لما رأوا فيه من تمثيل للحياة الأندلسية في شتى نواحيه ، وطبعة طبعته الأولى 1932 في شركة ومطبعة البابي الحلبي بمصر ، وقد حققها وشرحها كامل الكيلاني (1) .
عرف ابن زيدون بعشقه لولادة بنت المستكفي ، وفيها نظم هذه القصيدة حينما حصلت الفرقة بينهما نتيجة لإعجاب ابن زيدون بجارية لها اسمها عتبة ، ولأنه سجن فترة أيضا ، ولظهور منافس له هو ابن عبدوس الذي أراد التقرب من ولادة .
والرسالة الهزلية هي فيه ، جعلها ابن زيدون على لسان ولادة ، وابن زيدون في هذه الرسالة كأنه يبعث بقصيدة ملؤها الولاء وكذلك الود والبقاء على العهد رغم أنه لا ينال من ذاك إلا ما هو ضده ونقيضه .
(1) المرجع السابق ، ص 16 .
العنوان :
يطالعنا العنوان دعوة صادقة من ابن زيدون لمحبوبته ولادة التي دعاها لتثق به ، وهذا العنوان بالطبع من وضع المحقق وليس من لبن زيدون ، وذلك لأن القصائد لم تكن تعنون عند القدماء ، وكانت في الغالب تذاع ببدايتها . ولكن أليس يا معذبتي أكثر وقعا وتأثيرا في النفس كعنوان للقصيدة ، إنها تعذبه وتسخط عليه ، وتسلو عنه ، ولا تنيله الرضى ، ولقد تعودت على أن تجني عليه ، فهي دائمة التعذيب له متعمدة لذلك قاصدة له .
ولكن بالنظر إلى العنوان ثقي بي فهو بكرمه يتغاضى عن كل ذلك ، ويقدم الوعود الرائعة لها بالبقاء على الود وحفظه ، وأنه باق على ذلك غير متحول عنه ، على الرغم مما تقابله به من جفاء وصد .
إن ابن زيدون يقدم لنا النتيجة قبل أن يعرض لنا الأسباب فالثقة من جهته هي النتيجة الحتمية لما فعلته به والذي تلى هذه العبارة ولم يسبقها ، وهو يبدأ بفعل أمر في بداية القصيدة مما يوحي لنا بقوته ، وأنه يأمرها رغم هذا كله ، ويتضح أيضا أنه لا يتضرع لها ، بل هو في موقف قوة حتى في هذا الموقف مما يدل على عزة نفسه وإبائه .
المعنى العام للقصيدة :
إن ابن زيدون في هذه القصيدة متعب معنى من أثر ما تفعله به ولادة من تعمد لصده والسخط عليه ، فهو يدعوها إلى الثقة به ، فهو يستحق ذلك ، وأنت بسخطك علي وذلك رغبة منك ، لقد خيبت ظني ، فأنا لم أتوقع ذلك منك ، وقلبي ليس كقلبك فيسلو ويصبر ، كما الحال مع قلبك الذي سلى وابتعد عني ، ولقد تمنيت أنال رضاك ، ولكن الموت ألما كان هو العقاب لتلك الأمنية ، وكل ذاك لم يكن لذنب اقترفته ، ولكن هي عادتك في التجني علي ، ورغم كل ما قدمه من دلائل على أنها تتعمد تعذيبه ، فهو يقدم الولاء لها في البيت الأول ، ويؤكد لها أنه موضع ثقة رغم أنها ضيعت الكثير .
فابن زيدون يوضح في هذه القصيدة أنه حافظ للود ، باق عليه حتى وإن لم يجازى بالمثل ، وهذا يدل على عمق عاطفته وصدقها .
التجربة الشعورية للشاعر :
عاطفة الشاعر وتجربته تجربة حقيقية ، فهو معنى مضنى القلب ، آلمته ولادة بصدها ، فأبدع هذه القصيدة وغيرها الكثير في ذكرها ، ومنافسه ابن عبدوس على حبها يثير النيران في قلبه ، فهي كانت تجتمع في مجلسها الأدبي بالرجال ، فهو في هذه القصيدة يعاتبها على فعلها به ، معاتبة مخفية ولطيفة فطلابه لها كان كأنه طلاب للموت ن فجو القصيدة يؤكد أن التجربة واقعية وحقيقية .
كلمات لها أثر :
إن النص بمحتواه الفكري والمعنوي والتعبيري الذي أراد الشاعر من خلاله إيصال إحساسه ، ركز على بعض الكلمات التي استند عليها كأساس لإقامة النص وتثبيت دعائمه ، وإن لكل نص كلمة هي المحور الذي تدور عليه القصيدة ، ولقد ذهب العديد من الباحثين للاعتقاد بأهمية الكلمة المحورية فقال د. محمد مفتاح ، صاحب كتاب دينامية النص :" فقال نقصد بها ما يبنى عليها النص ، سواء كانت مذكورة أو مضمرة ، ونجد لها شواهد في التراث الإنساني بصفة عامة ، ومنه التراث العربي ، فقد تذكر الكلمة _ المحور ، وقد تضمر لأغراض دينية أو سياسية أو دعابية هزلية ، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك ما نجده في أشعار التعمية والألغاز والتورية "(1)
وبالنظر إلى ما سبق فإننا بحثنا عن هذه الكلمة المؤثرة الحاملة للمعنى في طياتها ، والتي كان التركيز عليها كبيرا، وهي هاهنا كلمتان " ثقي بي " فكل النص يدور على محور هذه الكلمة ، والتي ذهب الشاعر فيها بعد أن عبر عن غضبه عليها مما تفعله به ، وما تتعمده من صد له ، إنه يقدم هذه النتيجة ويصدرها في البيت الأول ، فهو يؤكد لها واثقا أنه ليس ممن يجازون أحباءهم بمثل ما فعلوا ، ولكنه في ذلك يعلو عليها فهو يصفح ويسامح ويتجاوز عن زلاتها ، فكأنه عندما صدر هاتين الكلمتين كان كريما جدا جدا معها ، فهو لم يقدم العتاب واللوم والغضب ولكنه قدم العهد على البقاء وهذا هو الأساس ، فهي بالتأكيد تدرك أنها تغضبه وتؤذي شعوره بتصرفاتها ، ولكن في نظره ليس الألم هو المهم ولكن المهم هو أثره ، فالشاعر ها هنا يقول لها أنا سأبقى على العهد ولن أضيعه وهذا قمة الخلق من ابن زيدون .
تحليل القصيدة :
يبدأ هذا البيت بفعل أمر في بدايته وهو ثقي بي ، فهو يستهل هذا البيت بدعوة لها للوثوق به ، ويناديها بياء النداء وهي بعيدة ، وبعدها عنه هنا لأنها معذبته ولأنها تتعمد صده ، ثم يعقب الفاء وإن المؤكدة لما بعدها وهي سأحفظ عهدي في ما عندي ولن أكون مثلك وأضيع ما ضيعيته أنت مني .
(1) دينامية النص ، د. محمد مفتاح ، المركز الثقافي العربي ، ط 2، 1990 ، ص 94.
والسين سأحفظ للتسويف ، وضعف الذال في يا معذبتي للدلالة على شدة التعذيب وقوته وعمقه ، وكذلك ضعف الياء في ضيعت للدلالة على أنها ض يعت الكثير وبكثير من القص والعمد ، فهي لم تحفظ العهد وهو على العكس منها حافظ للعهد ، ولقد جمع الشاعر في هذه القصيدة بين الثنائيات الضدية ومنها في هذا البيت الحفظ والتضييع .
أما البيت الثاني فيبدأ بحرف شرط وهو إن ، ولقد استخدمه هنا ليؤكد أنها إنما تسخطه وتغضبه لترضي آخرين بغضبه وحنقه عليها ، وهنا إشارة إلى ابن عبدوس الذي كان ينافسه في حبها أنه يشير هنا إلى أنها لا تريد إغضابه لأنها تريد ذلك فحسب ن بل لأنها تريد إرضاء الآخرين بغضبه ، وهذا أمر لم يكن يتوقعه هو منها ولا يظن ذلك بها .
وفي البيت أيضا ثنائية ضدية فهي ترضي الناس لتغضبه ، وهذا مما يزيد ألمه وعذابه ، فالأولى منها أن تفعل العكس ، ويستخدم أداة النفي لم لتؤكد على خيبة أمله وظنه فيها .
البيت الثالث :
يبدأ البيت بحرف الاستفهام هل ، فهو يثير سؤالا استنكاريا يوضح فيه أنه ليس مالكا لقلب كقلبها لذلك فإنه لا يستطيع أن يسلو كما فعلت هي ذلك بسهولة ، ويرجع ابن زيدون ذلك إلى الاختلاف في تكوين القلوب ، فقلبها أشد قوة من قلبه وأكثر تحملا وقدرة بالمقارنة مع قلبه ، لذلك فهو لا يستطيع السلو عنها لأن قلبه لا يعاونه ولا يطاوعه على ذلك .
وبين قلب قلبك جناس ، وكذلك بين أسلو وسلوت جناس غير تام
واستخدم كاف التشبيه في قوله كقلبك .
البيت الرابع :
ولقد تمنيت أن أحصل على رضاك وكان ذلك أمنية صادقة وخالصة ودلل على ذلك بتضعيف تمنّت ، فكان هذا التمني الصادق مقابلا بما لم أتوقع ن فكانت هذه الأمنية الجميلة منية أو موتا ، أو بالأحرى هي طلاب للموت ورغبة فيه ، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على صعوبة الحصول على ودها وحبها فهي صعبة المراس والانقياد ، وهو في سبيل الوصول إلى رضاها كأنه يطلب الوصول إلى حتفه ن ويدعم ذلك أيضا بالتضعيف في كلمة منية والتمني .
وبين التمني ومنية جناس غير تام ، وهو في شطري البيت يقابل بين أمرين مطلوبين فهو في الشطر الأول يطلب الحياة بطلبه لودها ورضاها ، وفي الشطر الثاني يتضح له أنه إنما كان يطلب الموت ن فهو يقابل هاهنا بين الحياة والموت ن وكلاهما تقوده إليهما الحاجة أو طلب الود من ولادة فشتان بين الأمرين ، واستخدم اسم الإشارة ذاك للدلالة على بعد تلك الأمنية .
البيت الخامس :
أما البيت الخامس فهو فيه مدافع عن نفسه بنفي تحصيله للذنوب التي يمكن أن تجعلها تحقد عليه ، ثم استخدم ولكن للاستدراك وقال هي مطبوعة ومعتادة على التجني والظلم ن فهو لا يستحق سخطها ولا حنقها عليه ، لأنه لم يفعل ما يجعله مستحقا لذلك ، ولكن هي معتادة على ذلك ، فكأن ابن زيدون بعد أن رسم لنا لوحة غضبها وسخطها عليه وأسباب ذلك من طلابه لودها ورغبتها في إرضاء غيره وقسوة قلبها ، فهو يدافع عن نفسه بأنه لم يفعل ذنبا ولكن الذنب كله يعود عليها ، لأنها معتادة على ذلك.
ولقد عرف كلمة التجني فكأنه يريد أن يؤكد من خلال التعريف أن التجني معروف فعلا عنها ن وكذلك الذنوب عرفها فكأنه يقول أنا لم أفعل ذنبا ، ولو فعلته لعلم وكان معروفا ، ولكنني لم أفعل .
ملاحظات :
يحفل النص بالسخرية التهكمية المريرة الممزوجة بالألم ن فهو يحبها ولكنه لا يجد ذلك منها ، فيقول لها كوني على ثقة بأنني حافظ لما أضعته أنت مني ، فيتهكم ويسخر بمرارة من فعلها ، ويسير في القصيدة على هذه الوتيرة من السخرية المرة ، وخاصة في البيت الأخير ، حين يقول : أنا لم أذنب ولكن هي عادة في نفسك أن تتجني علي .
تشيع الثنائيات الضدية في أبيات القصيدة ومنها : الرضى والسخط في البيت الأول ، والتضاد المعنوي بين شطري البيت الرابع ، والحياة والموت في البيت الأخير " معنوي ".
والثنائيات الضدية هي جزء أساسي من البنيوية ، فبناء النص فيها قائم على التضاد ، ولكن ما هي البنائية ؟
البنيوية هي :" نظام يعمل على ضوء قوانين ، وهذا النظام يقوم ويتطور بناء على وظيفة هذه القوانين الداخلية دون الرجوع إلى عناصر خارجية ، وتتميز بالشمولية والتحويل والتنظيم الذاتي ".(1)
والثنائيات الضدية ي تقنية بنائية وظفها ابن زيدون وغيره قبل ظهور النظرية البنائية بمئات السنين ، ولقد وظفها هنا لبيان المفارقة بين ما هي عليه وما هو عليه .
(1) البنيوية في اللسانيات ، د. محمد الحناش ، دار الرشاد الحديثة ،1980، ص 10
يغلب على أبيات هذه المقطوعة أن الشاعر يعرض لما أصابه ثم يفسره في الشطر الثاني ، ويبين سببه وأثره في نفسه .
قد نعتبر قول الشاعر في البيت الثاني " قد أرضيت قوما " هو عبارة عن إحالة وتلميح إلى ابن عبدوس الذي كان منافسا له في طلب ودها.
إن النص وما يحمل في طياته من معان ، وما يحيط به ويتدخل فيه ويشارك بفعالية في دلالته وأثره من عتبات للنص والتي تعرف باسم النص الموازي ، والتي تقدم وتنير لنا الكثير في القصيدة أو في العمل الأدبي عموما ،" وهذه العلامات توجه قراءتنا للنصوص الشعرية ، وتسهم بدور كبير في إثراء تأويلنا لها "(1) ، وفي قصيدة ابن زيدون منحنا التقديم الذي صدره المحقق عونا كبيرا في فهم النص ، فذكر لنا أنها بعد حادثة مدح وإعجاب ابن زيدون بإحدى جواري ولادة وهي عتبى ، وما تلى ذلك من جفاء بينهما ، وكذلك ظهور ابن عبدوس الذي كان يطمع في حب ولادة ، فأضاء لنا هذا الذكر لهذين السببين محتوى القصيدة وأثر بشكل واضح في سهولة إدراكنا لمعاني القصيدة .
القصيدة من البحر الوافر وتفعيلاته :
مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن مفاعلتن فعولن
(1) الدلالة المرئية ، د. علي جعفر العلاق ، دار الشروق ،2002، ص 55.