من وظائف النقد التي تتخلق بها حيوية الحركة الثقافية في أي بلد من البلدان وفي أي ثقافة من الثقافات أن يعيد بين فترة وأخرى النظر في خريطة المكانات الأدبية وأن يختبر بين الفينة والأخرى مدى ثبات القيم والمقولات الأدبية الشائعة والمتداولة بين الكتاب والقراء على السواء..وهل فقدت تلك المقولات مصداقيتها بمرور الزمن وتغير آليات الحركة الحضارية والثقافية أم أنها مازالت صالحة للتداول كما هي أو حتى بعد قدر من التمحيص ومقدار من التحوير. فبدون قيام النقد بتلك الوظيفة الحيوية لا يعتري الحركة الأدبية الركود والجمود فحسب، ولكنها تعاني كذلك من أدواء الكسل العقلي، وتخضع عملية التقييم الثقافي فيها لا للقيمة الحقيقية للمبدعين ولإنجازاتهم الأدبية، وانما لعمليات النشاط الإعلامي وشبكات العلاقات العامة ومنطق تبادل المنافع. وهو الأمر الذي يورث الإحباط ويثبط همم المبدعين الحقيقيين ويصيب الكتاب المجتهدين بشتى أشكال المرارة مما يعود على الحركة الثقافية ككل بالكثير من النتائج السلبية. لذلك كان من الضروري أن نتوقف كل فترة وأخرى لننظر فيما بين أيدينا من مقولات ثقافية متداولة تتحدد وفقا لها القيمة الحقيقية أو الإعلامية للكتاب وللتيارات والاتجاهات الأدبية المختلفة. لأن إهمال القيام بهذا الدور لا تترتب عليه نتائج فردية فحسب، فلو اقتصر على إحساس البعض بالمرارة واحساس الآخرين بأننا قد غمطناهم حقهم لهان الأمر، لكن المسألة أخطر من ذلك بكثير. فدراسات سوسيولوجيا الثقافة تؤكد لنا أن لمقولات القيمة ورأس المال الرمزي أو الاعترافي سواء في ذلك القيمة الشخصية للمبدعين أو للتيارات الأدبية المختلفة، دورا كبيرا وتأثيرا طويل المدى لا على القراء وحدهم وانما على الكتاب المحتملين ومثقفي المستقبل وعلى حركة النشر والتوزيع وعلى عمليات النقد الصحفي والإعلامي وغير ذلك من آليات العملية الثقافية بل وحتى على النقد والدراسات الجامعية الرديئة التي تنتشر عادة في مثل هذا المناخ الذي يسيطر عليه الكسل العقلي والفساد.
لهذا كله نجد لزاما علينا أن نتوقف كل فترة من الزمن لنتأمل ماذا بقي من كتابنا الكبار بعد فترة من رحيلهم أو حتى بعد فترة من تسنمهم لواء الصدارة الأدبية. خاصة وأن من عادة الحركة الثقافية العربية إما أن تنسى الراحلين كلية عقب وفاتهم أو أن تحولهم الى أصنام أدبية لا مساس بها ولا يحق الاختلاف عليها. ولكن الوقفة المتأنية كل فترة من الفترات من أجل إرهاف وعي الأجيال الحالية بما فاتهم من قضايا وما غاب عنهم من تفاصيل من الأمور الباعثة لحيوية الحركة الثقافية والمجددة لنشاطها. وهذا هو الذي يحدو بنا الى التريث الآن قليلا عند هذا الشاعر العراقي الكبير. فلم يتعرض شاعر للخلاف عليه أثناء حياته بنفس الحدة التي تعرض لها بدر شاكر السياب إذ اشتبك طوال حياته القصيرة الحافلة في مجموعة من المعارك المستمرة التي استنزفت الكثير من طاقته،وان ساهمت في كثير من الأحيان في بلورة العديد من رؤاه. ولم يحظ شاعر حديث بعد موته بالإجماع على تقدير موهبته والعرفان بأهمية مكانته مثلما حدث للسياب وهذا أدعى للتساؤل عن سر هذا الانقلاب فى موقف المجتمع الأدبي من الخلاف الى الاعتراف غير المشروط.
واذا ما حاولنا التعرف على سر هذا الاجماع على قيمة هذا الشاعر الموهوب وعلى أسباب اهتمام شتى تيارات الحركة الأدبية الحديثة بشعره على اختلاف مناهجها ومشاربها ومنطلقاتها، وتحديد مكانه الآن مما آل اليه حال الشعر العربي الحديث اليوم ــ بعد ثلاثين عاما من رحيله _ وأين نحن الآن منه، سنجد أنفسنا بإزاء قضية رأس المال الرمزي ورأس المال الاعترافي. فالمكانة التي يحققها الإنجاز الأدبي لكاتب أو شاعر ما مشروطة ــ كما برهن بيير بورديو في مقالته اللامعة "مجال الانتاج الأدبي" ــ بمدى احتيازه على نوع خاص من رأس المال هو الاعتراف بقيمته وتحديد موقعه ضمن بنية تراتبية خاصة داخل علاقات القوى وصراعاتها المستمرة في المجال الأدبي. ومشروطة أيضا بمدى قدرته على المحافظة على رأس المال الرمزي ذاك، أو تنميته في عالم ثقافي متغير، خاصة وأن دراسات بورديو الشيقة في هذا المجال برهنت على فاعلية قوانين العالم الاقتصادي في الحقل الثقافي، ولكن بطريقة معكوسة. فثمة تناظر بين الرأسمالين الاقتصادي والرمزي اللذين يحوزهما كاتب ما، ولكن هذا التناظر يكتسب تناسبه الخاص الذي تظل فيه القيادة لرأس المال الرمزي كلما تعلق الأمر بالقيم الجمالية والأدبية ويرأس المال الاعترافي على وجه الخصوص، فكلما ازداد نصيب الكاتب من رأس المال الاقتصادي الذي يجلبه له في البداية رأسماله الرمزي والاعترافي، أدى ذلك الى تناقص رأسماله الرمزي من خلال إعادة النظر في حالته.
ولا ينفصل نصيب السياب من رأس المال الاعترافي الذي يتمتع بقدر كبير منه عن طبيعة الحياة الأدبية والسياسية العاصفة التي عاشها، أو التحولات الأدبية والثقافية التي مر بها، ولا عن الخلافات العديدة التي دارت حوله والمعارك المتتابعة التي خاضها، وتنقل بين معسكراتها. فعندما نسترجع الآن أسباب الخلافات التي رسمت حياته، ونوعية المعارك التي شارك فيها، ندرك سر اندياح تلك الخلافات من فوق قشرة الوعي الأدبي العربي، وانزلاقها من فوق سطح الذاكرة التي اعتادت استمراء النسيان، ذلك لأن السر في تراجع تلك الخلافات التي كانت حادة في وقتها والتي استعرت نيران معاركها على صفحات المجلات الأدبية المختلفة هو أن كثيرا من تلك الخلافات كانت تتسم بالعرضية والموقوتية ومن هنا سرعان ما تبخرت مع تغير الاهتمامات وتبدل القضايا وتحور الرؤى. فانصرام الزمن على رحيل هذا الشاعر الكبير كفيل بتبديد العرضي واختبار مدى صلاحية كل ما هو جوهري وأصيل للبقاء. وهذه الفترة التي مضت منذ رحيل السياب كافية لاختبار الزمن لمدى صلابة انجازاته. ومن هنا فإن علينا أن نتوقف للحظة وننظر الى الوراء حتى نتعرف على ما بقي من هذا الشاعر الموهوب بعد ثلاثين عاما على رحيله.
فقراءة السياب اليوم لا يمكن أن تنفصل عن مجموعة من الافتراضات الناجمة عن أن درجة صفر التأويل بالنسبة لأشعاره محملة بالعديد من الرؤى والدلالات ومثقلة بالتواريخ التأويلية والنقدية المتشابكة. فلا يمكن لأي قراءة للسياب أن تنطلق كقراءة أي شاعر معاصر، من فراغ تأويلي خالص. لأن ما تراكم من إنجاز نقدي حول هذا الشاعر يجعل أي محاولة لقراءته اليوم حرثا في أرض مترعة بالتأويلات، ودخولا في غابة كثيفة من الدلالات والاستقصاءات المنهجية الشيقة. ولأنها تنطلق كذلك من حاضر ثقافي صاغ السياب بعض القيم الفكرية والقومية والشعرية الأصيلة فيه، والتي تتعرض اليوم لضربات قاسية من خلال المتغيرات العالمية والقومية الجديدة من ناحية والتغيرات الشعرية والجمالية من ناحية أخرى،. وساهم في بلورة حساسيته الشعرية والادبية التي تطورت على مدى العقود الثلاثة التالية لمحا ولته التجديدية الرائده، ثم انكسرت سيرتها في السنوات الأخيرة. ومن هنا فإن درجة صفر التأويل ليست مشحونة فحسب بكل الميراث النقدي الذي تناول شعر السياب من قبل، ولا بكل القيم الوطنية والفكرية التي ساهمت أشعاره في بلورتها وتحديد معانيها فحسب،ولكنها مفعمة كذلك بجدل اللحظة الواهنة التي تتم فيها القراءة الجديدة، وبكل ما تجلبه الى أفق القراءة من سياقات لا يمكن التناهي عنها كلية عند التأويل النقدي. وهذه السياقات العصرية بكل أبعادها السياسية والفكرية والأدبية تلقى بثقلها على القراءة فتجهز على أي براءة مدعاة. وقراءة السياب اليوم لا تأخذ في اعتبارها هذا التغير الجذري في الواقع السياسي فحسب، ولكنها تتم كذلك في سياق نقدي مغاير تخلى عن تبسيطات النقد العربي القديمة، وأرهف أدواته التحليلية مستعينا بالدراسات اللغوية والأسلوبية، وبثمار النظرية النقدية الحديثة التي استوعبت النتاج النظري المتواصل من الشكليين الروس وحتى التفكيكية وما بعد البنيوية. فكل قراءة تتم في أفق من التوقعات التي تزداد حدتها، وتنفسح احتمالاتها، كلما كانت درجة صفر التأويل مشحونة بكل هذا الجدل النقدي الذي أبرز ثنائيات عالم الشاعر المختلفة وسبر بنية قصائده المتعددة، ومحص مغردات قاموسه الشعري المتميزة، ودرس تراكبيه اللغوية الجزلة، وتعرف على آليات لحظة المكاشفة الشعرية عنده، وسجل موقفه من الشعر والحياة، وفصل سيرة حياته وربط أحداثها بشعره، وميز بين شعرية الكلمات وشعرية الأشياء والموجودات في عالمه وتقصي كل الإحالات التناصية والأسطورية لديه.
فالمكانة التي يحتلها الإنجاز الأدبي للسياب اليوم ضمن بنية خاصة داخل علاقات القوى ه صراعاتها المستمرة في المجال الأدبي، مشروطة بمدى قدرة نصه على الحفاظ على دوره وفاعليته خلال التحولات التي تنتاب هذه القوى، بسبب الصراعات المستمرة لتغييرها، والتواؤم مع تراتباتها الجديدة. ففضاء العالم الأدبي فضاء مشحون بالاحتمالات اللانهائية والمتحركة باستمرار والتي تتطلب من العمل باستمرار تبرير جدارته برأس المال الاعترافي الذي يحوزه داخل المجال الأدبي، ناهيك عن تنحيته. وأن تغير السياق الذي تتم فيه قراءة السياب اليوم، وتغاير العالم القيمي والسياسي، والرؤى الأدبية والنقدية معا تتطلب ضرورة طرح قراءة مغايرة تدخل الى درجة صفر التأويل عدة عناصر منها دوافع الخطاب التأويلي الجديد، أو القراءة الجديدة والسياق الذي تدور فيه. والجدل بين المفصح عنه والمسكوت عنه في كل قراءة. وعلاقة البعد الاقليمي بما أسميه بأيديولوجية القراءة المضمرة. والجدل بين أنساق الهيمنة الرمزية الفاعلة في الواقع العربي أثناء كتابة القصائد، وأنساق الهيمنة الرمزية المغايرة والفاشية في زمن القراءة. وهو جدل يدخل البعد السوسيواوجي للخطاب الشعري ودور الشعر في بلورة أنساق الهيمنة الرمزية الى أنق القراءة الجديدة. وتناظر بنية القراءة الجديدة مع بنية الشعر المقروء ذاته، بمعنى أن شعر السياب كان شعر المقابلة بين الذات والعالم، وعلى قراءته الجديدة أن تكون قراءة المقابلة بين الشعر والعالم. كما تطرح علاقة القراءة بتراكم القرائن المعرفية المختلفة، سواء ما يتعلق منها بتأويل النص، أو بحياة الشاعر. واستيعاب الكشوف النقدية لأكثر من مدرسة من مدارس النقد الحديث، وتوظيفها في قراءة نقدية أقرب ما تكون الى ما يسمى بالقراءة ما بعد الكولونيا Postcolonial التي نعثر على أحد نماذجها اللامعة في كتاب إدرار سعيد (الثقافة والاستعمار Culture )and Imperialism وهي قراءة تموضع النص في العالم الذي يقرأ فيه دون أن تغفل أهمية السياق الذي كتب فيه.
ولنتعرف بداءة على ما ساد عن السياب في الواقع الثقافي قبل أي محاولة لتقييم هذا السائد والمتداول. فكلنا نعرف أن السياب قد ولد عام 1926 في بقين، وهي قرية صغيرة أو كما نقول في مصر كفر من كفور قرية جيكور الواقعة في منطقة أبي الخصيب بالقرب من البصرة. وجيكور القرية الأكبر والأهم في حياة السياب، هي قرية أمه التي ماتت وهو في السادسة من عمره، والتي ظل يتردد عليها حيث قامت جدته لأمه فيها بدور الأم بالنسبة له بمد رحيل والدته. لهذا كان لجيكور مكان محوري في حياته ووجدانه، فقد أحس فيها بدر "الطفل " بكثير مما افتقده من أمان وقبول في بقين، حيث امتلأ بيت أبيه فيها، وهو بيت عائلة السياب الكبير بكثير من الأطفال الذين كانت تحتفي بهم أمهاتهم بما في ذلك أخرته غير الأشقاء بينما عانى هو من مرارة اليتم، وفقدان الأم. كان لجيكور دور كبير في حياته، فهناك كان يحس بأنه مركز الاهتمام ومصب الحنان والقبول. وهذا هو السر في أن جيكور هي القرية التي تتردد كثيرا في شعر السياب. وأنها أصبحت بؤرة التركيز في هذه المنطقة من أبي الخصيب التي وضعها بدر باقتدار وحساسية على خريطة الوعي الشعري العربي، حيث جعل من فضاءاتها وبساتينها ونخيلها وكرومها وملاعبها ونهرها بريب عالما كاملا له مفرداته ورؤاه وصوره، وجذب اليه اهتمام القراء في كل مكان من العالم العربي، وأحالها الى رمز شعري مؤثر لمرحلة الطفولة وهي مرحلة الأمان المطلق والقبول المطلق مما يجعل لها سحرا وتأثيرا وجدانيا لا مثيل له.
وقد تلقى السياب تعليمه الأول في مدرسة باب سليمان الابتدائية في أبي الخصيب، ثم في مدرسة البصرة الثانوية ختن عام 1942. وقد بدأ يكتب الشعر وهو في هذه المدرسة الثانوية. وفي عام 1942 صدرت أحكام الاعدام ضد رشيد عالي الكيلاني ويونس السبعاوي وعلي محمود الشيخ وفهمي سعيد ومحمود سليمان وغيرهم من زعماء الحركة الوطنية، أو ما عرف بثورة رشيد الكيلاني فرثاهم بدر في قصيدته ""شهداء الحرية" التي بدأها بتسجيل نقمته على نوري المعيد والوصي على العرش قائلا:
أراق عبيد الانجليز دماءهم
ولكن دون النار من هو طالبه
أراق ربيب الانجليز دعاءهم
ولكن في برلين ليثا يراقبه
رشيد ويا نعم الزعيم لأمة
يعيث بها عبدالإله وصاحبه
لأنت الزعيم الحق نبهت نوما
تقاذفهم دهر توالت نواثبه
هذه القصيدة التي كتبها بدر وهو في السادسة عشرة من عمره تكشف عن سذاجة سياسية مفهومة بالنسبة لعمره، فالحديث عن هذا الليث الرابض في برلين "أي هتلر"،وعن أنه يراقب ربيب الانجليز في العراق، حديث فيه سذاجة واضحة. صحيح أن مناخ سنوات الحرب العالمية الثانية في العالم العربي قد حفل بالكثيرين من الذين آمنوا بأن عدو عدونا صديق لنا، وأن العالم العربي كأن غافلا الى حد كبير عن حقيقة النازية، وعن تهديدها للعالم، لكن تلك السذاجة السياسية التي يمكن أن نغتفرها لحدث في السادسة عشرة من عمره ظلت خيطا ثابتا في نسيج رؤية الشاعر الفكرية حتى بعدما كبر. فما أن التحق الشاعر بدار المعلمين العالية في بغداد عام 1943- وهي الدار التي بدأ دراسته بها في قسم اللغة العربية، ثم تحول منه بعد عام الى قسم اللغة الانجليزية، وظل به حتى تخرج منه عام 1948- حتى كانت سنوات الدراسة هي سنوات الانضواء تحت لواء الحزب الشيوعي العراقي، والذي يبدو أن انخراطه فيه لم يقم على قاعدة سياسية أو فكرية أمتن من تلك التي أسفرت عنها قصيدته عن" شهداء الحرية " فثمة شواهد عديدة تشير الى أن بدر قد اختار التزاما السياسي على أساس عشائري. وأنه برغم تعرضا لبعض المضايقات أثناء فترة الدراسة بسبب هذا الالتزام، فإن تحمله لها لم يكن نتيجة صلابة إيمانه المذهبي، بقدر ما كان نتيجة استمتاعه بحس الشهادة الذي وفرته عملية الانضمام الى عمل سري ممنوع.
وفي عام 1948 عين بدر مدرسا في مدرسة الرمادي الثانوية، واستمتع بعمله فيها برغم قصر الفترة التي أمضاها فيها. وفي هذا العام أيضا صدر ديوانه الأول (أزهار ذابلة ) الذي وقع فيه تحت تأثير الشعر الرومانسي عامة، وشعراء مدرسة أبولو خاصة،ولاسيما أحمد زكي أبو شادي، وابراهيم ناجي، وعلي محمود طه الذي كان له مكانة خاصة لدى شاعرنا الشاب، وود لو قدم له ديوانه. وقد احتفت الصحافة الأدبية في العراق بهذا الديوان الأول، فأخذ يتردد على مقهى حسن العجمي، ويجالس فيه الأستاذ الجواهري الذي كان بدر يحترمه كثيرا كشاعر، ويخالط فيه الكثير من الأدبا،. وقد كان العاد التالي عر عام النكبة لا نكبة فلسطين التي لعبت دورا بارزا في تغيير الحساسية الأدبية، وتبديل تصور المثقف للواقع وللأدب فحسب، وانما نكبة الحزب الشيوعي العراقي الذي كان بدر من أعضائه المعروفين كذلك، حيث سجن زعماؤه البارزون، وما أن جاء شهر شباط (فبراير) من العام التالي حتى أعدم عدد منهم مثل فهد (يوسف سلمان يوسف ) وزكي بسيم وحسين الشبيبي ويهودا صديق وسامون دلال وغيرهم من أعضاء اللجنة المركزية بعد وثبة يناير (كانون ثاني) 1949. وفي نفس العام فصل بدر من وظيفته في مدرسة الرمادي. وفي العام التالي 1950 وجد لنفسه عملا في شركة نفط البصرة، وأصدر في نفس العام ديوانه الثاني (أساطير) الذي أكد أنه ما زال واقعا تحت تأثير شعراء الرومانسية، وان كان هذا الديوان قد احتوى على قصيدته "هل كان حبا" التي راوح عدد التفعيلات في أبياتها، والتي تعد قصيدته الأولى من شعر التفعيلة المعروف بالشعر الحر أو الشعر الحديث.
وكانت الشاعرة العراقية نازك الملائكة قد نشرت هي الأخرى ديوانها الشهير (شظايا ورماد) والذي ينطوي على مجموعة من القصائد التي راوحت فيها عدد التفعيلات في أبياتها. وبدأ الحديث عن ريادة المدرسة الشعرية الجديدة ودخل السياب معركة حول السبق والريادة لهذا النوع الجديد من الشعر وحاول بكل السبل أن يكون له قصب السبق في هذا المجال على نازك في معركة فيها شي ء من سذاجة المعركة السياسية التي خاضها من قبل، وواصل خوض غمارها من بعد. واذا ما أخذنا بتعريف السياب نفسا للشعر الحر كما كان يدعوه، أو الشعر الحديث كما يسميه الكثيرون، والذي قدمه في بحثه لمؤتمر الأدبا، العرب بعد ذلك بسنوات، وهو التعريف الذي يقول فيه : "إن الشعر الحر أكثر من اختلاف عدد التفعيلات المتشابهة بين بيت وآخر، إنه بناء فني جديد،جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية، وأدب الأبراج العاجية، وجمود الكلاسيكية. كما جاء ليسحق الشعر الخطابي الذي اعتاد السياسيون والاجتماعيون الكتابة به ". إذا ما أخذنا بتعريف السياب هذا، سنجد أن (شظايا ورماد) هو الأقرب في احتياز فضل الريادة وقصب السبق. ليس فقط لأن نازك كانت واعية بما تقوم به الى الحد الذي دفعها لكتابة مقدمة تنبه فيها الى طبيعة تجربتها الجديدة، ولكن أيضا لأن ديوانها ينطوي على أكثر من تجربة في هذا المضمار، بينما ظلت قصيدة بدر المذكورة هي القصيدة الوحيدة في هذا المجال في ديوانه الثاني، كما أن ديوان نازك كان أكثر وعيا بطبيعة تغير بنية التجربة الشعرية، من تجربة بدر اليتيمة في هذا الوقت. واذا كان للسبق التاريخي أهميته في هذا المجال فإن تواقت التجربتين يدل على أن بواعث التجديد كانت قد تجدون ت النزوة الفردية، وأصبحت مصدرا لالهام أكثر من شاعر في نفس الفترة.
فأهمية بدر لا تكمن في سبقه التاريخي لنازك بأيام أو شهور، وانما في خصوبة موهبته التي وجدت في هذا القالب الشعري الجديد مجالا للتعبير عن إمكانياتها الإبداعية.ذلك لأن بدر الذي كان مشغولا بمعركته حول إثبات أسبقيته في التجديد، قد وجد نفسه منخرطا في معركة أخرى على إثر انتفاضة تشر رين عام 1952، التي أعقبت تقدم رجال الأحزاب (وخاصة حزب الجبهة الشعبية والحزب الوطني الديموقراطي) بمذكرة للومي تتضمن المطالب الشعبية، والتي وجد نفسه بين زعماء الإضرابات فيها، فطاردته الشرطة، واضطر للهرب الى إيران التي أمضى بها شهرين، ثم الى الكويت حيث بقي لستة أشهر. وكانت فترة الهرب تلك فترة تحول هامة في حياة بدر، ليس فقط لأنه أدرك، بعد أن وجد نفسه قد علق نشاطه الأدبي، من أجل نشاطه السياسي، أنه لم يخلق للسياسة وانما للشعر، ولكن أيضا لأن فترة وجوده في إيران تواقتت مع تخلي حزب "تودة "عن مصدق حتى تمكن زاهدي منه. وعاهرة بدايات الشك في اليقين المذهبي. لذلك ما إن عاد الى بغداد مع عام 1953، وحصل على وظيفة في مديرية الأهوال المستوردة، حتى بدأ الشقاق بينه وبين الشيوعيين الذين كانوا قد تبنوا الكثير من قصائد البياتي في غيابه، وأصبح البياتي هو شاعر الحزب، مما أشعر بدر بأن الحزب الذي ضحى من أجله قد غدر به في غيابه وهو الأمر الذي أعتبره الشاعر/ الفارس / الحالم خيانة غير مقبولة خاصة وأن تجربة المنفى قد زعزعت إيمانه بالكثير من مقولات هذا الحزب ورؤاه، وكشفت له عن جموده وتبعيته للخط الفكري والمنهجي للاتحاد السوفييتي، دون أخذ العناصر المحلية في الاعتبار.
وقد ترافقت هذه المرارة والشكوك مع توثق علاقة بدر في العام التالي 1954 بمجموعة"مقهى الفرات " من الكتاب والشعراء ذوي النزعة القومية، من أمثال كاظم جواد، ومحيي الدين اسماعيل، وعبد الصاحب ياسين، ورشيد الياسين. ومع بداية النشر في مجلة (الآداب ) التي كانت معروفة بنزعتها القومية. وعلى صفحات (الآداب ) فتح وصحبا النيران على الشيوعيين، وعلى رموزهم الأدبية في السنوات التالية. وبدأت معركته مع البياتي الذي كان يرى أنه "يتطاول صاعدا فيتقاعس قعيدا"، ومع عبدا لملك نوري بالرغم من أنه كان مشغولا بكتابا القصة، ولا يشكل أي تهديد لبدر، اللهم إلا اندراجه تحت لواء الخط الحزبي الجاهز. وأخذت تلك المعركة التي حمي وطيسها في الأعوام التالية تكشف لنا عن بعض رؤاه وتصوراته الشعرية، والتي كان يبدو لغرابة المفارقة أن فيها الكثير من رؤى الواقعية الاشتراكية الساذجة أكثر مما فيها من نقيضها المذهبي وكانت هذه الفترة هي الفترة التي شهدت نزوعه الى الاستقرار، فقد تزوج فيها عام 1955 من "إقبال " وهي فتاة بسيطة الثقافة من "أبي الخصيب "متخرجة من دار المعلمات الابتدائية ليس فيها، _فيما يبدو - شيء من أطياف الحسناوات اللواتي ألهبن خياله في قصائد ديوانيه الأولين من بنات دار المعلمين العالية. صحيح أنها ستهب اسمها لديوانه الأخير، لكنها ظهر في قصائده كزوجة وأم رؤوم لابنه غيلان، وباختصار كامرأة تقليدية توشك أن تكون النقيض الكامل لكل اللواتي تحرك القلب لهن في يفاعة الشباب. واختيارها من منطقته يكشف عن شي ء من تقليدية الشاعر وعشائر يته التي لم تفلح القشرة الفكرية أو المذهبية المتحررة في إيهان سطوتها عليه، أو تحكمها في سلوكه.
وكانت هذه الفترة كذلك هي فترة كتابة عدد من أهم قصائده من "المومس العمياه" و "الأسلحة والأطفال " الى "أنشودة المطر" و "مدينة بلا مطر" و "غريب على الخليج " وغيرها من قصائد ديوانه العلامة (أنشودة المطر).كانت بحق فترة الاستقراء العاطفي والنضج الشعري، وان لم يكشف هذا النضج الشعري عن نضج فكري مماثل. لأن أفكار السياب النقدية كانت أقرب الى المزيج غير المتناسق الذي تختلط فيه الرومانسية ببعض ملامح الواقعية، لأننا لو نظرنا في المجموعة الشعرية التي ترجمها وأصدرها في كتاب من عشرين قصيدة عام 1955 سنجد أنه يجمع فيها بين شعراء وقصائد تنتمي لاتجاهات ومواقف فكرية وفلسفية وأدبية متناقضة من إليوت وباوند، الى سبندر وداي لويس،ومن إديث سيتويل، وفيشر، الى بريفيه، ودي لامير، ومن ريلكة، ورامبو، الى لوركا، ونير ودا. وليس هذا وحده هو الدليل على محدودية معارفه الأدبية وغياب الرؤية المنطقية النسقة من اختياراته، ولكن تصنيفه للأدب في محاضرته عن الأدب الواقعي والالتزام والتي قدمها لمؤتمر الأدبا، العرب بدمشق عام 1956 الى ثلاثة أقسام : واقعي ومحايد، ومنحل، خالصا الى أن التيار الواقعي هو الخلاص الوحيد للأدب العربي، يكشف هو الآخر عن قدر مماثل من السذاجة والتبسيط. صحيح أن تعريفه للأدب الواقعي يوشك أن يكون تعريفا للأدب عامة، بكل اتجاهاته وتنوعاته الجادة، لكنه تعريف على قدر كبير من التعميم ويفتقر الى الخصوصية أو النظرة الذاتية المستبصرة.
وقد واصل السياب حملته على الأدب والفكر الماركسيين دون أن يكون مؤهلا لتفهم الأسس الفلسفية التي ينهض عليها التصور الماركسي للأدب، ناهيك عن تفنيده ودحضه. لكن المهم في هذه الحملة أنها أعلنت، من خلال تنصله من ممارسات الشيوعيين العراقيين وأفكارهم، عن بزوغ يقين داخلي لدى السياب باستقلالية الشعر النسبية، لا عن الواقع _ فقد كان مؤمنا بأن علاقة الشعر بالواقع لا يمكن فصمها، بل ولابد من تعميقها _وانما عن أي التزام فكري، أو مذهبي جامد. وقد حاول السياب أن يبرهن على هذه الاستقلالية من خلال المواقف السياسية، بينما كان في غير حاجة الى ذلك، لأن شعره وحده في هذه الفترة خير دليل على ذلك، لكن ما إن أتيحت له الفرصة للبرهنة السياسية عل موقفه حتى اهتبلها،وكان ذلك في عام 1958 عندما رفض التوقيع على عريضة استنكار لثورة الشراف، وقد كلفه هذا الرفض وظيفته، حيث فصل من عمله عام 1959، بعد أن كتب عنه كتبة التقارير "أنه شوهد وهو يبتسم يوم مؤامرة الشراف “. وقد نشط السياب كعادته في الهجوم على الشيوعيين، وخاصة بعدما وقفوا ضده، وطالبوه بنقد ذاتي صارم، رفض كلية أن يقدمه لهم. ووصل به الشطط الى حد كتابة "إن ماكارثي أشرف ألف مرة من كثير من الذين يعتبرهم الشيوعيون قادة كبارا" ولا أريد هنا الربط بين هذه العبارة وبين اشارته في قصيدته الباكرة الى الليث الرابض في برلين، فليس بين الاشارتين أي أطروحة فكرية متناسقة، تدفع الى اتهام السياب بالفاشية. ولكن الرابط الوحيد بينهما هو تلك السذاجة السياسية التي تستخدم كل الأسلحة في المعركة، بغض النظر عن أنها أسلحة فاسدة، قد ترتد الى نحر السياب نفسه، قبل أن تنال من خصومة، ويجب هنا الا ننسى أن السياب كان يخوض معاركه، ويعبر عن قناعاته بشي ء من روح الفارس التي دفعته الى النضال في صفوف الحزب الشيوعي عندما كان الحزب مطاردا، والى الوقوف ضده عندما بلغ أوج نفوذه السياسي والاعلامي بعد ثورة عبدالكريم قاسم.
وفي أواخر عام 1959 تمكن من الحصول على عمل كمدرس في إعدادية الأعظمية، وبعد بضعة شهور، وفي عام 1960 نشر ديوانه العلامة لم أنشودة المطر/ عن دار مجلة شعر. لكن الغريب أنه سجن بعد عدة شهور من نشر ديوانه ذاك، ومع من ؟ مع الشيوعيين الذين تنصل منهم، فكان عذاب السجن مزدوجا، لا من السجان وحده، وانما من الرفاق الذين كانوا يسومونه ألوان العذاب النفسي والتقريع السياسي. ولما أفرج عنه في العام التالي كانت التجربة المرة قد ضاعفت من نقمته على الشيوعيين. ويعتقد البعض أن هذه النقمة كانت السبب وراء دعوته للمشاركة في مؤتمر الأدب العربي بروما في أكتوبر 1961، والذي نظمته المؤسسة العالمية لحرية الثقافة، وهي المؤسسة التي أصدرت مجلة (حوار)، وثبت فيما بعد أن قسما كبيرا من تمويلها كان يجيء من مؤسسة الاستخبارات المركزية الأمريكية.
لكن مكانة السياب التي كانت قد تدعمت بعد نشر ديوانه الكبير تلقي الشكوك على مثل هذا الاعتقاد. صحيح أن هذا المؤتمر كغيره من نشاطات تلك المنظمة كان له موقف أيديولوجي واضح، لكن السياب كان قد أصبح بحق أكبر من مجرد واحد من الذين يهاجمون الشيوعية، ولم تكن قيمته الأدبية بأي حال من الأحوال قائمة على هذا الهجوم، أو نابهة منه. كما أن سيوله القومية كانت ذات منحى تحرري وتقدمي واضح. وفي العام التالي.بدأ المرض، ودخل مستشفى بولس في بيروت للعلاج دون جدوى. وحاولت المنظمة العالمية لحرية الثقافة أن تعالجه في لندن وباريس، ولكن تلك المحاولة أسفرت عن تشخيص مرضه العضال "اضطراب عصبي في المنطقة القطنية من العمود الفقر ي” وهو مرض نادر لم يكتشف الطب له علاجا. وفي فترة المرض فاض بحر الشعر بعد أن غاضت ينابيعه في السنوات القليلة السابقة، حتى أنه كتب أر بعين قصيدة في ستة وأر بعين يوما قضاها في مستشفى سانت ماري في لندن، ومن خلال هذه القصائد وغيرها تتابعت دواوينه الأخيرة (منزل الاقنان ) و (المعبد الفريق ) و(شناشيل ابنة الجلبي) وقد استمر معه المرض العضال فوسم شعره بقدر كبير من القدرية وبتركيز على تجربة المعاناة الانسانية، وبعودة حساسة الى منابع الطفولة وبقار من الحس الفلسفي الشفيق، ودفع قارب رحلته من بيروت الى لندن وباريس ثم ببيروت، ثم العراق والكويت التي تقرر سفره اليها للعلاج عام 1964، فأمضي بها أيامه الأخيرة حيث مات بالجناح الرابع في المستشفى الأميري بها، في الرابع والعشرين من ديسمبر (كانون أول 1964).
والآن ما الذي بقي من السياب في واقع الشعر العربي الحديث عامة ؟ إذا كان علينا أن نجيب على هذا السؤال الهام بعد ثلاثين عاما من رحيل هذا الشاعر الكبير، سنجد أن شقا من هذه الاجابة يعود الى مسيرة حياة الشاعر نفسها، بينما يعود الشق الآخر الى انتاجه الشعري. ومن مسيرة حياة السياب بقيت تجربة ضرورة الا يبدد الشاعر جهده ومو هبته في معارك جانبية صغيرة ليست هي التي تصنع إسهامه، ولا يمكن أن يبقى منها الكثير بعد فترة قصيرة من الزمن. فليس ثمة من يذكر السياب الآن لأنه خاض معارك ريادة الشعر الحديث،وان كان إسهامه في توطيد مكانة هذه التجربة الشعرية المتميزة، والذي عززته تجاربه العروضية في تنويع الايقاعات دأخل القصيدة الواحدة في دواوينه الأخيرة، من أهم الإضافات لباقية من تجربة السياب الأدبية بعد أكثر من ربع قرن من لزمان. وليس ثمة من يذكره لأنه ساهم في تعزيز مفاهيم الأدب لقومي، أو حارب صور الالتزام الساذج بخط الحزب الرسمي في الأدب، لأن السياب لم يكن بأي حال من الأحوال المفكر لأدبي الذي يستطيع أن يثير القضايا الفكرية القادرة على تغيير مسار الحركة الأدبية، أو التأثير على قناعاتها. ولم يكن المثقف الموسوعي القادر على تسخير معرفته الواسعة بتاريخ الثقافة ومسيرة الحركات الأدبية، في توجيه مسار الفكر الأدبي العربي بان حياته، ناهيك عن التأثير عليها بعد رحيله. فقد كانت معظم لمعارك الصغيرة التي خاضها السياب من النوع الذي اختلط فيها الدفاع عن الذات، في مواجهة واقع ثقافي جاحد، بالحوار الأدبي الذي يتسم بقدر من العمق والرصانة، بالشطط الفكري النابع من محدودية الثقافة ومن غياب التصورات النظرية المتينة، والقادرة على تزويد الحدوس الثقافية الصائبة، في بعض الأحيان بالحيثيات التي تضفي عليها قدرا من الصلابة والإقناع.
فقد كان السياب شاعرا برهن بمسيرته الشعرية وبما بقي منها بعد هذا الردح من الزمان على أن موهبة الشاعر، ومعارفه الحدسية، قد تهديه الى مجموعة من الكشوف الأدبية، والعروضية التي تستطيع المشاركة في تغيير الحساسية الأدبية والتي ربما احتاجت الى موهبة نقدية من نوع فريد لتصوغ اكتشافاتها تلك في اطروحات نظرية، لا يستطيع الشاعر بالضرورة الاضطلاع بها. هذا الفصل بين نوعين أساسيين من المعرفة الأدبية وبين مجالين متغايرين من مجالات الإبداع الأدبي، هو القيمة الأولى التي تبقى لنا من تجربة السياب تلك بعد أكثر مز ربع قرن من الزمان.
أما القيمة الثانية التي نستقيها من تجربة السياب الحياتية فهي أن على الفنان أن يقف دائما في الخندق الآخر، فعندما كان الشيوعيون يناضلون من أجل الاستقلال والتحرر من الاستعمار واذنابه المحليين كان السياب في صفوفهم، تزعم المظاهرات وتعرض للمضا يقات وحتى للفصل والنفي والتشريد. وعندما كانت لهم السطوة والسلطة كان السياب في صفوف المعارضة. ومع أن هذه القيمة قد امتزجت بشي ء من الذاتية في حياة السياب، إلا أن ما تنطوي عليه من رفض للانصياعية والانضواء تحت لواء السائد والمسيطر والمكرور يبقى واحدا من العناصر الأساسية التي يجب أن تقف عندها أية محاولة لإعادة تقييم دور هذا الشاعر الكبير والتعرف على ما بقي منه بعد رحيله. ذلك لأن من الصعب علينا الحديث عن استقلال الأدب دون استقلال الأديب نفسه، ومن العسير علينا الزعم بدور الأدب المغير دون اختيار الأديب الوقوف في الخندق الأخر. فعلاقة الكاتب بالسلطة من أكثر العلاقات كشفا عن رؤيته لدوره ولفنه، لأنه ليس من الممكن أن يضع الكاتب نفسه في خدمة السائد والمسيطر دون أن يشف ذلك عن إخضاع للفن لما يمثله هذا السائد، وبالتالي عن ثانوية هذا الفن في مواجهة أولية السلطة. فاليقين بأولية الفني والأدبي على السياسي، أو على الأقل بوضعهما على قدم المساواة وفي علاقة ندية لا تبعية، لابد وأن يؤدي الى المواجهة بينهما. ليس لأن التعارض في غايات كل منهما من الأمور البديهية فحسب، ولكن أيضا لأن طبيعة بنية السلطة السياسية في المجتمع العربي لا تسمح بالتعددية ومن هنا لا تعرف غير لفة الإخضاع أو المواجهة.
أما القيمة الثالثة التي نستخلصها من حياة السياب فهي أن استقلال الكاتب في هذا المناخ العربي غالبا ما يقود الى معاناته وغربته. وأن هذه المعاناة والغربة تجعل الكاتب الأعزل فريسة سهلة في أيدي الذين يستهدفون استقلاله أو يروعون استغلاله. فما إن وقع السياب فريسة للمرض حتى تكاثرت حول فراشه الأفاعي. وضربت تلك الحالة عليه سورا من العزلة التي دفعته الى الارتداد الى منابع الطفولة حيث عاش مرحلة من الأمان المطلق والقبول المطلق. لكن تلك العودة التي كان لها تأثيرها الملحوظ على تطوره الشعري، تنطوي من الناحية الاجتماعية على نوع من التملص من هذا المأزق الذي يجد الشاعر والكاتب العربي عامة نفسه فيه وحيدا في عالم لا يحقق فيه الكتاب استقلالهم لأنهم لم يقيموا مؤسساتهم. ولم يتمكن القراء من أن يوفروا لهم الاستقلال الاقتصادي الذي تتدعم به وعبره كل مساعي الاستقلال الأدبي والفكري. فما إن وجد السياب نفسه واقعا في براثن المرض حتى أخذ يتخبط بين الذين يبدون استعدادهم للإنفاق على تكاليف العلاج الباهظة فالكاتب العربي عادة لا يستطيع أن يوفر لنفسه حياة كريمة من قلمه إلا بعد سنوات طويلة من المعاناة، وقد ينفق عمره كله دون أن يحقق هذا. واذا كان لذلك معنى فهو أن الكتابة نفسها ليست من الوظائف التي يبدي المجتمع استعداده للدفع من أجلها. وهو أمر _ إذا ما اعتبرنا مقاييس السوق من المعايير التي تساهم في الحكم على الأمور _يدل على أنها ليست من الوظائف التي يطلبها المجتمع أو يقدرها حق قدرها.
واذا ما انتقلنا بعد ذلك الى الشق الثاني الذي يعود الى إنتاج الشاعر سنجد أن هناك مجموعة من الإنجازات الشعرية التي بقيت في ضمير الشعر الحديث وساهمت في إثراء عموده الشعري الجديد. فقد كان السياب من الذين بداوا تأسيس ملامح الشعر الجديد ومنطلقاته الفكرية والبنائية على السواء. كما كان من الذين ساهموا بموهبتهم الكبيرة في ترسيخ مكانة هذا الشعر وفي توسيع أفقه التعبيري حتى أصبح من الممكن الانطلاق بعده لاجتياب آفاق جديدة ومواصلة التجربة الشعرية خارج إطار البنية العروضية القديمة، هذا الدور الذي كان السياب فيه واحدا من الشعراء العديدين الذين ساهمت إبداعا تهم الجمعية في ترسيخ مكانة هذا الشعر الجديد هو دور جمعي يشاركه فيا الكثيرون من الشعراء من نازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وبلنا الحيدري وسعدي يوسف حتى نزار قباني وصلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وأدونيس ويوسف الخال وغيرهم.لكن ما بقي من السياب ليس هو هذا الدور الجمعي الذي كان من الممكن له أن يتحقق الى حد ما دونه. لأن جوقة الشعراء الرواد الذين ساهموا في ترسيخ مكانة هذه الحركة الشعرية كبيرة، وان كان التنويع السيابي في تلك الجوقة الكبيرة هو الذي يعطي هذا الشاعر خصوصيته وهو الذي يجعل إسهامه أكبر من مجرد إسهام عضو يمكن التناهي عن دوره في جماعة كبيرة صدرت في أشعارها عن مجموعة من التغيرات المشتركة التي ساهمت في صياغة ردود فعل متباينة، ولكنها متناغمة في بعض أبعادها. فتميز إسهام السياب هو الذي يقودنا الى القول بأنه ليس باستطاعة أي دارس منصف القول بأن ما حققته حركة الشعر الحديث كان من الممكن أن يتحقق دونه.
فقد كان السياب شاعرا كبيرا في هذه الحركة، وكان من أكثر أصواتها أصالة وتميزا. واذا ما حاولنا التعرف على ما بقي من إسهامه المتميز في وجدان تلك الحركة وقيما تلاها من تيارات شعرية معاصرة سنجد أن هذا الإسهام يتنوع بتنوع مكونات التجربة الشعرية وتباين أدوات تحقيقها. فمن حيث مصادر التجربة الشعرية التي كان الرومانسيون قد أكدوا على أهمية فرديتها وثاروا على الأغراض الشعرية القديمة في محاولة لفتح آفاق جديدة للشعر تعلي من شأن التجربة الفردية، نجد أن السياب قد ساهم في ترسيخ أهمية هذه الا نجازات الرومانسية التي انحدرت أتليه من تأثرا ته الأولى بمدرسة أبوللو وأضاف اليها عددا من العناصر الهامة التي أثرت هذا الجانب من أبرزها أنه لا يكفي الانطلاق من تجربة خبرها الشاعر أو عايش تفاصيلها معايشة دقيقة ومتعمقة، فهذا أمر تتطلبه كل أشكال التعبير الفني، وانما لابد في الشعر أن يكون هذا الانطلاق شعريا، أي قادرا على ترجمة تفاصيل التجربة المعاشة الى لفة لها قدرتها عن الانزياح عن الجانب المرجعي اللغة دون مبارحته كلية.
فبدون هذا الانزياح النسبي الذي يجعل اللغة :آت طبيعة شعرية تمتزج فيه المرجعية بالإيحاء ويتلبسها شي ء من الغموض الذي يفتح القصيدة على ثراء الاحتمالات التأويلية تظل التجربة المتعينة في القصيدة نوعا من الافضاء النثري أو المعالجة النظمية. وقد برهن لنا السياب في نماذجه الشعرية الجيدة أن هذا الانزياح لا يتحقق بشكل فاعل الا إذا ما تجنب الشاعر التعبير الانفعالي المباشر والافتعال العقلي أو الواعي للتجربة ولجأ كما يقول ويلكه الى مستودع الذكريات المختمرة في الوجدان والتي يعود القسم الأكبر منها الى مرحلة الطفولة، وهي مرحلة الإدراك الشعري للواقع. وقد لجأ السياب كثيرا الى هذا المستودع الثري واستحضر منه الكثير من صور جيكور وتذكارات وادي أبي الخصيب، لكنه استطاع أن يتعامل مع تلك الصورة المستدعاة بمنطق شعري يقيم جسورا بينها وبين جزئيات الواقع الذي يتعامل معا، ويصدر عنه، وذلك من خلال الإلحاح على :ن يكون انزياح اللغة عن الواقع نوعا من تأسيس دلالات جديدة ورؤى جديدة لهما معا.
فبهذه الطريقة وحدها استطاعت جيكور، واستطاع نهرها الصغير بويب أن يدخلا في خريطة الوعي الشعري العربي، لا كقرية من قرى جنوب العراق الصغيرة، ولا كنهر من أنهاره، لأن الأمر لو كان كذلك لما كانت له كبير قيمة، ولكن كرموز شعرية مترعة بالدلالات الفكرية والوجدانية. ذلك لأن الحساسية الشعرية وحدها هي القادرة على تحويل العنا هر الفردية أو الملامح الجغرافية الخاصة، أو حتى الخيالات الذاتية المفارقة للواقع، القيمة جمعية أو إنسانية عامة، يستطيع القارىء في كل مكان أن يستنبط منها عوالم حسية وفكرية كاملة، بغض النظر عن أي معرفة بالسياق الذي كتبت فيه، أو الواقع الذي صدرت عنه،ولا يمكن لنا هنا أن ننسى فضل السياب في تذكه عدد كبير من المشعراه الذين أتوا بعده بأن الارتداد الى منابع التذكارات من أوفق السبل لاكتشاف الذات أو لتفجير منابع الشعر فيها. أو نجحفه حقه في تأسيس هذا المنطق الذي دفع عددا كبيرا من الشعراء التالين له، الى وضع ملامح عالمهم الخاص، بقراه، وأنهاره، وحواكيره، على خارطة الشعر العربي، أو نتغاضى عن فضله في توجيه من جاء وابعده الى ما في كنز مرحلة الطفولة من ذخائر مدفونة، يستطيعون كلما عادوا اليها، برهافة، وفهم، أن يفتحوا للشعر طاقة على أفق لا حد لغناه.
أما من حيث بنية التجربة الشعرية فقد بقيت من إضافات السياب تلك القدرة على خلق بنية إشارية قادرة على إضفاء بعد حسي على الرؤى الحدسية، والنزوعات المبهمة، بل والأفكار الجافة المشرفة على تخوم التجريد. فقد استطاع السياب أن يحول الخطاب الشعري الى شيفرة إشارية لها قواعدها الخاصة، وقدرتها على أن تفصم عرى العلاقة بين اللفظة ومعانيها القاموسية، لتستأنف دلالات ومعاني جديدة، تستقيها من مجموعة العلاقات التي تؤسسها داخل الخطاب الشعري. وتحويل الخطاب الشعري الى شيفرة إشارية لها بنيتها المستقلة من أهم الإنجازات التي حققها السياب وبقيت فاعلة في وجدان القصيدة الحديثة من بعده، وربما لم تتحقق أهمية هذا الانجاز ولا فاعليته في زمن السياب مثل تحققهما بعده.
وقد استطاعت هذه البنية الشعرية الجديدة أن تظل فاعلة في واقع الشعر العربي حتى اليوم، لأنها أقامت حوارا تناميا خصبا مع ما يمكن دعوته بالبنية العميقة للقصيدة العربية، تحولت به هذه البنية دون أن تفقد كلاسيكيتها ورصانتها المتجذرة في الوعي الشعري. فمن يتأمل قصيدته الجميلة (أنشودة المطر) يجد أن جدتها الكية من حيث البنية والعالم، والإحالات الأسطورية، والدلالات الاجتماعية المتميزة، لم تمنعها من إقامة حوارها العميق مع بنية القصيدة الجاهلية. حيث تبدأ بمقدمتها الطللية الفريدة التي يتسم فيها النسيب بنكهة تشبيبية واضحة ثم تنتقل الى الرحيل في قسمها الثاني الذي يستعرض عذابات العراق، ويحيل الرحلة الصحراوية القديمة، الى رحلة تاريخية، وأسطورية لها بعدها الاجتماعي الواضح، وتنتهي بالوصول عبر تلك الصلاة التي تكسب صلوات الاستسقاء مذاقا جديدا. هذا الحوار التناهي الخصب مع البنية الأصلية lapythcrA للقصيدة العربية هو الذي أتاح لشعره التأثير والبقاء بعد هذه السنوات العاصفة. وقد برهن السياب في هذا المجال أولا: أنه كما ازداد العمل الشعري استقلالية وكثافة تجذرت أواصل علاقته مع ميراثه العميق. وثانيا: أنه كلما واصل الشاعر التجريب في الشكل الشعري، وفي بنية القصيدة، وكما تعمقت استقلالية عمله الشعري، وازدادت قدرته على الحوار مع متغيرات الواقع، اقترب من البنية العميقة للقصيدة العربية، وهي بنية حوارية في جوهرها. وثالثا: أن عكس ذلك صحيح أيضا، أي أنه كلما استسلم الشاعر لتقليد البنية السطحية للقصيدة، ابتعد عن بنيتها الجدلية الحوارية العميقة. ورابعا : أن دراسة علاقات السياب التناصية مع القصيدة العربية تكشف وخاصة في بعد بنية الشكل الشعري العميقة فيها، عن بعض إنجازاته الباقية والمؤثرة في الشعر العربي حتى اليوم. وخامسا : أن التحول الذي انتاب بنية القصيدة الشعرية عنده لم يرهف علاقاتها المرجعية مع الواقع المتغير فحسب، ولكنه وطد أوامر علاقاتها التناصية مع بنية القصيدة العميقة كذلك. بهذه الطريقة المتعلقة باستقراء محتوى الشكل في القصيدة السيابية والوعي بدوره في البنية الشعرية تنحل اشكاليات كثرة استخدام المثنى عنده، والمراوحة بين صيفتي المخاطبة والغياب، وهي من أدواته البنائية المهمة، وذلك خلال التعامل معها عبر ما يدعوه باختين mrof fo noitaulavE وبلورة الرؤية من خلال محتوى الشكل وتبالاته.
أما العنصر الأخير الذي بقي من إسهام السياب في بنية التجربة الشعرية العربية من بعده، فهو الاستخدام المتميز للإحالة والأسطورة. هذا الاستخدام الذي يوشك تطور شعر السياب كله أن يكون محاولة للإمساك بناصيته، والتمكن من ترسيخ قواعده. فقد كان السياب، ككثيرين من شعراء جيله ء الذين تأثروا بانجازات مدرسة الحداثة في الشعر الغربي عند إليوت وعزرا باوند وغيرهما، مولعا باستخدام الأساطير والإحالات الثقافية والتاريخية والقرائن الحضارية، لكنه استطاع في فترة قياسية أن يطور هذا الاستخدام من كونه من العناصر المضافة، أو الملصقة من خارج التجربة، وكأنه نوع من التشبيه أو الكناية، الى جزء أساسي من البنية الشعرية ذاتها، تتخلق ملامحه معها وتتطور بتناميها، فيصبح جزءا من البنية الاستعارية السارية في اوصال التجربة. ومن يراجع استخدام الأساطير والإحالات الثقافية في «لمومس العمياء"أو "الأسلحة والأطفال" حيث كان هذا الاستخدام نوعا من الأمثلة المضافة، التي يراد بها البرهنة على أهمية جزئيات القصيدة ثم يتأمل هذا الاستخدام في "مدينة بلا مطر"أو"أنشودة المطر" يدرك أن السياب قد قطع شوطا فسيحا في هز المجال في سنوات قلائل. فقد أصبحت الإحالات الأسطورية في القصائد الأخيرة جزءا فاعلا في بنية النص يكثف من لغته ويكسبها ثراء دلاليا دون أن يخرج بها عن عالمها المتميز أو يكسر علاقة القارىء مع مفرداتها، أو يغترب بأي جزئية من جزئياتها عن وحدة النص العضوية. وفي هذا المجال نجد أن الاستخدام الجديد للأساطير قد خرج بها من مجال الكناية أو حتى التشبيه الى مجال الاستعارة التي تقيم علاقة جدلية مع الأصل.
واذا أخذنا "أنشودة المطر" كمثال، سنجد أنه يفكك الأسطورة التموزية فيها ويستخدم عناصرها الأولية لإعادة خلقها شعريا من جديد داخل بنية قصيدته الخاصة. وهذا ما أتاح له أن يجمع داخل القصيدة الواحدة الصيغتين البابلية والعربية للأسطورة التموزية دون أن يحس القارىء بأن ثمة تعارضا بين الصيغتين. ففي الصيغة البابلية نجد أن تموز هو عاشق عشتار الشاب، وهي ربة الخصب واعادة الانتاج،وأنه يموت كل عام، لكن اله الماء "إيا" يطلب من آلهة العالم السفلي"ألاتو" أن تسمح له بأن يرشهما بالماء حتى يعيدهما الى الحياة، وحتى تستعيد معهما الحياة فضارتها وخصبها. ولذلك فإن تموز يوصف في هذه الصيغة البابلية _ "الابن الحقيقي لمياه الأعماق “. وهذه الصيغة التي تتعلق برش المياه في القصيدة توشك أن تتخلل كل تفاصيلها لأن الماء فيها هو أحدى الصور الأساسية التي تتكرر تنويعاتها المختلفة فيصبح الماء مصدر الخصب والموت معا، وتهب مياه الخليج المحار والردى في آن. أما الصيغة العربية للأسطورة التموزية، وهي الصيغة التي يحيل اليها قسم الرحيل في القصيدة السيابية، فإنها الصيغة التي يقتل فيها تموز، وتطحن عظامه في الرحى، ثم تذرى في الرياح. ولذلك فإن تموز وفقا لهذه الصيغة هو روح الحبوب والتذرية، ومن هنا فإن الاحالات المتعددة الى الجوع، والرحى في القصيدة تتصل بهذه الصيغة العربية للأسطورة.وتقول الأسطورة أن النسوة لا ياكن طوال فترة أعياد تم