استراتيجيات الإقناع
جمعان عبد الكريم منتدى اللسانيات.
تكثر استراتيجيات الإقناع والاقتناع ؛ لوفرة ما يُطرح من آراءٍ تهدف إلى إقناع الآخرين بمحتواها ، أو أنها أفضل من غيرها ، وقد يكون مما هو معروف أن النقد الذي خُصِّص باستراتيجية مستقلة في المداخلات يصبح أحياناً أداة أو تكتيكاً في استراتيجيات الإقناع والاقتناع ، وهذا يدل على أهمية تلك الاستراتيجيات.
ولشرح عمل استراتيجيات الإقناع والاقتناع لابد من وقفة عند مصطلحي الإقناع والاقتناع و إيضاح الفرق بينهما ، وبيان علاقتهما بالخطاب والبلاغة ، تمهيداً لرصد آلياتهما الاستراتيجية .
وفي ضوء تصنيف المقامات التواصلية يخص هنريش بليث التواصل البلاغي ( بمعنى البلاغة الشائع عند أرسطو ، وفي أغلب الأدبيات الغربية التي نهلت منه ، وليس بمعنى البلاغة العربية ) ، يخص ذلك التواصل بأن الهدف منه الإقناع ، أو الوظيفة الإقناعية ، ويعرف الإقناع بقوله : " قصد المتحدث إلى إحداث تغيير في الموقف الفكري أو العاطفي عند المتلقي "( هنريش بليث : البلاغة والأسلوبية ( نحو نموذج سيمائي لتحليل النص ) ، ص 64 .)
ومع أن أرسطو كان من أول الذين استعملوا مصطلح الإقناع كثيراً ، وحاول بواسطة هذا المصطلح أن يجعل الخطابة غير تأثرية تعتمد على الانفعال فحسب ، بل عقلية تعتمد على الإقناع أيضاً ، " ومع ذلك لم يعرّف أرسطو ’’ الإقناع ’’ ، ولعله اعتبر المفهوم في غير حاجة إلى تعريف ، ولم يعرّف ابن سينا ولا ابن رشد في شرحيهما المفهوم . الفيلسوف العربي الوحيد الذي وقف في شرحه عند المفهوم هو الفارابي فقد قال : " الخطابة صناعة قياسية غرضها الإقناع ... وما يحصل ... في نفس السامع من القناعة هي الغرض الأقصى بأفعال الخطابة . القناعة ظن ما والظن في الجملة أن يعتقد في الشيء أنه كذا أو ليس كذا ..."( هشام الريفي : الحجاج عند أرسطو ، ضمن كتاب : أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم ، مرجع سابق ، ص 142 .)
ويعلِّقُ هشام الريفي على هذا التعريف ذاكراً أنه تعريف للمضمون الحادث من الإقناع وليس تعريفاً لفعل الإقناع ، ويشير إلى أن ارتباط الإقناع بالقول كسائر أعمال التأثير لا يكون فقط بالمواضعات اللغوية أو بالمُتَحدِّث ، بل له علاقة بتهيؤ السامع ؛ ولهذا فإمكان تحققه مرهون بذلك(انظر : المرجع السابق ، ص ص 143 – 144 .) ومما تجب معرفته أن الإقناع مرتبط أساساً بالحجاج ، وأن الحجاج قد يكون حجاجاً جدلياً ( مناقشة أو محاورة جدلية ) ، وقد يكون حجاجا خطابياً، ولكن الإقناع الحادث في المحاورة الجدلية يسمى ( تبكيتاً ) ؛ لأن تلك المحاورة تقوم بين طرفين كلاهما يحاول تخطئة الطرف الآخر مستعملاً البرهانيات من مقدمات ، وعلائق ، ونتائج صورية منطقية . أما الإقناع الحادث في الحجاج الخطابي فهو تقريب بين المتحدث والمتلقي ، وليس بالضرورة أن يستخدم البرهانيات الصورية بحرفيتها المستعملة في المحاورة الجدلية البرهانية ، بل هو قد يستعملها بصورة بسيطة ، أو قد يستعمل حججاً مختلفة ، ويمكن أن تكون تلك الحجج ، أو ما سمَّاه أرسطو بالتصديقات حججاً خارجية ( كالشهود، واليمين ) في بعض أنواع الخطابة .
والحق أن ما يحدث في المداخلة من حجاج ، ليس مناقشة جدلية برهانية بالمفهوم المنطقي لهذه المناقشة ، ولكنه جدلٌ أو حجاج خطابي يرمي إلى الإقناع والاقتناع .
أما الفرق بين الإقناع والاقتناع ، فبعض المشتغلين بالشأن اللساني قد لا يهتم كثيراً به إلا من حيث ترتب الاقتناع على الإقناع ،( انظر : طه عبد الرحمن : في أصول الحوار وتجديد علم الكلام ، مرجع سابق ، ص 38 .) ولكن الخطابة الجديدة عند بيرلمان و تيتيكاه تفرّق بينهما ، بل تعتمد نظرية هذه الخطابة الجديدة في جزء كبير منها على أساس من التفريق بينهما ، وهذا مما يغني الجانب الاستراتيجي في استعمال الاقتناع بدلاً من الإقناع . فالاقتناع عند بيرلمان و تيتيكاه هو غاية الحجاج ، ويشدد المؤلفان على ارتباط الاقتناع بما هو عقليٌ أكثر من الإقناع الذي قد يرتبط بما هو ذاتي ، بل إنهما يقسمان الحجاج بحسب نوع الجمهور إلى نوعين : حجاج إقناعي ، وهو يرمي إلى إقناع الجمهور الخاص ، وحجاج اقتناعي ، وهو حجاج غايته أن يسلَّم به كل ذي عقل . وقد اهتم المؤلفان بالجمهور المتلقي شفاهياً أو كتابياً في طرحهما للحجاج كخطابة جديدة ، وبناء على هذا لم يحفلا كثيراً بالجدل الصوري ، الذي يتعلق بالآراء في عدم خصوصيتها . إذ إن تقنيات الحجاج لا تكاد تختلف في أساسها ، وهي توجد على أي مستوى سواء أكان مناقشة عائلية حول مائدة طعام أم كان مناظرة في مجال متخصص جداً(عبدالله صولة : الحجاج : أطره ومنطلقاته وتقنياته من خلال " مصنف في الحجاج _ الخطابة الجديدة لبرلمان وتيتكاه ، ضمن كتاب : : أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم ، مرجع سابق ، ص ص 300 – 306 .)
وما يهم هنا هو من الخطابة الجديدة هو بعض ما قدمه المؤلفان في ( طرق العرض الحجاجي ) ، وفي محاولة تحديدهما لـبعض ( الموجهات التعبيرية التي لها دور حجاجي ) يؤدي إلى الاقتناع ، فمن طرائق عرض الحجاج وجود مقدمات يخضع اختيارها لطريقة العرض ، ويجب أن يُراعى السامعون في عرض هذه المقدمات أيضاً ، فلا يقدم بما هو معلوم لدى السامعين فيؤدي ذلك إلى الملل ، كما يجب ألا يُفصل بين الشكل والمضمون ، ولا يمكن من ثَمَّ دراسة البنى الأسلوبية منفصلةً عن أهدافها الحجاجية . ويجب أن يؤخذ في الاعتبار كل المظاهر الشكلية بما في ذلك التنغيم والإشارات وتدرس في ضوء تأثيرها الحجاجي . ومن طرائق العرض الحجاجية اعتماد أسلوبٍ يكون بطيئاً لا عجولا . ويذكر عبدالله صولة أن البطء المقصود ربما يعني عند المؤلفين الإطناب والترديد ، أما العَجَل ، فيعني الإيجاز ، ولكن ذلك قد يعني فيما يعنيه سرعة الكلام وبطئه ، وهو ما كان تقنية لافتة للنظر استُعملت في المداخلات في مواضع محددة . وذكر المؤلفان من طرائق العرض اعتماد التكرار لإبراز شدة حضور الفكرة المقصود إيصالها ، كما اهتما بالنبر والصمت وما يؤديانه من دور عند بعض المقاطع.
ومن طرائق العرض ذات الأثر الحجاجي كثرة إيراد الحكايات الدائرة حول موضوع واحد . وكذلك الإحالة إلى مكان الحدث وزمانه . والميل إلى استعمال اللفظ الحسي المجسد دون اللفظ المجرد . كما أن انتقاء اللفظ هو ذو قيمة حجاجي ثابتة لها علاقة بالمقام فعلى سيبل المثال هناك فرق بين أن يقال :
( هذا كذب أو هذا مخالف للواقع )
وتبعاً لهذا لا يمكن أن يُقال بسهولة : إن هناك خطاباً وصفياً محايداً ، فكل خطاب يحمل في الحقيقة قدراً من الحجاجية . كما أن النفي له دور في الحجاج ؛ إذ لا ينشأ النفي في العادة إلا ضمن معطيات حجاجية قوية وراسخة ، كما أن طرائق الربط بين القضايا بواسطة أدوات الربط المختلفة ( الواو ، لكن ، إلا ، على الرغم ... إلخ ) تبني النتيجة على السبب وتحدث هرمية في شأن القيم وتتيح للخطيب سلاسة انقياد المستمعين لما يقول .( المرجع سابق ، ص ص 316 – 321 .)
كل طرائق العرض السابقة قد يكون لها علاقة بالتماسك النصي في شقِّه الدلالي . وقد ذكر بيرلمان و تيتيكاه أهم الموجهات في العرض الحجاجي وحصراها " في أربعة هي :
1- التوجيه الإثباتي ... ومن شأنها ان تستخدم في أي حجاج .
2- التوجيه الإلزامي ... وصيغته اللغوية هي الأمر . لكن ليس لهذه الصيغة قوة إقناعية وذلك على عكس ما قد يعتقد ؛ إذ يستمد الأمر طاقته الإقناعية من شخص الآمر وليس من ذات الصيغة ، ولهذا يتحول الأمر إلى معنى الترجي حين لايكون الآمر مؤهلاً شرعياً لتوجيه الأمر .
3- التوجيه الاستفهامي ... وهي ذات قيمة خطابية جليلة إذ يفترض السؤال شيئاً تعلق به ذلك السؤال ويوحي بحصول إجماع على وجود ذلك الشئ .
كما أن اللجوء إلى الاستفهام قد يهدف أحياناً إلى حمل من وجه إليه الاستفهام على إبداء موافقته ...
4- التوجيه بالتمني ... ومداره على الصيغ المفيدة تمنياً ، وهذه الصيغ يستفاد م منها الاعتماد على فكرة ما أو رأي ما تقر بها المجموعة ...
وصيغ لغوية أخرى شأن الأزمنة ... وشأن استخدام الضمائر يعوض بعضها بعضاً .
ومجال هذه الصيغ التوجيهية في الحجاج أوسع بكثير من مجال التوجيهات المنطقية وقد حصرها المناطقة في اليقين والإمكان والضرورة ."( المرجع السابق : ص ص 321 – 322 .)
وكل الموجهات السابقة بما فيها الموجهات المنطقية ، وما عرضه المؤلفان من تقنيات حجاجية في كتابهما يمكن أن تنتظم في استراتيجية تسمى استراتيجية الاقتناع ، ويمكن رصد تلك الاستراتيجية في المداخلات المدروسة كالتالي :
ـ استراتيجية بناء النص في الاستراتيجيات الإقناعية والاقتناعية :
يشكِّلُ بناء نص الجدلي جزءاً مهماً من الاستراتيجية الإقناعية أو الاقتناعية ، ولابد من الاهتمام بالتقسيمات الشكلية للجدل في صورته المبسطة على أقل تقدير ؛ وذلك من خلال رسم البنية العليا للمداخلة الجدلية أو ما قد تحويه المداخلة المطلقة من جدل جزئي وكما ذكر فان دايك سابقاً : أن " الأمر يدور حول تتابع ( فرض ( مقدمة ) ـ نتيجة ) . ونجد هذه البنية سواء في الحجج ( الأدلة ) الشكلية أو في المنطوقات الجدلية ( الحجاجية ) للغة الحياة اليومية ."( تون أ . فانديك : علم النص ( مدخل متداخل الاختصاصات ) ، ص 233 )
على أنه ينبغي أن يكون من المعلوم أن الخطابة بمفهوها الحجاجي الإقناعي قد أولت منذ أرسطو ترتيب أجزاء القول أهمية كبرى بحيث عُدَّ عنصراً رئيساً من عناصرها.( انظر : محمد العمري : في بلاغة الخطاب الإقناعي ( مدخل نظري لدراسة الخطابة العربية ) ، مرجع سابق ، ص 20 .)
أما مراحل بناء النص فإن البلاغة بمفهومها الحجاجي القديم تذكر خمس خطوات مازالت هي الخطوات الرئيسة لبناء النص الحجاجي وتجري تلك الخطوات في عملية متسلسلة كالتالي : " 1- الإيجاد : تحضير ما يقال . 2- الترتيب : تنظيم المادة المحصل عليهـا. 3- العبارة : إضافة المحسنات البلاغية . 4- الذاكرة : الرجوع إلى الذاكرة . 3- الإلـقاء : تشخيص الخطاب شأن الممثل : الحركات ، والإنشاد ... والمرحلتان الأخيرتان لاتهمان إلا النص الذي أُنتج شفوياً ".( هنريش بليث : البلاغة والأسلوبية ( نحو نموذج سيمائي لتحليل النص ) ، مرجع سابق ، ص 22 .)
وفي الإيجاد تتم عملية اكتشاف المواد والحجج والبراهين التي يعتمد عليها الإقناع ، وهذه المواد قد تم رصدها في البحث الحجاجي تحت مصطلح ( المواضع ) ، أما الترتيب فيكون فيه التنظيم الفعَّال لتلك الحجج ، وفي الخطابة هناك مقدمة تجعل القارئ المستمع منتبها ومتقبلاً ومتشوقاً لما يقال ، وهناك السرد وفيه تقدم الوقائع بطريقة مختصرة مقبولة وهناك الاحتجاج أو العرض وهو أهم جزء من أجزاء الخطابة ، وقد يحفل بالموضوعية أو الانفعالية تبعا لما يريد أن يحدثه الخطيب . وفي النهاية هنالك الخاتمة التي تضم ملخصاً للبرهنة ودعوة إلى انفعال ما ، وقد يخضع هذا الترتيب المقترح لتعديل فهناك اختلاف حول عدد أجزاء الخطاب وجنسها ، فيمكن أن يضاف مثلاً بين المقدمة والبرهنة ( الاقتراح ) أي تحديد الموضوعات أو ( التجزئي ) تنظيم البراهين.
هذه الأمور يجب أخذها بعين الاهتمام في استراتيجية النص الجدلي،وعلى ذلك ينبغي فيه حتى يكون مقنعاً أو مفضياً إلى الاقتناع أن يُهتم فيه بالأمور التالية :
ـ أن تكون المقدمة من المقدمات المتفق عليها بشكل عام ، وأن يتم الانتقال من المقدمة إلى النتائج بشكل تراتبي محكم .
_ الاهتمام بالروابط بين المقدمة والنتائج ، بحيث تكون روابط مناسبة وقوية ، وأن تكون طريقة الانتقال من المقدمة إلى النتائج طريقة مباشرة ، وواضحة .
_ الاهتمام بترتيب الحجج حال تعددها وفق ترتيب أو استراتيجية معينة تراعي طبيعة الحجة وطبيعة المقام ، وطبيعة المتلقي .