تنمية المعرفة النقدية وثقافتها
د. مصطفى عطية جمعة
من أبرز الظواهر التي تلفت النظر في الحياة الثقافية عامة، وفي الحياة الأدبية خاصة ندرة نقاد الأدب وغياب الكثير من المتمرسين منهم عن الساحة لانشغالات عديدة، ونعني بالناقد هنا: الشخص القادر على سبر أغوار العمل الأدبي، وقراءته بشكل موضوعي، متوقفا عند جمالياته وأبرز أوجه التميز شكلا ودلالات ورؤية.
ان هذا الغياب وما يصاحبه من مظاهر تتمثل في ندرة النقاد المتمرسين، بات هماً ملحاً يؤرق الساحة الأدبية، لأن البديل لهؤلاء النقاد أشخاص لديهم حب الظهور، فيتحدثون بأريحية يغلب عليها المجاملات والمديح أو الانتصار لمذهب أدبي ما أو لقناعات جمالية وشكلانية ورؤيوية تخص هذا المتصدي، دون الوقوف على ملامح التميز في العمل أو مدى تطوره الفني والفكري والفلسفي، هذا وجه، وهناك وجه آخر لهؤلاء مدّعيّ النقد أنهم يهاجمون من يخالفهم، ويعادون من يتصدى لهم بالرد أو الاختلاف، وتكون المحصلة في مجملها سلبية، فلم يستفد المبدع من نقد جاد يتعرف به ملامح تميزه وتطوره الابداعي، وأيضا سيادة قناعات نقدية في المحافل الأدبية والثقافية ما أنزل الله بها من سلطان، ويظل الأمر مقتصرا على رؤى مكرورة لا جديد فيها يطبقها قائلوها على سائر النصوص الأدبية، ولا ضير في ذلك فهي مقولات فضفاضة. والسبب في ذلك: غياب الناقد المتمرس ومن ثم غياب الذائقة النقدية وثقافتها الصحيحة.
حين يتحول المبدع الى ناقد
إن هذه قضية قديمة جديدة، والكثير من الأجيال المبدعة تشتكي غياب النقاد عن متابعتهم، وقد ينقضي جيل كامل، ولا يجد اهتماما ولا دراسات نقدية موضوعية تتابع انتاجه: تقويما وارشادا في المستوى الأدنى، وتقدّم قراءات جمالية ورؤيوية في المستوى الأعلى.
وقد لجأت بعض الجماعات الأدبية أو المذاهب الجديدة الى أن يتقدم مبدعوها الساحة النقدية، وهم غير مؤهلين نقديا بشكل صحيح، أي ينبثقون من رحم ابداعهم، يكتبون الدراسات عن مجايليهم وزملائهم، ويتصدرون المحافل والمنتديات. وهذا لا بأس به، فكل مذهب أدبي أو تيار يحتاج الى من ينظّر له، ويطرح مفاهيمه ورؤاه من خلال أتون ابداعه، ولكن أن يتحول هؤلاء المنظرون الى نقاد بالمعنى الاحترافي، فيقومون بفرض قناعاتهم على سائر التيارات، فهذا بعيد كل البعد عن المفهوم الحقيقي للنقد.
وقد أشار د. محمد عبدالمطلب (في مقال بأخبار الأدب القاهرية) الى الناقد الأسطى، أو (الناقد السبّاك) الذي يتنقل من ندوة الى أخرى، ويتناول مختلف الكتابات، بروح واحدة، وعقل واحد، بمقولات نقدية مكررة، استقاها مما تتعاوره الألسنة على المقاهي وفي منتديات الأدب، فيتحول هذا المتحدث الى شخص شبيه بالأسطى الذي يصلح الجديد والقديم من متاع المنازل.
ومن هنا نؤكد أهمية الناقد المنهجي الذي يتفهم العمل، وينصفه، ويقوّمه بغض النظر عن قناعاته الفكرية والجمالية والفلسفية، وقد ابتلينا فترة من الوقت بتسيد فئة من نقاد الواقعية الاشتراكية، الذين قاسوا كل عمل بمدى ارتباطه بمشكلات الطبقة العاملة وقضايا الفقراء والتبشير بالبطل وبحتمية الحل الاشتراكي، ووضعوا في سبيل ذلك شروطا ومقاييس فنية. والأمر نفسه كان مع تيار الحداثيين، حيث أشاع بعض منتسبيهم أن مذهبهم هو الخاتم في المذاهب الأدبية، وصار الاقتراب من الحداثة أو التنائي عنها معيارا للتجديد الشعري، علما أنهم استقبلوا هذا المذهب بعدما خبا نوره في الغرب، وكانت مراجعات ما بعد الحداثة ونظرياتها تتعاور الساحة الثقافية والفلسفية الغربية وتوجه أشد أسهمها الى الحداثة.
وحدة النقد المنهجي ينقذنا من التخبط
أيضا هناك ظاهرة أخرى تصاحب الظواهر السابقة، وهي الجهل النقدي لدى المبدعين أنفسهم، ونعني به أن المبدع غير مثقف نقديا، على رغم أنه مهموم بالنقد وفي أشد الحاجة اليه، والثقافة النقدية تعني: معرفته بأسس النقد ومقاييسه ومذاهبه وطرائقه ومدارسه، ونقصد بالمعرفة أنها الدرجة الأولى من التلقي النقدي، حتى يكون قادرا على فهم الناقد، والوعي بالمصطلحات النقدية المذكورة، فلا يكون الناقد المنهجي في واد، والمبدع في واد آخر، ويغيب الاتصال الحي بينهما، والمعرفة النقدية أساس هذا الاتصال.
وقد قال نجيب محفوظ وهو يمسك بدراسة نقدية عن احدى رواياته، وكانت منشورة في أحد الأعداد الأولى لمجلة فصول النقدية (القاهرية): «لم أكن أعلم أن النقد صعب لهذه الدرجة». فقد كانت الدراسة في ضوء المنهج البنيوي. وهذه المقولة تنبئ عن عدم مسايرة الأديب للمستجدات النقدية، علما أن النقد الأدبي هو الوجه الآخر للعملية الإبداعية، ومن الطبيعي أن يكون المبدع على دراية نقدية (نقول مجرد دراية) حتى يتفهم سبل قراءة العمل الأدبي في ضوء المنهجيات النقدية المتعددة.
النقد الحقيقي عملية إبداعية موازية
ويكون السؤال: هل كل مبدع هو ناقد أدبي؟ أم أن الناقد في واد والمبدع في واد آخر؟
لاشك أن المبدع هو ناقد في أعماقه، ولكنه ناقد بالذائقة والدربة والخبرة والتراكم المعرفي في الابداع، ولذا نجد المبدعين الكبار يقولون كلمات قليلة في تقييم العمل، بمعنى أنه جيد، أو مميز، أو يطرح تساؤلات... الخ، وهي كلمات موجزة ولكنها كافية للتعبير عن الذائقة النقدية المترسخة في الأديب. وهناك قلة قليلة من الأدباء من جمعوا بين النقد والابداع، ولعل أبرزهم «اليوت» الشاعر الانكليزي، ود. طه حسين وعباس العقاد وغيرهم.
أما الناقد فهو متذوق في الأساس للابداع، في جميع عصوره، وعلى اختلاف مبدعيه وتنوع انتاجهم، وليس مبدعا فاشلا كما يروج البعض، علما أن كثيرا من النقاد بدؤوا حياتهم مبدعين، ولكن وجدوا أنفسهم في النقد على اعتبار أن النقد عملية ابداعية موازية، ولا تقل أهمية عن الابداع ذاته، ولعل أبرزهم د. عز الدين اسماعيل، الذي فاق نقده ابداعه، ولكنه لم يتخــل عن الابداع، وظلت نفسه تفور به الى آخر أيام عمره.
وبالتالي لا معنى لمن يضع الابداع أعلى من النقد، أو ينظر للناقد على أنه مبدع فاشل، وفي المقابل لا معنى لأن يستأسد النقاد على المبدعين على اعتبار أن المبدع تلميذ الناقد، ويصوغ ابداعه في ضوء توجيهات الناقد، وانما المسألة علاقة تبادلية، حوارية، جدلية، لا تنقطع، مادام الأديب يبدع، وهو في حاجة للناقد الذي يحاور ابداعه.
ومن القضايا ذات الشأن، ما يردده المبدعون بأن النقد عملية متخصصة، وتحتاج الى من يتخصص فيه، لأننا في عصر التخصص.
هذه مقولة غير دقيقة، نعم نحن في عصر التخصص، ولكن التخصص لا يعني الانغلاق المعرفي، ولا يمكن أن يتميز مبدع الا بثقافة عميقة شاملة، في الفلسفة والفكر والأدب والتاريخ والنقد الأدبي وغيرها.
والأمر نفسه لا يتميز ناقد جامد القناعات الفكرية والجمالية، يتعاور ما ذكره القدماء والسابقون، ولا يحيد أنملة عما قدموا، ويرى أن النموذج في الماضي ويسخر من مبدعي الحاضر، وهو يائس من مبدعي المستقبل، فلابد أن يساير الجديد الابداعي.
أعراض المشكلة النقدية وملامحها
في ضوء ما سبق تكون المشكلة واضحة محددة، يمكن تشخيص أعراضها في نقاط ثلاث:
الأولى: اننا نعاني من غياب الثقافة النقدية بشكل عام لدى المبدعين والمتلقين على حد سواء، وفي الوقت الذي تطورت فيه المناهج النقدية، وظهرت آليات عديدة لتحليل النصوص، لتواكب المستجدات في عالم الابداع على اختلاف أجناسه، ولتعيد قراءة النصوص في ضوء المناهج النقدية الجديدة، نجد أن هناك جهلا بكل هذا لدى المبدعين، ويترتب على هذا الجهل فشل احدى مهام الناقد الأدبي وهي تجسير العلاقة بين النص والمتلقي، فاذا كان المتلقي لا يعي المصطلحات والمناهج المذكورة في الدراسات النقدية، فان جهد الناقد الأكاديمي المنهجي يظل حبيسا، متوهجا الى نخبة الأكاديميين وليس للمبدعين والمتلقين.
الثانية: اننا نعاني من قلة النقاد (المحترفين)، ولا يغرنك كثرة الباحثين في حقول الدراسة الأدبية والنقدية في الجامعات، فالمحصلة في غالبيتها - التي نراها أن الباحث يتأطر في الجامعة، وفي المواد التي يدرسها لطلابه، وفي أبحاث معدودة يطمح بها للترقية، ويظل في منأى عن الجديد الابداعي والمستجدات في المناهج النقدية، والمصيبة الأكبر أن يقف الباحث الأكاديمي عند حدود ما درسه أكاديميا للحصول على درجة الدكتوراه، ويرى أن هذا هو خاتم العلم ونهاية معلوماته النقدية، وتكون أبحاث ترقيته دائرة في الفلك المعرفي نفسه، معلومات مكرورة، وفكر متشابه، ومزيد من العزلة. وتكون الثمرة في النهاية غياب النقاد المحترفين عن الساحة الأدبية، وتسيّد أشباه النقاد ومن يمتلكون شهوة الكلام وحب الظهور المنتديات وحلقات النقاش.
الثالث: اننا نعاني من تدني الثقافة النقدية لدى المبدعين أنفسهم، وهذا يجعل المبدع في منأى عن فهم البحوث النقدية المعمقة، ومواكبة المستجدات النقدية وهذا عائد الى عدم مواكبة المبدع للجديد في النقد، وعدم اهتمامه بتكوين ثقاقة نقدية واعية (نقول ثقافة) تستطيع أن تحاور النصوص بشكل واع، وأيضا يدخل في حوار عالي المستوى مع النقاد، لاختبار الفرضيات النقدية ومناقشة الجديد من المناهج والنظريات والمذاهب.
ومن هنا يكون الحل بسيطا: المزيد من الوعي النقدي: اطلاعا، ثقافة، بحثا، مناقشةً، بشكل منظم، خاصة أن الساحة فيها الكثير من الدراسات والكتب والأبحاث النقدية الجادة، وفيها الكثير الميسر لمن أراد تكوين ثقافة نقدية حقيقية.
وتكون الثمرة: رفع مستوى النقاش النقدي، ووجود المبدع/ الناقد، والمتلقي/ الناقد، والناقد/ الفاعل/ المتابع، ويكون المزيد من النقاش الجاد للنصوص والمزيد من الحلقات النقاشية، ويعقب هذا كله حيوية وموضوعية وحيادية في الساحة الثقافية، ووجود لغة نقدية عالية الطرح، سهلة الفهم، عميقة الحوار بين أطراف التلقي: المبدع، الناقد، القارئ.
نقلاً عن جريدة النهار العدد433