لتعدد اللغوي والتنوع الثقافي. أوروبا والهند كمثالين
يمكن اعتبار التطور الذي تشهده أوروبا حاليا عملية تحول لدول وطنية، تعيش وضعا يتميز بالتماسك الثقافي القوي نسبيا، إلى كيان تنظيمي جديد أكثر تعقيدا، خاصيته التعدد الثقافي واللغوي. وترافق عملية التطور هذه نقاشات وأفكار داخل النخبة الثقافية الأوروبية حول "فكرة" أوروبا التي ترجع أصولها إلى الخطاب الأوروبي السائد منذ الحقبة الرومانسية (الرومانتيكية)، وتشكل بالتالي استمراراً له. لكن في الوقت ذاته فإن التطورات التي تشهدها أوروبا تشكل جزءاً من عملية تحول عالمية من سماتها مشاكل الاندماج والتموضع الديني والإثني والبحث عن استراتيجيات للتعامل مع التنوع والاختلاف. وإذا ما أخذنا السياق العالمي بعين الاعتبار، يمكن ملاحظة أن عملية إدخال التنوع والتعددية الثقافية إلى الدول الأوروبية المعتادة نسبيا على وحدتها اللغوية والثقافية، تَنتُج عنها توترات اجتماعية شبيهة بتلك التي تعيشها دول معروفة بتعددها اللغوي والثقافي والديني مثل الهند، حيث تقود التوترات إلى وجود ضغط لتحقيق الانسجام الديني ـ الثقافي مقابل تقلص هامش المجال العلماني. وفي كلتا الحالتين (الهند وأوروبا) يتعلق الأمر بعلاقة دياليكتيكية بين هدم الحدود ودعم التنوع.
واجهت الدول متعددة الثقافات دوما تحديات كبيرة، ما جعل استمرارها مهددا باستمرار. وفي التاريخ الأوروبي أثبتت التجربة أن الكيانات، التي يمكن تشبيهها بالهند مثل مملكة هابسبورغ ويوغوسلافيا مثلاً، لم تنجح كباقي الكيانات الأخرى التي شُكلت على أساس فكرة هيردر الرومانسية، القائلة بضرورة وجود قدر كبير من الانسجام بين اللغة والشعب والوطن. وتكمن الإشكالية الأساسية للدول متعددة الثقافات في إيجاد أنجع الوسائل للتعامل الديموقراطي مع التنوع الداخلي وسبل ضمان الاستمرارية. ويسري الأمر نفسه على مشاكل التعدد اللغوي كما نعلم ذلك من الصراعات اللغوية.
وقد أدت هيمنة فكرة الانسجام الثقافي واللغوي إلى التقليل من قيمة تقاليد أوروبية ضاربة في التاريخ تميزت بالتنوع والتعدد اللغوي، كما كان عليه الحال في عهد النهضة والباروك قبل أن يتم العودة إليها من جديد.
كيف سيكون شكل أوروبا ذات اللغات المتعددة؟ هل ستصبح أوروبا المستبقلية نسخة كبييرة فقط من سويسرا دون تعايش لغوي حقيقي؟ هل سنشهد في أوروبا المستقبلية أيضا مجموعة من المراكز اللغوية التي تدخل في منافسة ومفاوضات ثنائية مع بقية العالم؟ أم أنه بالإمكان تصور أوروبا تعيش التعدد اللغوي بشكل شبيه بالنموذج الهندي؟
أحادية اللغة أم التعدد اللغوي؟
يصعب على كل شخص تربى في مجتمع تجمعه لغة واحدة أن يستوعب ترسخ التعدد اللغوي في الحياة بالهند. فبعد استقلال الهند عام 1974 تم الاعتراف في دستور البلاد بستَ عشرة لغة رسمية. في غضون ذلك بلغ عدد اللغات الرسمية المعترف بها حاليا اثنتان وعشرون لغة. وتتبوأ الهندية مركز اللغة الوطنية الرسمية، في حين تعتبر الإنجليزية لغة رسمية ثانية. وإضافة إلى التعدد اللغوي هناك أيضا تنوع قوي في أنظمة الكتابة بالهند. وإذا كان الفرق بين اللغة واللهجة وتعريفهما يثير نقاشات علمية عديدة، فإن اعتراف الدستور رسميا بإحدى اللغات يخضع في الهند للمعادلات السياسية القائمة. وقد أحصى الرصد الانثروبولجي للهند خمسة وعشرين نظاما للكتابة وثلاثمائة وخمسا وعشرين لغة في الهند. وتتوفر جميع هذه اللغات على فرصة الحصول على اعتراف رسمي بها من الدولة. ولعل أبرز ما يسترعي الاهتمام في الاحصاءات التي أوردها الرصد الانثروبولوجي هو تأكيده على أن ما نسبته 65% من المجموعات السكانية في الهند تتحدث بلغتين أو حتى ثلاث لغات. وهذا مؤشر واضح على أن التعدد اللغوي في الهند ليس ظاهرة معزولة وإنما هو أمر طبيعي.
يندفع علماء اللسانيات في المجتمعات أحادية اللغة سريعا إلى اعتبار أن وحدة اللغة هي الأصل في السلوك الاجتماعي البشري وكل ما عدا ذلك حالات استثنائية وخروجا عن قاعدة وحدة اللغة. وأنا أتذكر كيف كان التعدد اللغوي يواجَه سابقا بنوع من التحفظ من جانب علماء اللسانيات في ألمانيا؛ إذ وصفه كثيرون حتى سنوات الستينيات من القرن الماضي بالسطحية. فقد تم اعتبار الشخص الذي يتقن عددا من اللغات "ذكيا ومرنا" لكن "ليس عميقا". بل ان طاقات ذلك الشخص قد تثير الريبة لدى الآخرين. في هذا السياق يتحدث غريغور فون ريزوري Gregor von Rezzori ، الذي أُرسل من بوكوفينا ( البلقان) ليتلقى تعليميه المدرسي في أوستشتايارمارك ( النمسا)، عن زملائه في المدرسة: "لقد كنت دائما بالنسبة لهم وافدا من البلقان. وكان إلمامي بالرومانية والأوكرانية، إضافة إلى الإنجليزية والفرنسية، اللتين يسعى الجميع إلى تعلمهما، يثير الشكوك لديهم".
ويعكس موقف زملاء ريزوري في المدرسة، في الواقع، رأي علماء لسانيات ذوي تأثير كبير؛ إذ يرى ليو فايسبيرغر Leo Weisgerber أن " الإنسان بطبعه خُلق ليكون أُحادي اللغة، وأن استيعاب العالم الخارجي يتطلب الوحدة التي توفرها اللغة الأم (مثلما لا يتوقع أحد أن يعيش المرء بديانتين)، إضافة إلى أنه من المستحيل توفر جميع الظروف الضرورية لنجاح ثنائية اللغة". بهذا يجب أن تظل ثنائية اللغة أو تعددها حالات اسثنائية. وشدد فايسبيرغر على خطورة ثنائية اللغة وحذر منها بالاستناد إلى دراسة سويسرية هيمنت عليها المخاوف من أن يتحول " التجاور بين اللغات إلى فوضى". وتحدثت تلك الدراسة عن أن " فساد اللغة يرافقه فساد الأعراف".
بالمقابل بدأ تأثير الآراء المعارضة لإيديولوجية أحادية اللغة يزداد، خاصة الأصوات القادمة من سويسرا والنمسا حيث كانت تعددية اللغة دوما موضوعا للنقاش. في هذا الإطار يقول ماريو فاندروشكا Mario Wandruszka مثلا: " إن لغاتنا الحالية هي نتيجة خلطات لغوية متجددة شهدتها القرون العديدة الماضية. وتكفي الإشارة هنا إلى اللغة الإنجليزية التي هي عبارة عن تكتل أنغلوساكسوني ـ إسكاندنافي ـ نورماني(فرنسي) ـ إغريقي ـ لاتيني". ويرى الكاتب السويسري هوغو لوتشر Hugo Loetscher أن القدرة على استخدام لغات عديدة والتنقل بينها تساهم في " التخلي عن الإيمان المطلق بصحة وحقيقة اللغة، لأن اللغة التي نستخدم ليست هي الصحيحة أو الحقيقية وإنما ما يحققه المرء ويصنعه بها". بهذا يصبح اللعب والسخرية في اللغة مُرحَّبين بهما؛ فالكاتب النمساوي هايميتو فون دوديرر Heimito von Doderer يصف بشيئ من السخرية وازدواجية المعنى نزعة المرونة في استخدام اللغة التي شهدتها فيينا خلال السنوات الأولى من القرن العشرين بـ "استعداد متعدد اللغات للمدينة". وينطبق هذا الوصف بدقة على السلوك اللغوي في مرحلة التعدد الثقافي التي شهدتها المدن الأوروبية الكبرى في تلك الفترة. وهناك مثال طريف نجده في رواية "النمسا الأبدية" للكاتب النمساوي الساخر كارل تيشيت Carl Techet (عاش بين عامي 1877 و1920). ففي استمارة الإحصاء السكاني يتوجب على الموظف الحكومي شنايدر تسجيل "اللهجة العامية" التي يتكلمها، الأمر الذي أصابه بـ "الذهول". السيد شنايدر ملأ تلك الخانة بالعبارة التالية: "محايد! إذا كان مختلفا، يُغَيِّر".
ثنائية اللغة واجب معرفي!
ويربط هوغو لوتشر بين النقاش حول تعدد اللغات والديموقراطية، لأن تعدد اللغات يُسقط الهالة الأسطورية المحيطة بمفهوم اللغة الأم. قد يكون تعويض "مصطلح (اللغة الأم) ذي الحمولة الإيديولوجية القوية بمصطلحٍ يتميز بالموضوعية مثل (اللغة الرئيسية) باهتا بالنسبة للبعض"، لكن هذا التعويض يُذكرنا بأن أسبقية اللغة الأم هي نتاج "عملية إزاحة" مرتبطة بالسلطة.
كما تُقدم الكاتبة والصحفية الهندية ميرنال بانده Mrinal Pande نظرة مشابهة:
"في الواقع فإن اللغة الهندية، التي يتحدث بها الملايين، لم تكن عالما مغلق الحدود. لقد كانت دائما بوتقة للانصهار. وهناك عدد كبير من اللغات واللهجات، التي دخلت فضاء اللغة الهندية، وأضفت عليها لمستها وتأثيرها على مدى قرون. لقد كان عدم الاقتصار على تعلم لغة واحدة من أعظم المغامرات في القرن الماضي بالهند(...). وإتقان أكثر من لغتين لا يساعد على توسيع دائرة المفردات لدى المرء باستمرار فحسب، وإنما يفتح الباب على مصراعيه أيضا لكي يُظهر الأطفال طاقات الإبداع الهائلة الكامنة في عقولهم".
وحول العلاقة مع مفهوم اللغة الأم تقول: "(...) كان الأطفال لا يرون حدودا بينهم وبين العالم، والمتحدثون بالهندية (والكتاب أيضا) لا يميزون بين اللغات المختلفة أو يُكنون العداء للهجات الأخرى. فجميعها لغاتٌ أم تستحق أعظم درجات الحب والاحترام".
ويمضي الكاتب أنانتامورثي U. R. Ananthamurthy ، القادم من ولاية كارانتاكا الهندية التي تنتشر فيه لغة كانادا، إلى أبعد من ذلك ويعلن بوضوح: " أنا لا أستخدم مصطلح اللغة الأم كما يفهمه الأوروبيون. على سبيل المثال، إذ أن بعض أفضل الكتاب بلغة كانادا يتكلمون التاميلية أو المارثي في بيوتهم(...). في الهند على كل حال، هناك كثير من الكتاب الذين لا يتكلمون اللغة ذاتها التي قد يكتبون بها".
ويقول الكاتب إيليا ترويانوف Ilija Trojanow الواسع الاطلاع بالهند في حوار صحفي: يجب على كل شخص أن يكون ثنائي اللغة. إن ثنائية اللغة هدية، والأطفال لا يواجهون أي مشكلة معها. فهناك أطفال دون الرابعة يتقنون لغتين. وهذا يجب أن يكون هدفنا، إذ أنه من العادي جدا أن تجد في عدة دول إفريقية وأجزاء واسعة من الهند أشخاصا يتكلمون خمس أو ست لغات".
أما حول اختياره الكتابة باللغة الألمانية فهو يعتبر ذلك " قراراً واعياً. لأنني اعتبر الألمانية أكثر مرونة من الإنجليزية. فهي لغة كثيفة وشاعرية وعرفانية، كما أنها جافة ودقيقة".
يجد أنصار إيديولوجية صفاء اللغة دوما صعوبات في تقبل طاقة الإبداع التي توفرها حالات التنوع الثقافي، ولعل هذا هو السبب الذي يؤدي إلى إقامة حدود ثقافية ولغوية. وينتقد الكاتب السويسري إيسو تشامارتين Iso Camartin نزعة إقامة الحدود هذه عبر تقديم صورة معبرة قائلا:
"يمكن القول إن اللغة لا تعرف حدودا. وهذا لا ينطبق على الإنجليزية وحدها، فحتى لغة محدودة الاستخدام كالرومانشية لا تعرف حدودا. المناطق الجغرافية والأراضي هي التي تعرف الحدود، أما اللغات فتملك أفقاً. الحدود واضحة المعالم ومحددة، أما الأفق فهو متنقل. واللغات الحية في حركة مستمرة، وتبني تحالفات مع اللغات المجاورة، وتتبادل وتسرق وتخترع حسب الحاجة وحسب خيال الأشخاص الذين يستخدمون هذه اللغات".
ما يهمني بالدرجة الاولى هو الإشارة إلى أن عددا كبيرا من الأديبات والأدباء في الهند، إضافة إلى عدد متزايد من نظرائهم في أوروبا أيضا، يرون في التعدد اللغوي إثراءً وليس تهديدا للهوية، رغم أن إيديولويجية أحادية اللغة حاولت دائما الإيحاء بأن الاستخدام الابداعي للتعدد اللغوي يقود إلى فقدان الأصالة.
وفي هذا السياق يبقى رأي غوته معاصرا، ففي مقالته "عصور التعليم المؤانس" Epochen geselliger Bildung يتحدث غوته عن أربع مراحل لتطور التعليم. في المرحلة الأولى وحدها يتمسك المرء "بتفضيل اللغة الأم"، ثم في المرحلة الثانية "لا يرفض المرء تأثير اللغة الأجنبية"، ليصل بعدها في المرحلة الرابعة إلى " الاقتناع بأهمية التعرف على أوضاع السباق العالمي على المستويين الفكري والواقعي. هكذا يصب الإنتاج الأدبي الأجنبي في الاتجاه ذاته للأدب المحلي، ونحن لا نتخلف بالتالي عن الركب العالمي".
يصعب تقديم تعريف للتعدد اللغوي الجاري به العمل في الهند وآليات عمله. فالمراقب الأوروبي يصاب بالحيرة بسبب الحضور المشترك لعدة لغات في خطاب واحد. ويصعب عليه بالتالي استيعاب هذه المرونة في استخدام اللغات والدور الذي تلعبه الإنجليزية.
يجب فهم التعدد اللغوي في الهند بشكل مختلف. فالأمر يتعلق بقدرة على استخدام التعدد اللغوي تتيح التواصل بشكل كاف بعد إيجادها صيغة مناسبة لذلك. وأنا أُشدد هنا على "بشكل كاف". إن نجاح التواصل مع التعدد اللغوي لا يهدف إلى تحقيق كمال لغوي. كما أن الموديلات التي تقدمها النظرية السلوكية لرموز التبديل لا تتسع لطبيعة التعدد اللغوي. فالتعدد اللغوي يمكن فهمه بواسطة مفاهيم إجرائية كالسلوك اللغوي أو التصنيف اللغوي. فالمرء يترعرع في وسط متعدد اللغات وتتعود أذناه على نغمات لغاتٍ عديدة، بحيث أن اختلاف اللغات لا يصبح شيئا غريبا. ويمكن استخدام استعارة من عالم الموسيقى لوصف حالة التعدد اللغوي، إذ أن قدرة الموسيقار مثلا على استخدام أصناف موسيقية عديدة، تسمح له بالعزف بحرية، فهو باستطاعته تنويع وتبديل النغمات كما يشاء، والتعدد اللغوي شبيه بذلك. فكما يفعل الموسيقي مع التصنيفات الموسيقية يستخدم المرء التصنيفات والمراجع اللغوية كما يشاء في وسط اجتماعي يقبل ذلك ولا يرى فيه تعديا على صفاء اللغة الأم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين اللغات في هذا الوسط ليست علاقة لغة أم مع لغات أجنبية. فجميع محاولات تخريب حالات طبيعية من التعدد اللغوي تسعى إلى خلق ثنائية بين اللغة "الخاصة" واللغات "الأجنبية". لكن العلاقة بين الهندية والإنجليزية والتاميلية والبنجابية وغيرها في مدينة تشهد تعددا لغويا مثل نيودلهي لا يمكن وصفها بعلاقة لغة أم مع لغات أجنبية. فالأمر يتعلق بلغات أخرى علاقةُ بعضها ببعض شبيهة بعلاقة ألوان قوس قزح فيما بينها. واللغة الألمانية قد تكون بالنسبة لكثيرين اللغة الرابعة أو حتى الخامسة.
التعدد الغوي والتعدد الثقافي
لا يمكن فهم مجتمعات متعدد اللغات ومتنوعة الثقافات بالنظريات الثقافية التي تفضل وجود تماسك لغوي وعرقي وديني في المجتمعات. ولتقديم بديل نظري لفهم المجتمعات متعددة اللغات ومتنوعة الثقافات يمكن الاستعانة بصورةٍ من عالم المخطوطات؛ إذ أن بناء المجتمعات متعددة اللغات شبيه بالمخطوطات المعروفة باسم palimpsest والتي يعاد استخدام المادة التي كُتبت عليها عبر غسلها والكتابة عليها كل مرة من جديد، فتَتكوَّن بذلك طبقات فوق تلك المادة تُشكل بحد ذاتها مؤشرا على التحول التاريخي. وصورة هذه المخطوطات تنفي معها كل خطاب عن الأصالة أو التجانس. والمثير للانتباه هنا هو أن هذه الصورة استخدَمها كل من فيكتور هوغو لأوروبا وجواهر لال نهرو للهند على حد سواء. فالأول اعتبر الحضارة الأوروبية، الإغرقية ـ الرومانية، رابطاً يجمع الأتروسكان والإيبيريين والسلافيين والكلتيين. فيما اعتبر نهرو الهند نتيجة لإسهاماتٍ حضارية قام بها الآريون والمغول والأتراك والعرب. وتكمن الأهمية الثقافية للمخطوطات سابقة الذكر في أن قيمتها تقتصر على مجموع الطبقات التي تشكلت فوق المادة؛ إذ لا يمكن اعتبار أي طبقة منفردة، قد يعاد غسلها أو مسح ما فوقها، مخطوطة أصلية. فعملية تكوُّن طبقات المخطوطة تعني الغنى والثراء التاريخيين؛ وستكون النظرة للمخطوطة عكس ذلك إذا ما اعتبر المرء الطبقات الفوقية أضاعت قيمة الطبقة السفى الأصلية. وهكذا فإن الهند الحقيقية، إذا جاز التعبير، ليست هي الثقافة الأصلية التي شكلت الطبقة الثقافية السفلى أو أي طبقة ثقافية أخرى، وإنما هي مجموع عملية تشكيل الطبقات متزامنةً. هذه الفكرة يمكن تشبيهها بنظرية أرنست بلوخ الفلسفية حول "تزامن غير المتزامن" في أوروبا. إن مساعي إيجاد التجانس ينفي المجموع من أجل تحديد طبقة واحدة على أنها الأصل. لكن إذا ما عدنا إلى مثال المخطوطة فإن الطبقة السفلى كانت في الحقيقة صفحة بيضاء، ما يعني أن محاولات البحث عن الجذور والأصل في مجتمعات متعددة الثقافات يفضي بنا إلى الفراغ.
انتبه زعماء حركة التحرير في الهند مبكرا إلى موضوع التعدد اللغوي. وعند مواجهة مشكلة الاختيار والتخطيط المدروس لتطوير لغةِ تواصلٍ في رقعة جغرافية كبيرة ومتعددة اللغات والثقافات مثل شبه القارة الهندية، كتب رابيندراناث طاغور، الذي استخدم اللغة البنغالية في أشعاره، إلى المهاتما غاندي في عام 1918: "من الطبيعي أن الهندية وحدها تتوفر على إمكانية أن تكون لغة وطنية تتواصل بواسطتها مختلف الولايات في الهند". ولأن طاغور يعلم مسبقا بأن هذا قد يؤدي إلى ظهور توترات في بعض المناطق الهندية، فهو يعبر عن أمله في جيل جديد مستعد للقبول طوعا باللغة الهندية كلغة وطنية في جميع أرجاء الهند. فالأمر يتعلق بـ "(...) القبول الطوعي بواجب وطني".
من أجل المحافظة على تقاليد التعدد الثقافي في الهند ارتأى طاغور ومن بعده نهرو على أن اللغة الهندية يجب أن تشكل لغة التواصل الأساسية بعد تحرير الهند من الاستعمار البريطاني. وركز الجميع على أن التطور اللغوي يجب أن يظل بعيدا عن التعصب الديني. ولهذا شدد طاغور على ضرورة أن تحافظ اللغة الهندية على تيارَي السنسكريتية والفارسية في الهند وعلى "الجرأة في تبني جميع الكلمات التي أصبحت مقبولة بعد استخدامها المكثف. ولعل دعوة طاغور هذه، لتوطين ما تدعى كلمات أجنبية، تدعم رأي من يرى في التعدد اللغوي إثراءً. وترمز السنسكريتية إلى التقاليد الهندوسية فيما تشير الفارسية إلى التقاليد الإسلامية في الهند. فمشروع بناء الهند العلمانية الحرة يسعى إلى مزج التقاليد الهندوسية والإسلامية في الهند لتشكل "وحدة في التنوع". لكن التطورات السياسية اتخذت منحى آخر كما هو معلوم بانقسام الهند، ما أثّر أيضا على التطور اللغوي. فقد تأثرت مناطق شمال الهند التي تشهد تعددا لغويا وتنوعا ثقافيا كبيرا بالتطورات السياسية والدينية، إذ حاول القائمون على التخطيط اللغوي من باكستانيين وهنود عبر تحديد خط الكتابة الرسمي للُغتي الأوردو والهندية ترجيح الوجهة الهندوسية أو الإسلامية، قبل بروز الظاهرة الأصولية المعاصرة.
ينبغي التأكيد على أن الفضاءات، التي تشهد تعددا لغويا وتنوعا ثقافيا، لم تخلُ دوماً من التوترات، لكنها شكلت نماذج بديلة لحالَتي المجتمعات الموازية أو المنصهرة التي نشهدها في أوروبا حاليا. ونستحضر هنا العبارة الجميلة التي أطلقها هوغو هوفمانستال Hugo von Hofmannsthal حول عامية أهل فيينا، إذ وصفها بأنها "كانت بدون شك الأكثر امتزاجا بين جميع اللغات الألمانية الأخرى لأنها كانت لغة القوم الأكثر ثراءً وامتزاجا ثقافيا". هذا الثراء والامتزاج الثقافي كانا موجودين في عدة مناطق من العالم وهما بصدد النشوء من جديد في أوروبا حاليا.
دون أي توجيه من أحد، يظل هدف المجتمعات متعددة الثقافات هو تحقيق عملية تفاعل دائمة تقود بشكل مستمر إلى ظهور نماذج جديدة من الثقافات المختلطة التي نعيش فيها كسكان مدن ودول متعددة اللغات ومتنوعة الثقافات.
ويصرف الحديث عن دور اللغة الإنجليزية في الحد من تطور أوروبا إلى كيان متعدد اللغات، فإن المشكلة لا تكمن في الحضور القوي للغة الإنجليزية وإنما في تحجيم التنوع الهائل في أوروبا إلى ثنائية لغوية ضيقة. ورغم ذلك تبقى الإنجليزية غير كافية لفهم مناطق واسعة من العالم في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كما أنها لا تكفي لاستيعاب التنوع الأوروبي الكبير. وهذه الحقيقة واضحة بالنسبة إلي ككاتب أنغلوساكسوني.
ينبغي انتهاج سياسة تعلمية خلاقة تساهِم في التعددية اللغوية وتُدعَم فيها اللغات الأوروبية المتعددة بشكل متبادل. ومن المهم بالنسبة لألمانيا دعم اللغات المجاورة والاهتمام بتعليم الألمانية في الدول المحاذية لها. بالتزامن مع ذلك ينبغي تحفيز المهاجرين بشكل أكبر على تعلم الألمانية. لهذا يجب زيادة الاستثمارات في السياسة اللغوية الألمانية داخل وخارج ألمانيا. ويجب اعتبار تعلم اللغات الأجنبية عملا يساهم في توسيع الآفاق الشخصية لكل فرد. والملاحظ أن المدن الأوروبية الكبرى تشهد تدريجيا نشوء عوالم متعددة اللغات شبيهة بتلك الموجودة في المدن الهندية الكبيرة. وعلى الجميع التخلي عن ايديولوجية الإتقان التام للغة؛ فالتواصل في العوالم متعددة اللغات، كما سبق الذكر، يسعى ليكون كافيا فقط. وكل ما عدا ذلك يرتبط باهتمامات كل فرد.
تضع ظاهرة العولمة وموجات الهجرة ألمانيا، كبقية الدول الأوروبية، أمام محك التنوع الثقافي. وأوروبا تتطور تدريجيا إلى كيان متعدد اللغات ومتنوع الثقافات. كما أن الهيمنة التاريخية للخطاب الذي يفضل الوحدة اللغوية في ألمانيا يفرض عليها الآن القيام بجهود ضخمة ومتميزة ليتقبل الرأي العام هذا التحول، ويخوض تحدي الانتقال من نموذج ترسَّخَ تاريخيا وتميَّزَ بوحدة اللغة والثقافة القومية والدولة إلى مرحلة جديدة تتسم بتنافس نماذج عديدة من التعددية والتنوع. بكلمة أخرى: يتعلق الأمر بحدوثِ تطبيع. وإذا ما راهنت أوروبا على إمكانيات التعدد اللغوي، فيمكن أن تستفيد جميع اللغات الأوروبية. واللغة الألمانية ستلعب دورا مميزا بين مجموعة اللغات الأوروبية التي ستكون متاحة للخارج، بالنظر إلى "القيمة الرمزية" العالية التي تمتلكها اللغة الألمانية بتقاليدها العريقة في مجال العلوم الانسانية. هذا الرأي ينطبق إلى حد كبير مع ما يقصده فيلهيلم فون هومبولد بكلامه الذي يبدو معاصرا جدا حينما كتب: " كلما اتسع استخدام لغات مختلفة في وقت واحد، وكلما كانت الجماعة نشيطة وسط جماعات أخرى، كلما كانت مكاسب اللغات أكبر، وتأثيرها أقوى على التفكير والإبداع اللغوي".
أنيل بهاتي: أستاذ الأدب الألماني بجامعة نهرو في نيو دلهي ورئيس جمعية غوتة الهندية.
أنيل بهاتي
أستاذ الأدب الألماني بجامعة نهرو في نيو دلهي ورئيس جمعية غوته الهندية.
ترجمة: عادل القدسي
معهد غوته ومجلة فكر وفن
يونيو 2009