ما اللغة؟
قراءة في فلسفة فتغنشتاين
الكسندرا ديمينكوفا، من مشروع معهد غوته: سلطة اللغة رغم أن أرسطو فكر في اللغة، غير أن اللغة كموضوع فلسفي لم يتم اكتشافها إلا في القرن العشرين. ولعب الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين Ludwig Wittgenstein دورا كبيرا في ذلك. ريتشارد دافيد برشت يتحدث هنا عن خلفيات هذا الفكر الغني والمؤثر.
في خريف عام ألف وتسعمئة وأربعة عشر كان مهندس طيران شاب يجلس في مركب حراسة على نهر فايكسل Weichsel. وكانت الامبراطورية النمساوية المجرية قد دخلت، منذ شهر تموز/ يوليو في حرب، ستعرف فيما بعد في كتب التاريخ بالحرب العالمية الأولى. لكن هذا المهندس، البالغ من العمر خمسة وعشرين عاما والمتواجد الآن على الجبهة الشرقية للنمسا، لم يكن مهتما بالحرب حتى وإن كان قد تطوع للالتحاق بالجيش. لقد اكتشف مقالا في مجلة أثار انتباهه أكثر من أي شيء حوله. ويتحدث المقال عن شرح لحادثة سير أمام محكمة في باريس. وكان الحادثة يعود إلى السنة التي قبلها، وحوادث السير المعقدة تبقى مثيرة في المدن الأوروبية الكبرى. ومن أجل إعادة بناء الأحداث من جديد قامت المحكمة بتصوير الحادث عبر استعمال مجسمات معينة: متاجر بيع الألعاب، شاحنة ومجسمات بشر ومجسم لعربة أطفال تم تحديد مكانها وتحريكها. دهش المهندس لذلك. إذ كيف يمكن لموديل أن يصور الواقع بالنيابة؟ في البداية لأن أشكال الموديل تتوافق إلى أبعد الحدود مع المواضيع الواقعية وثانيا لأن العلاقات بين هذه الأشكال تتفق مع تلك العلاقات القائمة بين المواضيع الواقعية. لكن إذا ما طلب المرء تصوير الواقع عبر أشكال ومجسمات أفلا يمكن تحقيق ذلك بنفس الطريقة بمجسمات الفكر، نعني بالطبع الكلمات؟ "ينتج العالم تجريبيا في الجملة"، هذا ما كتبه المهندس في دفتر يومياته. وتماما كما وضع ديكارت الفلسفة في اتجاه جديد، مع بداية حرب الثلاثين سنة، غير مهندس الطائرات اتجاهها (الفلسفة) مع بداية الحرب العالمية الأولى. كما وضع منطق اللغة في قلب العملية الفكرية، في سياق راديكالي لم يسبقه إليه أحد. هذا التحول جعل منه أحد فلاسفة القرن العشرين الأكثر تأثيرا؛ إته الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين.
مهندس وعالم رياضيات
ولد فتغنشتاين عام ألف وثمانمئة وتسعة وثمانين في فيينا؛ في مدينة سيغموند فرويد وإرنست ماخ وغوستاف مالر وروبرت موزيل. وكان أصغر تسعة أبناء لرجل الصناعة الكبير كارل فتغنشتاين، أحد كبار صناعيي عصره. أما أمه فكانت عازفة بيانو. هذا الجمع بين نبالة المال التجارية والحساسية الموسيقية داخل أسرة فتغنشتاين يذكر برواية توماس مان "آل بودنبروك". ومقارنة بمصير الأبناء التسعة لفتغنشتاين فإن الأبناء توماس، كريستيان وتوني كانوا عاديين تقريبا. أحد الأبناء أصبح عازف بيانو شهير، لكن ثلاثة من الأبناء أقدموا على الانتحار لاحقا. وحتى لودفيع فتغنشتاين كان ملفتا للنظر بغرابة أطواره واهتزاز شخصيته وكآبته الشديدة أحيانا، وتكبره ولجاجته أحيانا أخرى. وككل أبناء فتغنشتاين تلقى تعليمه الأولي في بيت الأسرة ولم يرتد المدرسة إلا في سن الرابعة عشرة. وبخلاف فلاسفة آخرين، لم يكن تلميذا نجيبا. لكن حصوله على الثانوية، بعد لأي، سمح له بدراسة الهندسة. كان فتغنشتاين مأخوذا بالتقنية والآلات، وهو أمر لم يكن غريبا في وقت أحدث فيه المهندسون ثورة في الحياة من خلال السيارات والطائرات والمصاعد الكهربائية وناطحات السحاب والهاتف وكذلك فتح أبواب الحداثة.
التحق فتغنشتاين سنة ألف وتسعمئة وستة بجامعة برلين التقنية الذائعة الصيت وانتقل، بعد ذلك بسنتين، إلى مانشستر حيث عمل في مجال صناعة محركات ومراوح الطائرات؛ لكنه كان معجبا جدا بالمنطق والرياضيات. زار عالم الرياضيات غوتلوب فريغه Gottlob Frege في يينا، والذي كان يحاول في عزلة نسبية عن العالم فك لغز قوانين المنطق العامة، وليس فقط تلك المتعلقة بالرياضيات. وأدرك فريغه موهبة فتغنشتاين فنصحه بمتابعة تحصيله العلمي في جامعة كامبريدج على يد أبرز اسمين لامعين في مجال الفلسفة في زمانهما: أي نورث وايتهيد وبرتراند راسل. لكن برتراند راسل اعتقد في البداية أن هذا المهندس الشاب مجرد ثرثار:"بعد المحاضرة جاءني ألماني متهور ليتخاصم معي.. .. في الواقع النقاش معه ليس إلا مضيعة للوقت". إلا أن موقف راسل سيتغير، فبعد أسابيع قليلة اعترف بأن فتغنشتاين عبقري، معتبرا أفكاره (أي فتغنشتاين) أهم من أفكاره هو. ليس هذا فحسب، بل إنه كلف فتغنشتاين بالبحث في نقد وتطوير كتابه "مبادئ الرياضيات" آملا في أن يتعلم الكثير من هذا النمساوي الذي يصغره بسبعة عشرة عاما. وفي حماسة شديدة، أقبل فتغنشتاين على العمل ولم ينقطع عنه إلا للقيام برحلات خارجية وخصوصا إلى النرويج. وهناك كان قد بنى بيتا في فيورد Fjord ليقضي فيه بعض الأوقات مع صديق مثلي (الجنس) من كامبريدج. ولم يكن فتغنشتاين يريد الاكتفاء بتطوير منطق راسل، بل سعى إلى أكثرَ من ذلك. وقد صبّ جهودَه كلها في كتابه "الأبحاث المنطقية والفلسفية". وواصل دراساته خلال الحرب بشكل أعطى لأبحاثه العلمية بعدا أكبر إذ يقول: "أجل، أبحاثي تجاوزت دراسة أسس المنطق إلى دراسة جوهر العالم". وهكذا اكتمل الكتاب، قبل نهاية الحرب، في صيف 1918، ونشر لأول مرة عام ألف وتسعمئة وواحد وعشرين في إحدى المجلات وبعد ذلك بعام ظهر في طبعة مزدوجة اللغة وتحت العنوان المعروف:
Tractatus Logico-Philosophicus
وهذا الكتاب الذي بات يعرف بـ "التراكتاتوس" لا يبلغ عدد صفحاته المائة. وهي مرقمة ومقسمة إلى جمل وفقرات بنظام رقمي ملفت للنظر، تجعل جمل فتغنشتاين أشبه بجمل الإنجيل. وجاء رد الفعل على الكتاب في كامبريدج وفي العالم الفلسفي لأوروبا الغربية مفعما بالحماس.
اللغة في بؤرة الاهتمام
ما الذي جعل من هذا التلميذ السيء نجما في سماء الفلسفة؟ وأين تكمن "عبقريته" التي تم الاحتفاء بها؟ لقد ظهرت تلك العبقرية، إذا ما استحضرنا قصة حادث السير الباريسي، في الفكرة الثورية لفتغنشتاين، التي وضعت اللغة في بؤرة الاهتمام الفلسفي. قد يبدو الأمر مدهشا لأن اللغة كانت حتى ذلك الوقت ربيبة الفلسفة. بالطبع كان واضحا لكل الفلاسفة أنهم يعبرون عن أفكارهم في كلمات وجمل، لكنهم لم يدرسوا، إلا فيما ندر، تبعية أفكارهم واستنتاجاتهم لأدوات اللغة. بل حتى كانط، الذي احتلت قواعد اشتغال تجربتنا وفكرنا، بؤرة اهتمامه الفلسفي، لم يُعر مقتضيات وضرورات اللغة أي اهتمام. وهو نفس التقصير، الذي وجده فتغنشتاين، لدى وايتهيد وراسل. كيف بوسع المرء أن يكشف عن المنطق في التجربة والمعرفة الإنسانيتين إذا ما أهمل المنطق، الذي يتم فيه التعبير عن هذا المنطق؟ "كل الفلسفة" يرى فتغنشتاين هي "نقد للغة".
حتى الآن يبدو الأمر مشروعا. لكن كيف يتوجب أن يكون هذا التصحيح أو هذا المشروع المضاد؟ فكر فتغنشتاين بحادث السير الذي صورته المجسمات والعلاقات القائمة بينها. يحدث الأمر نفسه داخل الجملة: فكلماتها وبنيتها تعيد إنتاج الواقع. فالأسماء تعبر عن أشياء العالم. وهي تمتلك معانيها عن طريق علاقاتها داخل الجملة. وإذا ما اتفقت الأسماء وبنى الجملة مع الأشياء ونظامها في الواقع، حينها نقول بأن الجملة صحيحة. هذا هو المبدأ، وحتى يتحقق هذا التصوير الحقيقي للواقع يتوجب التخلص من كل الأخطاء وهو ما يعني في حالة اللغة ضرورة أقلمتها مع استعمالها اليومي، عن طريق حذف كل الجمل العبثية Sinnlose والسخيفة unsinnigen . فالجمل العبثية هي تلك التي لا تحتاج إلى واقع لمعرفة صحتها من خطئها مثل: "الأخضر أخضر". والجمل السخيفة هي الجمل التي لا يمكن البتة تبيان صحتها من خطئها لأنها لا تصور شيئا في الواقع، مثل: "الجملة التي أقولها ليست بالصحيحة".
كان فتغنشتاين صارما في حكمه إلى حد أنه حذف كل المقولات الأخلاقية من اللغة؛ لأن كلمات مثل "جيد" و"سيء" لا تصور أشياء واقعية. ولذلك السبب فإن الأخلاق لا يمكن أن تعبر عن نفسها إلا في لغة الإشارات، في حركة أو نظرة. ذلك أنّ "ما يمكن قوله، يقال بشكل واضح، وأما الأشياء التي لا يمكن للمرء الحديث عنها، فيتوجب عليه أن يصمت عنها".
كان حلم فتغنشتاين تحقيق لغة دقيقة تسمح بالقبض على الواقع بكل مجالاته ووصفه بموضوعية. لقد ألهمت فكرته في البداية "مؤسسة إرنست ماخ"؛ وهي مجموعة من الابستمولوجيين والفلاسفة في فيينا الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "حلقة فيينا". وحاول هؤلاء تطوير مشروع فتغنشتاين إلا أنّ محاولتهم باءت بالفشل الذريع بالرغم من أنهم اشتغلوا عليه (المشروع) أربعة عشر عاما. ومن حق المرء أن يتنفس الصعداء ويقول: "لحس الحظ!" (أنهم فشلوا). إذ ماذا كان بوسع المشروع تحقيقه؟ وأي لغة توتاليتارية كنا سنحصل عليها وأي مجتمع توتاليتاري هو الذي يفرض على مواطنيه لغة دقيقة؟ وكم شيئا كنا سنفقد إذا ما لقن المعلمون تلاميذهم التخلي عن كتابة جمل ملتبسة وعن استعمال السخرية والاستعارات؟ وحتى إذا كان مشروع فتغنشتاين يهدف إلى إصلاح الفلسفة فقط، فكم كانت هذه الفلسفة ستكون مملة لو قدر لهذا المشروع النجاح.
لا يعود فشل تحقيق لغة دقيقة إلى العمل السيء لمجموعة فيينا. إن السبب أكثر عمقا. فلغة دقيقة هي في الواقع لا إنسانية: سوء فهم عميق للتطور الإنساني وللوظيفة السياسية للغة. لأن المحرك في تطور اللغة لم يكن البتة الحنين إلى الحقيقة والمعرفة الذاتية. بل إن الدافع كان في أغلب الأحيان يعود إلى الحاجات الاجتماعية للتفاهم. لكن فتغنشتاين اختزل اللغة في وسيلة للمعرفة. لقد نظر إليها كتقني ومهندس يقيم صلاحيتها انطلاقا من المنطق والمنطق وحده. وكان يشترك في ذلك مع وايتهيد وراسل اللذين نظرا إلى المنطق كأساس كوني للتفكير وهو أمر غير صحيح. إن المنطق وسيلة للتفكير، مثل وسائل أخرى، وهو عنصر من عناصر اللغة. لكن الحكم على كل شيء انطلاقا من المنطق، من شأنه أن يقود إلى العبث في الحياة العملية.
تفسير العالم عبر المنطق
ولأجل معرفة كيف أن أناسا، بهذا الذكاء الكبير، كراسل وفتغنشتاين أرادوا تفسير العالم استنادا إلى قوانين المنطق فقط، يتوجب على المرء أن يتصور الجو العام الذي كان يسود كامبريدج في ذلك الزمان. لقد كان جوا باثولوجيا بقوة؛ فالروح الجديدة للتقنيين والمهندسين وجدت طريقها إلى الفلسفة، التي انتعشت بعد هذه الرجة القوية، وشهدت ازدهارا كبيرا بعد أن كانت قد تكلست لعقود قبل ذلك. لم يكن راسل وفتغنشتاين يعرفان بالطبع، فيما إذا كانا سيقودان التفكير الفلسفي إلى ذروته أم أنهما سيعمدان، في نهاية المطاف، إلى إعلان موت الفلسفة. لكنهما كانا مؤمنين جدا بأفكارهما إلى حد التفكير في إمكانية التخلي عن عناصر حياتية مهمة. كما كان لهما موقف مرعب في تكبره من العلوم الإنسانية الأخرى. لقد قرأ فتغنشتاين فرويد، ووجد بأن التحليل النفسي، شأنه شأن علم النفس، لا فائدة ترجى منه؛ لأنه حكم عليه من منظور أهميته للمنطق.
أما أبحاث الدماغ فإنه لم يكن يعرفها وهو ما لا يمكن أن يحاسب المرء عليه في عصره فكايال Cajal أو شيرنغتون Sherrington لم يكونا معروفين لدى أغلبية مفكري ذلك الزمان.
كان بالإمكان تتبع التكوين الفلسفي لفتغنشتاين بخلاف راسل. ولهذا لم يكن فتغنشتاين ليفكر كثيرا حول ما إذا كان بوسع الإنسان أن يدرك االواقع بشكل موضوعي ومتناسق؛ وهو السؤال الذي حرك الفلسفة منذ كانط. إنه لم يتساءل أيضا عن سيكولوجيا الإدراك، التي شغلت كثيرا من معاصريه، ولم يهتم في كتابه "التراكتاتوس" بالسياق الاجتماعي للغة والكلام. هذا ما يوضح بأن الإنسان المثالي بالنسبة لفتغنشتاين هو الذي يستعمل اللغة مثل جوزيف البالغ من العمر أحد عشر عاما والذي تحدث عنه أوليفر زاكس في كتابه "الأصوات الخرساء" ( Stumme Stimmen) قائلا: " كان جوزيف يرى ويفرق ويصنف ويستعمل، ولم تكن له صعوبات مع التأمل القائم على الإدراك الحسي، التصنيف والتعميم، لكنه لم يكن يستطيع، كما يبدو تجاوز ذلك... كان يعطي الانطباع كما لو أنه يأخذ كل شيء بشكل حرفي؛ كما لو أنه ليس قادرا على اللعب بالصور والفرضيات والإمكانيات أو على الدخول إلى عالم الخيال والاستعارة. ومثل حيوان أو طفل بدا مسجونا في الحاضر وفي التجربة المباشرة والحسية لكنه يرى ذلك رأي العين وباستمرار بفضل وعي لا يملكه الطفل الصغير".
المثير في قصة جوزيف أنه لم يكن تلميذا ثم شحنه بلغة فتغنشتاين الدقيقية؛ ولكنه طفل أصم ترعرع خلال السنوات العشر الأولى من حياته دون لغة الإشارات. ولا تعرف تجربة جوزيف مع اللغة فوارق يمكن أن تنتج عن الاستعمال. لأنه لم يتعلم استعمال اللغة، لا كلغة مسموعة ولا كلغة إشارات. لكنه يتوفر على فهم للكلمات وعلى إحساس مباشر بالنحو. وفهمه للغة هو في المقام الأولي منطقي، لكنه ليس اجتماعيا. وتفسير ذلك واضح. فمنذ ظهور نظرية اللساني الأمريكي نعوم تشومسكي، عام الف وتسعمئة وستين، أصبح من الممكن الاعتقاد بأن الإنسان يولد بحس للغة والنحو. والأطفال الصغار يتعلمون اللغة بشكل شبه تلقائي. وتنمو اللغة عندهم شأنها شأن أعضاء الجسد. لكن أحد الشروط الأساسية لتحقيق ذلك هو ضرورة تقليد الأطفال للغة التي يسمعونها. يستعمل البشر، مثل حيوان الشامبانزي، ستة وثلاثين صوتا من الأصوات المختلفة، لكن بإمكانهم أن يصنعوا منها جملا معقدة. أما لدى الشامبانزي فيبدو أن كل صوت يملك معنى معينا. وخلال التطور الإنساني فإن أصواتا مثل :"با Ba " أو "دو Do " فقدت شيئا فشيئا معناها وتحولت إلى مقاطع لفظية. وهذا يعني أن البشر يربطون أصواتا مفرغة من المعنى بكلمات حمالة معان.
لكن لماذا تحققت هذه الصيرورة لدى الإنسان، و بخلاف القردة، سؤال تضاربت بشأنه الأجوبة. أحد الأسباب لربما هو أن الحنجرة ظلت تنزل بالتدريج، مع تطور النوع البشري ما وسعها من قوة، إمكانيات للأصوات المسموعة. لكن حتى الآن لا نملك تفسيرا جيدا لذلك. أما المعروف خلافا لذلك فهي منطقة المخ التي تقف خلف قدرتنا النحوية. إنه النصف الأيسر من المخ حيث التركيبات الترابطية المتخصصة التي تقوم بالتحويل الضروري للإشارات البصرية والسمعية إلى تكوينات لفظية أو معان. إنها تقع فوق أدننا اليسرى، وحتى عمر الثالثة يكون الأطفال لغتهم بشكل كبير في هذه المنطقة. وإذا ما كان تشومسيكي على حق، في حديثه عن الحس اللغوي والنحوي الذي يولد معان، فإن هذا الحس موجود في النصف الأيسر من المخ. ويتم تعلم لغات أخرى على ما يبدو اعتمادا على منطقة مجاورة للمخ. إن منطقة النصف الأيسر من المخ (بروكا ـ أريال Broca-Areal) هي التي تسمح بتكون الأصوات وتحليلها والنطق بها وتكوين كلمات مجردة؛ في حين أن فهم وتقليد اللغة يقع في منطقة أخرى، وهو ما يصطلح عليه (فرنيك ـ أريال Wernicke-Areal). هذا التقسيم الثنائي الذي اكتشف في القرن التاسع عشر مازال ساريا إلى يومنا هذا، لكن الصورة التفصيلية لمعالجة اللغة أكثر تعقيدا كما أن العلماء يضمون مناطق أخرى في المخ إلى المناطق المسؤولة عن إنتاج اللغة. ويتم تعلم اللغة الأولى في البداية بشكل لاواع ثم تُقلَّد اجتماعيا. ويكمن دورها في أن تفهم وتُفهم. ويحدد النحو والسياق ما إذا كان شيء ما مفهوما أم غير مفهوم. فالجملة "لا أرى سوى السواد" يمكن أن تعني أنني أقف أمام صورة سوداء وأني أصف بكلامي لونها. لكن جملتي هذه قد تعني أني متشائم بالنظر إلى قضية ما. أما بالنسبة للشاب فتغنشتاين فقد كانت مثل هذه الجمل أمرا مرعبا، لكن اللغة تكتظ هكذا بالمعاني المتعددة. أما الحقيقة البديهة التي تحكم على مشروع كل لغة دقيقة بالفشل فهي تلك التي تؤكد بأن معنى جملة ما يرتبط صميميا باستعمال الكلمات داخلها.
إطلالة على حياته
رفض فتغنشتاين في البداية الإصغاء إلى الانتقادات التي وجهت إليه. إذ رأى في كتابه "التراكتاتوس" فصل المقال في حقله وأنه قد أدى واجبه بتأليفه على أكمل وجه. ولهذا لم يكن مهما بالنسبة له الاستمرار في خدمة الفلسفة. كما قام بتوزيع أملاكه الكثيرة على إخوته وتبرع بمال كثير للشعراء الشباب والرسامين والمهندسين. أما المرحلة التي أعقبت ذلك فكانت رحلة إلى عالم التربية والتعليم. فهذا الفيلسوف الذي تم الاحتفاء بكتابه، على الأقل في بريطانيا بشكل كبير، التحق بمدرسة المعلمين في فيينا ودخل سلك التعليم لسنوات دون أن يعرف أحدهم عنه شيئا. وجاءت نتائج عمله كارثية فقد وجدت أغلبية الأطفال القرويين فيه شخصا مزعجا. وهكذا ترك سلك التعليم وغادره نهائيا، عام ألف وتسعمئة وستة وعشرين، غاضبا ليعمل بستانيا لبضعة أشهر في دير للرهبان. إلا أنه وجد، بعد ذلك، مشروعا جديدا عمل عليه بشغف كبير. فرفقة مهندس آخر صمم وبنى لأخته مارغريث في فيينا فيلا من الطراز التكعيبي، واهتم خصوصا بهندسة الديكور الداخلية. وستتحول الفيلا إلى مركز لفيينا الثقافية وحتى "حلقة فيينا " كانت تجتمع فيها. وفي عام ألف وتسعمئة وتسعة وعشرين عاد فتغنشتاين، وبعد خمسة عشرة سنة من الغياب، إلى كامبريدج، حيث حصل على شهادة الدكتوراه عن كتابه "التراكتاتوس"؛ لكن أبحاثه اللاحقة ستتناقض كليا مع ما جاء في هذا الكتاب. لقد كتب وعمل مثل مهووس لكنه لم يجد في نتائجه شيئا يستحق النشر. وكمحاضر بسيط عاش من مال قليل ومن المنح الجامعية ولم يحصل على لقب الأستاذية (بروفيسور) إلا في سن الخمسين. وطيلة هذا الوقت "كان زاهدا، متقشفا، قديسا وزعيما"، كما قال أحد طلبته عنه. شخصية روائية، سقطت من الغنى إلى الفقر وتحولت إلى أسطورة خلال حياتها.
ولأن نظريته عن اللغة كصورة عن الواقع كانت خاطئة فقد تراجع صيت فتغنشتاين أيضا، أما البقية فقد تلقاها من زميل له في كامبريدج، عالم الاقتصاد الايطالي بييرو سافرا Piero Saffra. فلما كان فتغنشتاين يؤكد بأن اللغة تعكس البنية المنطقية للواقع، كان سافرا يتساءل: "ما هو الشكل المنطقي لذلك؟".
وهكذا تخلى فتغنشتاين عن نظريته التي تقول بأن اللغة انعكاس للواقع. كما أهدى بحثه المتأخر :"الأبحاث الفلسفية"، الذي بدأ كتابته عام ألف وتسعمئة وستة وثلاثين، 1936، أهداه إلى سافرا. ولم يتخل فتغنشتاين في هذا الكتاب، الذي نشر بعد سنتين من وفاته، أي في سنة 1953، عن نظرية الانعكاس فحسب، بل أيضا عن فكرة أن اللغة لا يمكن فهمها إلا عبر وسائل المنطق. أما الجملة الأكثر إبداعية في الكتاب والتي ستحظى بإعجاب الشاعرة إنغبورغ باخمان Ingeborg Bachmann فهي تلك التي تقول:" يمكننا رؤية لغتنا كمدينة قديمة: كشريط من الأزقة والساحات من البنايات القديمة والجديدة والتي أضيفت إليها غرف أخرى في كل زمن، وكل ذلك محاط بمجموعة من القرى بشوارع مستقيمة وبيوت موحدة الشكل". لقد أدرك فتغنشتاين أن "معنى كلمة" يكمن في "استعمالها داخل اللغة" وبدلا من الربط المنطقي بين المعاني وبنية الجمل يتوجب على الفلاسفة أن يجهدوا لتقديم شرح أفضل لقواعد استعمال اللغة ولمختلف "اللعب اللغوية". وفي هذا السياق اكتشف أهمية السيكولوجيا التي بخسها أهميتها سابقا. ولأن اللعب اللغوية لا توجد في الفراغ، بل داخل الجماعات البشرية، يتوجب تحليلها ليس منطقيا ولكن وفق منهج سيكولوجي ـ منطقي. ويحتاج العالم إلى السيكولوجيين ليس للقيام بتجارب روحية ولكن لتفسير اللعب اللغوية في سياقها الاجتماعي. ذلك أن "السبب الرئيس لسوء الفهم" يكمن في عدم اهتمامنا بكيفية استعمال كلماتنا. وفي لغة أجمل: "ما هو هدف الفلسفة؟ أن نوضح للذبابة طريق الخروج من الكأس".
من اللعبة اللغوية إلى الفعل اللغوي
وكما كانت الحال عليه في الحرب العالمية الأولى، تقدم فتغنشتاين مع انطلاق الحرب العالمية الثانية للتطوع في الجيش أيضا؛ لكن هذه المرة إلى جانب بريطانيا. وكممرض، في إحدى المستشفيات، استفاذ من تجاربه ومعارفه في حقل صناعة الطائرات ليطور آلات مخبرية لقياس ضغط الدم و التنفس والأحجام. درس بعد ذلك أربع سنوات أخرى في كامبريدج قبل أن يطلب الإحالة على المعاش المبكر، ليقضي آخر سنواته في ايرلندا وأكسفورد إلى أن فارق الحياة سنة 1951 لإصابته بمرض السرطان. أما آخر كلماته التي وصلتنا فكانت تحية إلى أصدقائه: "قولوا لهم إني عشت حياة رائعة".
وإذا ما كان كتاب "التراكتاتوس" عقبة فإن "الأبحاث الفلسفية" أثرت بشكل كبير في الفلسفة وفي علوم اللسانيات. كما ساهمت في ظهور تخصص جديد اصطلح عليه بالفلسفة التحليلية، التي اعتبرت أهم مدرسة فلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين. فالمشاكل الفلسفية، وانطلاقا مما قاله فتغنشتاين، يتوجب فهمها وتحليلها دائما كمشاكل للتعبير اللغوي. ذلك أن طريقة تعرف الناس على العالم تتأثر دائما بلغتهم. ولا توجد تجارب حسية "خالصة" لم تتأثر بالتفكير "اللغوي". كما أنه لا يوجد معنى واضح، فاللغة هي دائما حمالة أوجه. وفي هذا السياق، الذي يعرف تشابكا بين الإدراك الحسي واللغة، شقت الفلسفة التحليلية طريقها. وقد تأثرت اللسانيات بنظرية فتغنشتاين عن "الألعاب اللغوية" واهتمت بمعنى الكلام في السياق المرتبط به. وقد قام الانجليزي جون لانجشوأوستين John Langshaw Austin والأمريكي جون روجرز سيرل John Rogers Searle بتطوير نظرية للأفعال اللغوية في الخمسينات والستينات انطلاقا من نظرية فتغنشتاين. لأن من يقول شيئا، كما أدرك ذلك اوستين، فإنه "يقوم بفعل شيء". والسؤال الحاسم في فهم جملة ما، وهو ليس ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة، ولكن ما إذا كان فهم مقصدها ممكن أم غير ممكن. وليتم الانقال من نظرية لحقيقة اللغة إلى نظرية للتواصل الاجتماعي.
إن اللغة البشرية هي وسيلة تواصل رائعة. لكن مع فتغنشتاين توجب على الفلسفة أن تدرك بأن الطريق إلى الحقيقة ليس مقصورا على اللغة. فقط حين يدرك الإنسان بأن وسائل تنظيم العقل: التفكير واللغة لا تعوض الواقع "لذاته" ولكنها تمثل موديلات لتفسير العالم انطلاقا من قواعد لعبنا الخاصة، حينها فقط سنقترب من الإنسان. ومن يدرك أشياء مختلفة فهو يعيش أيضا بشكل مختلف. ومن يعيش بشكل مختلف فإنه يفكر بشكل مختلف. ومن يفكر بشكل مختلف فهو يستعمل أيضا لغة أخرى. وما يحقق لدى الأفراد المختلفين، هذا الاختلاف في التفكير والتعبير، هو ما يميز الإنسان عن بقية الحيوانات. وحدود جهاز إدراكنا الحسي وحدود لغتنا هي حدود عالمنا. لأن اختيار كلمات لبوسا لفكرنا يتم دائما من خزانة الكلمات التي يملكها النوع البشري. إن اللغة وجدت لتكوين الواقع والعالم وفقا لحاجات النوع البشري. إن الأفعى لا تحتاج إلى لغة لأن إدراكاتها الحسية تكفيها للحياة. وإذا ما كانت هناك لغة للأفاعي فإنها (اللغة) لن تعني شيئا للانسان كما أن لغة الإنسان لا تعني للأفعى شيئا. و "إذا ما كان بمقدور الأسد أن يتكلم فلن نستطيع فهمه". هذا ما قاله فتغنشتاين بذكاء في أواخر حياته.
ريشارد دافيد بريشت
فيلسوف وناقد أدبي، يعيش في كولونيا واللوكسمبورغ.
ترجمة رشيد بوطيب
معهد غوته ومجلة فكر وفن
يونيو 2009