تمهيد:
يعد القياس من أهم موضوعات النحو العربي التي ظهر فيها المنطق اليوناني بشكل جلي، وذلك في اتخاذه المحاكمات العقلية أساساً له. وقد سهل القياس عملية ضبط اللغة, وتوليدها دون الحاجة إلى الرجوع في كل إلى السماع، بل تم استخلاص نموذج على أساسه تتولد جمل عديدة، وقد حظي هذا الموضوع باهتمام القدماء والمحدثين، إذا يقول عنه الكسائي: "إنما النحو قياس يتبع"( ), ويقول ابن الأنباري في لمعه: "إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس"( ) ثم يقول بعد ذلك: "فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو"( )، ويقول أيضاً "وإذا بطل أن يكون القياس رواية ونقلاً وجب أن يكون قياساً وعقلاً"( )، ويقول ابن جني: "مسألة واحدة في القياس أمثل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس"، ويحكي عنه أستاذه الفارسي قوله: "أخطئ في خمسين مسألة في اللغة ولا أخطئ في واحدة من القياس".
وقد أقر علماء النحو المحدثين بذلك إذ يؤكد سعيد الأفغاني أن النحو طريقة القياس فهو يقول: "إذ لست أعقل النحو إلا استقراء ثم قياساً"( )، وكذلك يؤكد تمام حسان بأن النحو القياس( ). بل قرر بعضهم أنه أنعقد عليه الإجماع، وأنه بمنزلة الأدلة القاطعة( ).
تعريف القياس:
القياس في أبسط معانيه عملية فكرية يقوم بها الإنسان الذي ينتمي إلى جماعة لغوية، ويجري على طريقتها في الاستعمال المطرد.
والقياس في اللغة: التقدير، وفي الاصطلاح، تقدير الفرع بحكم الأصل وقيل هو حمل فرع على اصل بعلة تقتضي إجراء حكم الأصل على الفرع، وقيل هو ربط الأصل بالفرع بجامع، وقيل: هو اعتبار الشيء بالشيء جامع.
والقياس في الأصل دخل إلى الفكر العربي عن طريق الفكر اليوناني، إذ يعد قياس المنطق إحدى الوسائل التي تنظم التفكير بطريقة صورية( )، وقد عرفه أرسطو في كتابه (Topics) بأنه الاستدلال الذي إذا سلمنا فيه ببعض الأشياء. لزم عنها بالضرورة شيء آخر، ثم كرر هذا التعريف في كتاب آخر غير تلك المقدمات( ).
وهو في النحو: حمل غير المنقول على المنقول في حكم لعلة جامعة وقد أورد ابن الأنباري على ذلك مثالاً يقول فيه: "مثل أن تركب قياساً في الدلالة على رفع ما لم يسم فاعله فتقول: اسم أسند الفعل إليه مقدماً عليه متوجب أن يكون مرفوعاً قياسياً على الفاعل، فالفاعل أصل مقيس عليه، ونائبه: فرع مقيس، والحكم الرفع، والعلة الجامعة الإسناد"( ).
يُلجأ إلى القياس إذا كان المنقول عن العرب كثيراً بحيث يطمأن إلى صحته، عندها يكون المنقول المطرد بمثابة القاعدة، ثم يقاس عليه غيره فهو كما يقول ابن الأنباري: "حمل فرع على أصل بعلة وإجراء الأصل على الفرع"( ).
وقد وجد القياس على هذا النحو في اللغة والمنطق والنحو إذ كان الجو الفكري العام متأثر بهذا الاتجاه العقلي في القرن الثاني الهجري، فإلى جانب القياس النحوي كانت هناك مدرسة أخرى في الفقه تتخذ القياس أساساً وهي مدرسة الرأي"( ) التي رفع بنيانها أبو حنيفة النعمان وتلاميذه. فقد شغل علماء تلك الفترة بكافة اختصاصاتهم إلى تأسيس بنيانهم الفكري الذي يتلاءم وثقافتهم الجديدة التي بدأت تتشكل تلبية لحاجات حضارية إذ ذاك، فقد وضعت في تلك الفترة أسس العلوم ومناهجها.
لكن علوم الدين كانت الأسبق إلى هذا الإطار الفكري الجديد إذ كان الدين الجديد بمثابة الباعث الأول لنشأة العلوم العربية، وفي مقدمتها الفقه والحديث ثم العلوم المتعلقة بهما، فعناية العلماء بالقرآن الكريم دفعتهم إلى الاهتمام بقراءاته وتفاسيره مما حملهم على ضبط اللغة وإحكام قواعدها( ).
يقر النحاة بأنهم اجتذوا في أصولهم، وليس في القياس فقط، أصول الفقه عند الحنفية خاصة، فهذا ابن جني يصرح فيقول: "ينتزع أصحابنا العلل (من كتب محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة) لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه، فيجمع بعضها على بعض بالملاحظة والرفق"( ) ثم يقول "إن علل جلَ النحويين وأعنى بذلك حذاقهم المتقنين لا ألفافهم المستضعفين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين، وذلك أنهم يحيلون على الحس ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس"( ).
يظهر تأثر النحاة بالفقه من خلال مصطلحات الثقافة الفقهية المنتشرة في كتبهم، كما يظهر تأثرهم بالمنطق وعلم الكلام من خلال اعتمادهم على العقل الذي عدوه أداتهم، حتى أن علماء اللغة آنذاك كانوا كلهم من المعتزلة أمثال: سيبوبه وأبو علي الفارسي وابن جني والزمخشري...الخ , بل إن الرماني كان يفتن في الكلام على مذهب المعتزلة، وكتبه في الكلام أكثر من كتبه في اللغة والنحو بكثير، والاعتزال منهج يستند على تحكيم العقل مع المحافظة على الدين وهو منهج في البحث والتجربة والاستدلال العقلي والشك والقياس( ). وقد كان للمعتزلة أثرهم الواضح في إرؤساء القياس في اللغة والنحو.
كما كان للموالي أيضاً أثر واضح في النشأة النحو عموماً، حيث إنهم كانوا يتجهون إلى تعلم العربية بدافع سياسي( )، مما حمل النحو في فترة ما إلى أن يكون منهجاً للتعليم، وأداة لصهر الأمم المختلفة في بوتقة إسلامية. حتى إن أول دعوة إلى قياس في كتب التاريخ ينسب لعبد الله ابن أبي إسحاق مولى آل الحضري حتى ليكاد اسمه يقترن بالقياس، حين سأله أحدهم عن كلمة السويق أبالسين هي أم بالصاد؟ فقال: إنها بالسين فسأل السائل إلا تقولها بالصاد فقال عبد الله بن أبي إسحاق، نعم تقولها وعمرو بن تميم تقولها بالصاد، ولكن ما عليك وهذا؟ خذ باباً في النحو يطرد وينقاس( ).
يبين هذا النص أن ابن أبي إسحاق هو أول من أهتدى إلى أن ثمة ظواهر في العربية، تحكمها قوانين جامعة تنظم جزئياتها، وأن ثمة ما لا يطرد فيه ذلك، بمعنى أن في أمور اللغة ما لا يؤخذ إلا عن طريق السماع، دون أن يكون خاضعاً لقانون مطرد.
وعبد الله هذا يعد: "أول من جمع النحو ومد القياس والعلل"( ) فكلمة يطرد وينقاس في النص السابق واضحة المعنى، فهو لا يريد من سائله أشغال نفسه بالاختلاف في كلمة، وإنما يريده أن يذكر كلمة تطرد لدى القبائل كلها، أو يسهل القياس عليها، إذن كان هذا الشخص أول من اهتدى إلى هذا الطريق ومن ثم نما هذا العلم من بعده نمواًَ سريعاً، فمن بعد ابن أبي إسحاق كان عيسى بن عمر الثقفي، وقد كان كاتباً أثر شيخه ابن أبي إسحاق إذ كان همهما استنباط القوانين التي يجرى عليها العرب الأقحاح في كلامهم. أي أن القياس عندهم إنما كان تحويل المعرفة التي عرفوها إلى الخبرة الطبيعية إلى معرفة أخرى تقوم على أصول التفكير العلمي.
أما الذي اضطلع بالجانب الأكبر من هذا العلم والذي يعتبر المؤسس الحقيقي به وموطد أركانه إنما هو الخليل بن أحمد الذي نعته ابن جني بأنه كاشف قناع القياس في علمه( )، بلغ القياس على يديه ويدي سيبويه ذروته . استمر القياس على الطريق التي رسمها الخليل(4), وسيبويه , وحتى المئة الرابعة للهجرة التي بلغ فيها القياس ذروته بأبي علي الفارسي وابن جني، ويظهر اهتمامهما بالقياس من قول أبي علي لابن جني: "الخطأ في خمسين مسألة في اللغة أحب إلي من الخطأ في مسألة واحدة في القياس"( ).
اضطربت نظرة النحاة إلى القياس رغم اتفاقهم على وجوده في النحو، فيثبته بعضهم أحياناً، وينفيه آخرون، ويرى بعضهم الشاهد اللغوي الواحد قياسا ,ً ويرى الآخر أنه ليس كذلك، وربما وجه الشاهد الواحد توجيهات مختلفة ، وكل منها في نظر الموجه مقيس، وقد تتعارض وتختلف، مما يضطر النحاة لللجوء إلى الترجيح والتأويل( ).
ومظاهر الاضطراب في القياس يمكن أن تصب في مجريين عامين: أولهما: وجود قياس واحد لا تؤيده النصوص المسموعة , وفي هذه الحالة ينكره بعض النحاة مستدلين بتلك النصوص، والثاني: تعارض الأقيسة، بأن يكون للأمر الواحد قياسان , أو أكثر وتختلف نظرة النحاة لكل قياس منها( ).
يرجع أبو الحسن الأخفش سبب ذلك الخلاف إلى تصوير في الخيال ولا يثبت أمام الحنفية(3) "فاختلاف لغات العرب أتاها من قبل أن أول ما وضع منها وضع على خلاف، وإن كان مسوقاً على صحة وقياس"( ).
فهو يرى ويوافقه على ذلك ابن جني : أن القياس وضع منذ البدء مختلفاً، أو وضع قياس واحد لا غير ثم خولف إلى قياس آخر في الموضوع نفسه جرى في الصحة مجرى الأول، وهذا الافتراض لم يثبت أمام الحنفية، فمحمد عيد يرى أن: "واضعي اللغة، إن كان قد وضعها أحد، لم يفكروا مطلقاً فيما ينسبه لهم أبو الحسن وابن جني فلم لكن في أذهان المتكلمين , أو الواضعين أقيسة من البداية سواء أكانت مختلفة أو غير مختلفة"( ) ويرجع محمد عيد هذا الاضطراب إلى أسباب تتعلق بشخصية الباحثين في النحو، سواء منها ما يتعلق بجهودهم في معرفة الشواهد أو ما يتعلق بنظراتهم إليها أو لمن رويت عنه، فأحياناً قد يطول باع الباحث فيعرف كثيراً من الشواهد في فهمها وإعرابها وفتح باب القياس بها أو عدم الاكتفاء بها، وربما اختلفت النظرة إلى قائلها من حيث الثقة به, أو صحة عربيته ، وكل هذه أسباب شخصية تتعلق بالباحثين.
يجمع علماء النحو على أن هنالك نوعان من القياس، إما قياس استعمالي أو تطبيقي، وهو وسيلة كسب اللغة في الطفولة، إذ إن للطفل ملكة فطرية تجعل باستطاعته أن يكتسب اللغة التي قد يسمعها من حوله بواسطة تخزين نظامها وطرق تركيبها، وأن هذه الملكة تضعف بالتدريج بابتعاد المرء عن مرحلة الطفولة" وهذا القياس هو: "انتحاء كلام العرب، وبهذا المعنى لا يكون القياس نحواً وأنما يكون تطبيقاً للنحو"( ). أما الثاني فهو "حمل غير المنقول إذا كان في معناه"( ) وهو القياس النحوي، أو مجموع الأحكام النحوية التي تصدق على النصوص اللغوية الواردة بطريقة واحدة أخذت منها القاعدة ثم تعمم تلك القاعدة على النصوص التي لم ترد.
وهناك نوع آخر من القياس يتردد أيضاً في كتب النحو، وهو قياس أحكام على أحكام لنوع من المشابهة، وهذا القياس يطلق عليه القياس العقلي( ) لأن للعقل فيه دوراً في عقد المشابهة وإقامة الصلة بين الأحكام. وفي هذا حمل للأشياء على أشياء دون أن تكون هناك صلة كافية بين الأمرين( ).
أنواع القياس:
القياس النحوي، كما يجمع النحاة، ثلاثة أنواع: قياس علة، وقياس طرد، وقياس شبه. ذلك أن القياس إما أن تراعي فيه العلة وإما ألا تراعى، فإذا لم تراعَ فيه العلة سمي قياس شبه وذلك كإعراب المضارع لشبهه باسم الفاعل دون علة تذكر إلا مجرد هذا الشبه (وهو شبه بين الفعل واسم الفاعل الذي تأتى من مادته في مطلق الحركات والسكنات وفي تعاقب المعاني).
وعندما تراعى العلة، فإما أن تكون مناسبة أو غير مناسبة، فإذا كانت مناسبة سمي القياس "قياس علة" كقياس رفع نائب الفاعل على الفاعل بعلة الإسناد في كل منهما، وهي علة مناسبة لإجراء هذا القياس وإذا كانت العلة غير مناسبة سمي القياس " قياس طرد " يقول النحاة إن "ليس" مبنية لاطرد البناء في كل معتل غير متصرف، والعلة المناسبة التي يمكن أن تساق في هذا المقام، هي أن الأصل في الأفعال البناء والقياس على الأصل علة مقبولة.
أركان القياس:
للقياس أربعة أركان:
أولاً المقيس عليه: وهو المطرد سواء أكان أصلاً أم فرعاً، والمقصود بالاطراد هنا هو الاطراد في السماع والقياس معاً( )، فمن شروطه ألا يكون شاذاً خارجاً عن سنن القياس، وإلا لا يجوز القياس عليه كتصحيح مثل: استحوذ، استصوب، استنوق، وكحذف نون التوكيد،"اصرف عنك الهموم طارقها" أي أصرفن إذا إن التوكيد للتحقيق وإنما يليق به الإسهاب والإطناب لا الاختصار والحذف. مثل هذه النماذج تحفظ ولا يقاس عليها.
كما لا يقاس على الشاذ نطقاً لا يقاس عليه تركاً "كإمتناعك عن (وذر، ودع) مع جوازهما قياساً لأن العرب تحاكتهما"( )، وليس في شرط المقيس عليه الكثرة فقد يقاس على القليل لموافقة القياس ويمتنع عن الكثير لمخالفته له، مثال ذلك شنتي نسبةً إلى " شنودة " هذا القياس لم يقع إليه من الشواهد إلا هذه الكلمة المفردة( )، لكن سيبوبه اكتفى بهذه الكلمة وقاس عليها،أما الأخفش فجعلها شاذاً لا يقاس عليه.
والمقيس عليه ليس دائماً الأصل، إذ قد يحمل الأصل على فرع كإعلال المصدر لإعلال فعله، قام: قياماً. وقد يحمل الفرع على أصل لإعلال الجمع لا لإعلال المفرد (قيمه: قيم)، وقد يحمل النظير على النظير، مثل منع أفعل التفضيل من رفع الظاهر لشبهه بـ (أفعل التعجب) أو قد يحمل ضد على ضد، مثل النصب بـ"لم" حملاً على "لن".
ثانياً:- المقيس: وفي هذا المجال، حاول النحاة أن يجربوا صورية القواعد بالصوغ القياسي للكلمات مثل الصيغ وأحكامها( )، والتركيب مثل أنماط الجملة وأحكامها أيضاً، فاختلط هنا قياس الأنماط بقياس الأحكام، وجعل النحاة كل ذلك تمارين للمتعلمين في الحاجة للكلمات , وبناء الجمل، معتمدين في ذلك على ما قاله ابن جني من أن "اللغات على اختلافها كلها حجة، والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ" وما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب.
والمقياس نوعان: أ- غير مسموع عن العرب ب- مسموع غير مطرد( ).
ثالثاً :- الحكم: فقد يقاس على حكم ثبت بالقياس مع أن الأصل أن يثبت بالسماع , ويجوز أيضاً القياس على أصل اختلف في حكمه( ).
رابعاً:- علة جامعة: يجمع الدارسون على أن علل النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل الفقهاء , وعلل النحويين إما أن تكون مطردة على كلام العرب وتنساق إلى قانون لغتهم، أو أن تكون مظهرة لحكمتهم وتكشف عن صحة أغراضهم ومقاصدهم في موضوعاتهم , والأولى هي الأكثر استعمالاً وتداولاً( ).
يجوز التعليل بعلتين، وبالأمور العدمية، إذا قد تكون العلل حسية، أو فرضية، أو خيالية، ومثال ذلك "هل" الأصل فيها دخولها على الفعل، وقد تخرج عن الأصل فتدخل على اسم خبره اسم، ولا تدخل على اسم خبره فعل مثل (هل عمرو كتب) وعللوا ذلك بأن "هل" إذا لم تر الفعل في خبرها تسلت عنه ذاهلة وإن رأته في خبرها حنت إليه لسابق الألفة فلم ترض حينئذٍ إلا بمعانقته!" ( ).
وهذا كلام يفتقر إلى العملية، ويركن إلى حجج خيالية أو بشكل أدق "نحوية" وكان جل همه التزام القياس وتطويع اللغة له حتى غلب القياس على اللغة التي يفترض أن يستنبط منها.
استمر جهود النحاة في أعمالهم النحوية على الأصول البعيدة تلك على تفاوت بينهم في الاتساع في التعليل والقياس، مما أفضى إلى أن أقحمت في النحو أشياء هم في غنى عنها، مثل ذلك النوع من القياس الذي يهدف إلى تمارين ليس من ورائها غاية إذ ينتهي إلى إجازة شيء لم تؤثر عن العرب أنهم تكلموا به، فأخضعوا اللغة، التي هي نشاط الأفراد للقياس فكثرت فيها الظواهر المتفردة التي لا تخضع القانون مطرد فكان القياس النحوي متسلطاً على الأمثلة.
وقد رفض القياس من قبل البعض، بعد إثبات صفة الفردية على الكلام، او الصوغ القياسي، فاللغة شيء غير منفصل عن الإنسان تتحقق بمجهوده وهذه الصفة الفردية لا تتفق واتخاذه منهجاً للبحث بصيغة النحاة واللغويين.
قراءة القياس من منظور علم اللغة الحديث :-
اختارت هذه الورقات البحثية المتواضعة كتاب " تقويم الفكر النحوي " للدكتور علي أبو المكارم لتستفيض الدراسة باهم الأراء الحديثة حول القياس أصلاً من أصول النحو . وما ينطوي عليه من أراء عكف عليها البحث ؛ لتسعف ذاكرة الدراسة اللغوية بما أصابها من أوهام ظلت تتخبط في عشوائية من الفكر حول القياس إلا أن استقامت الرؤية اللغوية من منظور الدراسة _ على أدنى حد _ .
يقول أبو المكارم بأن القياس النحوي إذا ما عولج داخل المختبر اللغوي أفضت النتائج عن تأثره العميق بالقياس المنطقي الذي يكاد يبلغ درجة التبعية الدقيقة الكاملة له , والالتزام المطلق به وذلك يتجلى في كون أن النحاة قديماً كانوا ينوعون في أحكامهم النحوية , وقياسهم قائم على الاعتداد بالنصوص تارة , وتركها تارة أخرى , وعدم الالتزام بها , دون منهجية واضحة المعالم في :-
أولاً : القياسات النحوية لم تبدأ بما كان ينبغي ان تبدأ منه بتصنيف للظواهر , وتحديد علاقاتها ؛ لاكتشاف مقوماتها وبلورة خصائصها مهملين النصوص السند الوحيد للبدء بالتقنين وامتداد القواعد.
ثانيا ً : ميتافيزيقية القياس المنطقي أحدثت آثارها , وتركت صداها في الأقيسة النحوية , والحكم النحوي بجعلهم القياس النحوي مرتبطا ارتباطا ذهنيا صرفا عن طريق التلازم العقلي بالقضايا والاشكال , فالحكم النحوي لا يبدأ من أية مقومات مادية , ولا يستمد من تحليل النصوص ولا من تظافر الظواهر , فأجازوا لأنفسهم نقل الحكم النحوي من مجاله الموضوعي إلى حيث تناقضه الظواهر والنصوص جميعا .
أراد أبو المكارم أن يصل بنتائج ترى النور , وتعانق الظهور في أن : إهمال النصوص وتناقض الأحكام جعلتهم يضطرون إلى ابتكار وسائل لترجيح ما ينتهون إليه من أحكام , وتأييدها بالنصوص فاستعاروا من المنهج الاسلامي ما تحدد في علم أصول الفقه من أساليب لترجيح الأدلة حين تتعارض , فشفقوا المأثور من التراث اللغوي ليلتمسوا موردا جديدا من موارد المادة اللغوية.
نعترف بصحة قول أبي المكارم في محاولته لإقامة الاعوجاج في جسد القياس النحوي فالنصوص هي المعين الذي لا ينضب للأصولي , وعليه الالتزام بها لحظة تقعيده القواعد ولكن الدراسة ترى أن علمائنا يعون مثل هذه الأمور التفكيرية , بل تختلج في أدغالهم العقلية , فاعتبروا الخروج من دائرة النصوص- والتي قد ترقى إلى مستوى العيب عند أبي المكارم- , ومأخذا على العرب النحاة , إلا أن الدراسة تعتقد بحلية هذا الخروج المنطلق وفق ما نرى من مسوغ ومبرر نابع من فوهة التقديس الذي كان يقيمه الأعرابي النحوي وفق مقتضيات عصره للخلاص من شِراك " ظاهرة الشذوذ " ,والتي اعتبرها القدماء إحدى الحلول المقترحة في وجهة نظرهم على الأقل كمبرر لعدم انقيادهم للنصوص .
والذي يقوي ما أزعمه قولهم بـ " اللحن " كظاهرة نفثت سمها , وأثير نقع غبارها في العصور اللاحقة – وأقصد على وجه التحديد ما بعد عصر الاحتجاج – إيمانا منهم بمخالفة هذه الظاهرة كلام العرب , وخالفت أمر النصوص الحجة على كل ما يقال .
فهذا ما يقوي ما أزمعه خلال مجريات الدراسة بأن العرب أصحاب سلطان الكلام كانوا يملكون هاجس الغيرة , والخوف على العربية من الاندثار وراء سراب "ما وافق النص وما خرج عن النص " فكان لا بد لهم من مسوغات تمليها عليهم روح العصر آنذاك فكما يقول ابن جني : " كل ما سمع عن العرب فهو حجة ", وتأييدا لقول أبي الطيب اللغوي : " الشذوذ لا ينفي الفصاحة " .
أما علم اللغة الحديث الذي شن أسهم التأثر العميق – حتى درجة التبعية الدقيقة والولاء المطلق- فتقف الدراسة حائرة مكتوفة الأيدي ؛ لأن المساحة الكتابية تلزمها فقط بالحديث عن القياس , ولا تسمح لها بدخول خدر تأثر الأصول النحوية العربية بالفكر المنطقي اليوناني *
قائمة المصادر والمراجع :-
1. أبو البركات الأنباري، لمع الأدلة، تحقيق سعيد الأفغاني , مطبعة الجامعة السورية , 1957 م
2. جلال الدين السيوطي، الاقتراح في علم أصول النحو , حيدر أباد، (1310هـ).
3. جلال الدين السيوطي، بغية الوعاة في طبقات النحاة ، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم , المكتبة العصرية , بيروت , 1326 هـ .
4. ابن جني، الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، القاهرة 1952، ج1 .
5. ابن جني , الخصائص , ج2 , تحقيق عبد الحكيم بن محمد, المكتبة التوفيقية , القاهرة , 1418 هـ
6. تمام حسان، الأصول دراسة ابستمولوجية للفكر اللغوي عند العرب ، الرباط، 1991 م .
7. سعيد الأفغاني، في أصول النحو، المكتب الإسلامي , 1973 م .
8. ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق، محمود شاكر دار المعارف للطباعة والنشر، 1952 .
9. انظر علي أبو المكارم , تقويم الفكر النحوي , دار الكتب المصرية , 1995 م .
10. فؤاد حنا ترزي , في أصول اللغة النحو , دار الكتب , بيروت .
11. القفطي، إنباه الرواة عن أنباه النحاة، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، طبعة دار الكتب المصرية، ج2.
12. محمد خضر حسين، القياس في اللغة العربية، المطبعة السلفية، القاهرة، 1353هـ .
13. ابن مضاء، الرد على النحاة، تحقيق شوقي ضيف ، القاهرة ، 1947.
14. محمد عيد ، أصول النحو العربي في نظر النحاة ورأي ابن مضاء في ضوء علم اللغة الحديث، عالم الكتب ، القاهرة , 1973 .