خليل حاوي شاعر حضاري.. وحالم قومي
ريتا عوض، مجلة العربي، العدد 523 جوان 2002.
تؤكد أشعار خليل حاوي أنه يمكن ابتداع القصيدة من الواقع والتراث معا دون أن تكون في الوقت نفسه مجرد مجموع لأجزاء متفرقة.
إذا كان الشعر - كما يعرّفه خليل حاوي الذي تصادف الذكرى العشرون لوفاته هذا الشهر حيث توفي في 6/6/1982 - (رؤيا تنير تجربة وفناً قادرا على تجسيدهما), فقد امتلك حاوي الرؤيا والموهبة الفنية المبدعة القادرة على تحويل تلك الرؤيا وما واكبها من تجربة حياتية وما غذّاها من مخزون ثقافي وفكري, شعرا يصهر هذه العناصر ليبدع منها عملا فنيا فريدا ليس مجرد جمع آلي فيما بينها. إن في صهر هذه العناصر المتباينة, وفي خلق صيغة مغايرة لكل منها تكمن العبقرية الشعرية التي كان خليل حاوي أحد أبرز رموزها في حياتنا الثقافية المعاصرة. تلك العبقرية تكشف كيف يكون الشعر ملازما للتجربة الحياتية وللواقع من غير أن يكون تسجيلاً لتلك التجربة وانعكاسا للواقع, وكيف يرتبط بالمخزون الثقافي وبالتراث من غير أن يكون تقليداً أو تكراراً أو استعادة ساذجة لأنماطه.
تميّزت القصيدة العربية الحديثة - وحاوي أعظم روّادها - بالوعي الحاد للواقع والتمثّل العميق للتراث, تجاوزت بهما ما ابتليت به القصيدة الرومنطيقية من ذاتية مغلقة, وانطلقت إلى التعبير عن الحلم القومي وعن المسألة الإنسانية والقضيّة الحضارية, وظلّت, مع ذلك, مغروسة في جسد الشاعر وفي صلب واقعه. تلك السمات المميزة وذلك التجاوز والانطلاق هو جوهر معنى الحداثة في شعرنا العربي في القرن العشرين.
تجربة شعرية عميقة
بهذا المعنى العميق للحداثة في الشعر, المتجاوز للتعريفات الملتهبة بالتحولات الشكلية في القصيدة العربية, يشمخ خليل حاوي رائدا من روّاد شعرنا الحديث, ويبرز نتاجه الشعري علامة مضيئة في خريطة الشعر العربي. ذلك الإبداع الشعري المتميّز, كان تعبيرا فنيا رائعا عن رؤية نافذة وتجربة شعرية عميقة وبعيدة الأمداء تجلتا في دواوينه الخمسة: نهر الرماد (1957) والناي والريح (1961) وبيادر الجوع (1965) والرعد الجريح, ومن جحيم الكوميديا (1979).
كانت قضية الإنسان العربي في هذا العصر وأزمة انحطاط الحضارة العربية والتطلّع إلى تحقيق نهضتها محور الرؤية والتجربة الشعريتين لدى خليل حاوي, وقد امتدّتا عبر ما يزيد على ثلاثين عاماً من الإبداع, وضع فيها حاوي أسس بناء شعري عربي راسخ سيــظلّ إبداعه حجر الزاوية فيه.ذلك أنه تميــــّز, بما تحلّى به من حدس نافذ وتجربة عمـيقة وثقافة واسعــــة, بإدراك حتمية ارتباط الفن الشعري بالبناء الحضاري, في بعده القومي بالأخصّ, فتعمّق هوية حضارته العربية, ووعى مأساة انحسار حيويتها, والتزم موقفا صريحا وراسخا حيال ما تواجهه هذه الحضارة من تحديات منذ أكثر من قرن من الزمان, وحيال واقع استجابتها لتلك التحديات, وما يتشوف إليه لتحــــقيق النهـــضة المنشـــودة. وكان يطــمح إلى الإسهـــام في رسم معالم الانبعاث الحضاري وتحديد ملامح النهضـة العربــــية فــــي عصرنا هذا حتى يمكن اعتباره بحق ومن غير منازع, الشاعر الحضاري في تاريخنا الثقافي والإبداعي الحديث.
استلهام الأسطورة
عانى خليل حاوي القضية الحضارية معاناة حميمة وعميقة, فغدت هاجسا ذاتيّا ووعيا يوميّا حادا, وتحوّل في ضميره, التوق القومي إلى انبعاث الأمة العربية بعد قرون السبات والانحطاط حلما شخصيا, ضمّ العام والخاص في تجربة شعرية تجلّت رموزا ونماذج أصلية وبنية أسطورية. ولم يكن ما أبدعه من شعر حضاري مجرّد استلهام مبسّط للأسطورة - وهي السمة الغالبة على ما سمي بالشعر الأسطوري السابق على شعر حاوي والمعاصر له - فكان شعره خلقا جديدا للتراث الأسطوري صهر الفكر الواعي والرؤية المستقبلية والاستيعاب النقدي للماضي في عمل فني مكتمل. وكان الموقف الشعري من الأزمة الحضارية لديه, كما هو بالضرورة لدى كبار الشعراء, موقفا كاشفا ورائدا, يتجاوز التعبير عما هو كائن إلى معانقة المستقبل. هذا الهوس المستقبلي كان فعّالا على المستوى الإبداعي وإن كان قاتلا على الصعيد الشخصي. لقد أحرق الشاعر نفسه ليضيء: حمل الهمّ القومي والأزمة الحضارية صليباً اعتلاه, وسمّر يديه طوعا على خشبته, ومات فدى إيمانه بالدور الطبيعي للشعر, وبالرسالة الحضارية التي يحملها, وبالرؤية المستقبلية التي كرّس حياته للتعبير عنها.
لعل الفترة التي عاش فيها خليل حاوي, ومازلنا نعيش فيها, هي من أكثر فترات التاريخ العربي الحديث خطورة وأشدّها دقّة وحدّة. فقد ولد بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى, مطلع عام 1919 في الشوير, إحدى قرى جبل لبنان, وعاصر تقاسم الأوربيين المنتصرين في الحرب الأرض العربية وقد رزحت قرونا تحت سلطة الحكم العثماني, وأينع عوده في ظل السيطرة الاستعمارية على الوطن العربي بما شهده من اضطهاد للحركات الوطنية وكبت للحريات, وشبّ مع الجلاء الاستعماري وبروز الفكر الوحدوي في ظلّ واقع سياسي عربي أدى فيما أدى إلى هزيمة الجيوش العربية أمام عصابات إرهابية صهيونية سلخت فلسطين عن جسد الأمة العربية مستعينة بالدعم الغربي الاستعماري ومستفيدة من التواطؤ العربي, وعاش أحلام تحقق الوحدة العربية الشاملة في ظلّ التجربة الأساسية للوحدة بين مصر وسوريا, ثم عانى مأساة انهيار تلك الأحلام وتمزق الأحزاب الوطنية وانقساماتها الداخلية وانحرافاتها العقائدية, وشاهد انتفاء الفروق, لدى تسلم السلطة, بين ما سمّي منها بالرجعي وما وسم بالتقدمي. وكانت الفجيعة اللبنانية التي ابتدأت عام 1975 واستمرت سبعة عشر عاما بحدّة ودموية موجعتين وبوتيرة متصاعدة, رمزا لكل التناقضات الاجتماعية والثقافية والطائفية والعقائدية والحزبية التي عاشها الشعب العربي على مدى نصف قرن من الزمن. ولعل ذروة تلك الفجيعة تمثّلت في اجتياح العدو الإسرائيلي للبنان والوصول إلى احتلال مدينة الصمود والتحدي, بيروت, مطلع شهر يونيو عام 1982, في الذكرى الخامسة عشرة للنكبة العربية الثانية التي احتلت فيها إسرائيل بقية الأراضي الفلسطينية وأجزاء من سوريا ومصر. في تلك الليلة قرر خليل حاوي الرحيل عن بيروت, ولكن إلى مجاهل الموت, وكأن بيروت والحياة أصبحتا في ضميره توأمين, بيروت رمز الحريّة والنهضة والثورة والصمود والانتصار. وكانت طلقة بندقية الصيد التي فجّرها بين عينيه لتمحو عنه الذل والعار, وليخطّ بدمه قصيدته الأخيرة.
الناقد والمفكر
وخليل حاوي الذي يعرفه الجميع شاعرا فذا, شاعرا متميزا بين روّاد شعرنا الحديث, كان ناقدا ومفكرا في الوقت نفسه. وباستثناء أولئك الذين عايشوه وزاملوه وتتلمذوا عليه وعرفوه عن كثب, قلّة هم الذين يعرفون هذا الوجه من وجوه شخصيته وإبداعه. فقد آمن خليل حاوي أن الشاعر في هذا العصر ينبغي أن يكون ناقداً حضارياً, وطالما ردّد هذا القول في محاضراته الجامعية وفي أحاديثه الصحفية وفي جلساته الخاصة. وما يعنيه حاوي بهذا الشرط, وقد رأى أن من دونه لا يكون شعرا حديثا, هو أن على الشاعر أن يكون قادرا على إدراك تراثه والتراث الإنساني بنظرة نقدية قادرة على تحديد ما يسمّيه بالعناصر الحية في التراث, وكان يرى أن أصالة الشاعر ترتبط بما انتقاه من تلك العناصر الحيّة وصهره في مادة شعره ونسيجه. وقد دفع حاوي إلى تأكيد هذا الموقف رؤيته عددا من الشعراء المحدثين, من الروّاد خاصة, يرفضون التراث بأسره ويرون أن الحداثة انفصال تام عن الذاكرة الحضارية وقطيعة مطلقة مع الماضي, فوقعوا بذلك في خطأ رفض القيم الإيجابية في الحضارة. بهذا الموقف أسقط هؤلاء الشعراء, في رأيه, عن الشاعر صفة صانع القيم, لأن الشعر الذي ينطلق من الرفض ويبقى عليه يصيبه العقم ويغدو عاجزا عن إبداع القيم الأخلاقية في المجتمع. يقول حاوي إن الرفض والثورة ليسا, بذاتيهما, كما يعتقد البعض, صفتين ملازمتين لكل شعر حديث وجيّد, لأن الثورة نفسها يمكن أن تكون معرضا لحرد صبياني, وأن تكون نزقاً عصبياً وفورة انفعالات سطحية وعابرة. وهذه جميعا وسائل الشاعر الذي لا تسعفه الرؤية والثقافة على فهم أحاسيسه وحضارته وحضارة الإنسان في عصره وفي تراثها المتراكم عبر التاريخ. وقد تكون الثورة, على حدّ قوله, خارجية وجزئية تقنع بتحوير في الشكل والصورة لا يمسّ ما في المضمون من مفاهيم قديمة متحجرة أو غريبة مجلوبة. لذلك كله تكون الصفة التي تميّز تجربة الشعراء الحديثين الأصيلين (هي البلوغ بالثورة والرفض إلى الكشف عن حقيقة الفطرة في ذاتنا القومية وعن العناصر الحيّة في تراثنا وتراث الإنسان. وفي محاولة كهذه يكون العنف وسيلة حتمية لا يتمّ من دونها هدم المفاهيم المتحجّرة ولا يصير إلى إطلاق الحيوية من الكهوف التي احتقنت بها عبر عصر الانحطاط ولا تصدر القيم عن جذور الغرائز والتطور الدائم في أصل الوجود. ولعله يصحّ على الشعر العربي في مرحلته الحالية رأي الشاعر الإيرلندي سنج (John Millington Synge) أن على الشعر أن يكون عنيفا قبل أن يكون إنسانيا أو جماليا. إن الشعر العربي لايزال بحاجة إلى العنف والغضب اللذين يفجّران الحيوية الخلاّقة في الأعماق). (الآداب, عدد يوليو 1963, ص72).
وقد رأى حاوي أن على الشعر أن ينفذ إلى الجذور العميقة المتشابكة لقضايانا المصيرية من اجتماع وسياسة, وعليه أن يستند إلى ما هو قائم في صلب التراث من أساطير وحكايات شعبية ليحوّلها إلى رمز يجسّد تجربته الذاتية الكلية والخاصة العامة. فالرمز يسعف الشاعر على شحن القصيدة بالرؤية الشعرية, وهو صورة حسيّة, حسب تعريفه, تعبّر عن معنى حسّي في ظاهرها وتوحي في الوقت نفسه بأمداء قصيّة يشفّ عنها ذلك الظاهر, فالرمز قريب بعيد في آن معا.
الفلسفة وانفتاح الوعي
كان خليل حاوي نموذج ذلك الارتباط الحتمي بين الشعر والنقد, وقد رأى أن الجمع بينهما شرط الانطلاقة الشعرية الحديثة. والنقد بالمعنى الذي يرمي إليه حاوي لا يمكن فصله عن المرتكز الفلسفي الذي يقوم عليه.ولئن رأى أن أدبنا الحديث يفتقر إلى التفاعل بين الفكر الأصيل والمذاهب النقدية الأصيلة فقد آمن أن أفضل النقاد هم الفلاسفة, وأكد أنه لا بدّ من ربط كل مذهب نقدي بنظرية في الوجود والمعرفة, وإن لم يشترط أن يكون الشاعر هو صاحب تلك النظرية.
ولا شك في أن الثقافة الفلسفية العميقة التي تميز بها خليل حاوي وقد تحولت وعيا كاشفا لديه, كان لها تأثيرها في شعره الذي امتاز عن بقية الشعر العربي الحديث بعمق الرؤية وكثافة الوعي الحضاري وشمولية الثقافة, الأمر الذي جعل حاوي قادراً على اكتناه جوهر الذات البشرية وأبعادها الإنسانية وحضورها التاريخي, والتعبير عن ذلك بالرمز والأسطورة في لغة مجازية يضــبطـها الإيقاع ويكثفها, صهرت الذاتي والعام, والحسي والكلي, والجوهر والصورة في وحــــدة شعـــــرية تامة تقف شامخة بين الذرى الشعرية العالمية التي أبدعها الإنسان عبر تاريخ الحضارة البشرية. وقد اسـتطاع حاوي, بفضل موهبته الشعرية الفذة وصفاء إدراكه لحقيـقة الإبداع الشعري أن يصون شعره من الآثار السلبية التي يمكن أن تكون للفلسفة على الشعر مثل التجريد الذهني وإيراد الأمثال والحكم في الشــعــر بصيغة تقريرية. ولم يكن الشعر, بالنسبة إلى حاوي, صياغة لما يستمد جاهزا من مبادئ الفلسفة أو الفكر, بل إن الغاية التي حددها للإبداع الشعري لم تقف دون الكشف عن الحقائق الخفية الكامنة في مــــجال النفس والوجود, والتعبير عن المطلق. من هنا عرف حاوي الشعر بأنه (رؤية تنير تجربة وفنا قادرا على تجسيدهما). فالشعر يشترك مع الفلسفة في كونه رؤية عميقة ونافذة, لكنه يتجاوزها في كونه فنا يعتمد التجسيد والإيقاع ويتحد بالتجربة الذاتية والقومية والإنسانية فيخاطب بذلك النفس الإنسانية بكل عناصرها الوجدانية والفكرية معا, بينما تقتصر الفلسفة بتقريريتها وتجريدها, على مخاطبة العقل دون العاطفة. لقد آمن حاوي بأن الرؤية هي مصدر كل معرفة, أكانت علمية أو فلسفية أو شعرية, لكن هذه الرؤية تتمثل أصفى تمثل في الشعر وتتفرع إلى فلسفة وعلم لا يضاهيان الشعر في الكشف عن حقيقة الوجود واكتشاف المطلق والقدرة على تجسيده لتميز مادة الشعر ووسيلته في التعبير.
ضمير الأمة
لقد أكد خليل حاوي في تجربته الإبداعية أهمية الدور الذي يضطلع به الشاعر في عصره, بما هو ضمير الأمة ووعيها المتوهج. وقد كان على الشاعر الحديث في هذا العصر أن يتبنى القضايا الكبرى في وطنه ويحمل هموم أمته حتى يعيد للشعر دوره الكبير الذي عرف به في الحضارة الإنسانية وينفي عنه صفات التلهي بالهموم الذاتية, والميوعة العاطفية الرومنطيقية, والجماليات الفارغة. وقد وصلت التجربة الشعرية العربية مع خليل حاوي إلى الحداثة الحقة وأعاد بالروائع الشعرية التي أبدعها للشاعر العربي الدور الرائد الذي عرف به في تراثنا الحضاري.