"بسم الله الرحمن الرحيم"
المقدمة :-
يسعى الباحث في هذه الوريقات التي يقدمها إلى استنطاق النص، بما فيه من دلالات محتجبة وراء سرادقات التراكيب والمعاني ؛ لما فيه من سعة المدلول ، وتناسق الحروف ، وتآخي المعاني ، وجمال التصوير ، والعلاقات الدلالية المكثفة التي غزت المساحة الأكبر من هذا النص الشعري ، ولست أسعى إلى استنطاق النص بما ليس فيه ، أو إعطاء حكم مسبق لفكرة ما تدور في خلدي . ناهيك عن الثنائية التي يراها الباحث جلية في ثنايا النص ، ثنائية الرفض والخروج ، تطفو تارة على البنية السطحية للنص ، وتوغل تارة في البنية العميقة للنص .
أتمنى أن تكون هذه المحاولة واعية ناضجة إلى الحد الذي سمحت فيه لنفسي دخول المقصورات الملكية لشاعرنا ( شاعر العروبة ) لأنسنة النص وجعله حيا في أذهاننا ، كعصب يغذي فكرنا ، وينمي قيمنا ، ليس لشيء ، ولكن لأني أعشق أبا الطيب ، وأراه دستورا يحترم ، وقبلة فكرية يتوجه إليها أثناء التعبد العروبي للمكوث طويلا في محراب (الأنا ) القارئ ، علنا نرقى أن نكون أحد الندماء ممن يشاركون المتنبي شرب كأس على عهد مضى ، ودرس عليه الزمان وغبر ، ليعيده المتنبي بحلية جديدة ، يوشحه بالقوافي ، ويرسمه بالكلمات الرصينة ، ويغرسه بقوة في عقولنا التي غزتها أفكار " الآخر " .
اختياري لشرح البرقوقي هو ما رأيته من أسلوب رائع تمثل في تقديم المعنى للفظة ، وفق ما جاءت في المعجم ، وانتشاله للمعنى من المعجم بما يتواءم والسياق ، وربطه بالشرح بين البيت والآخر ، بما يشعرك أنك تقرأ رواية جميلة ، يربطها من أولها إلى آخرها خيط نفسي خفي.
النص الشعري الموسوم بـ " أفاضل الناس " جثل بالدلالات ، أثيث بالفكر الوجودي الذي جعل أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر يذكره عند حديثه عن أول المحاسن والروائع والبدائع والقلائد والفرائد التي زاد فيها ( المتنبي ) على من تقدم وسبق جميع من تأخر( ) ، وجعل أيضا أبا الحسن الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه يقول : " فإنه ابتداء ما سمع مثله ، ومعنى انفرد باختراعه " (2)
يعتقد الباحث أن هذه القصيدة تصب في الشعر القومي ؛ لما لها نصيب من الخلود ، ولما فيها من عكاظية جياشة ، ولأنها تدعو في ما وراء النص إلى التحرر والاستقلال ، مما ألصق بالعروبة من وابل الانتقادات ، والاتهامات الواهية .
المبحث الأول : الأدوات التي استخدمها المتنبي للتعبير عن معاني الرفض والخروج
أولا : استعمال المخاطبة للغير بوصفها أداة للانتقال إلى غرض الرفض فالخروج ، وبسط آراء من المجتمع والحياة عامة . كقوله :
حَولي بِكُلِّ مَكانٍ مِنهُمُ خِلَقٌ تُخطي إِذا جِئتَ في استِفهامِها بِمَـنِ
وَلا أُعاشِرُ مِن أَملاكِهِم أَحَداً إِلّا أَحـَقَّ بِضَربِ الرَأسِ مِن وَثـَنِ
ثانيا : السياق المعنوي الزاخر بدلالات الرفض والخروج : كالغربة الفكرية والمكانية التي جسدها في حديثه عن الحساد والجهال في عصره باعتبارهم خالين من العقل والأدب ، فقد قال فيهم :2
فَقرُ الجَهولِ بِلا عَقلٍ إِلى أَدَبٍ فَقرُ الحِمارِ بِلا رَأسٍ إِلى رَسَنِ
ثالثا : استعمال النفي والاستنتاج للخلوص إلى وحدات الرفض والخروج . كقوله :3
لا أَقتَري بَلَداً إِلّا عَلى غَرَرٍ وَلا أَمُرُّ بِخَلـقٍ غَيرِ مُضطَغِـنِ
وَلا أُعاشِرُ مِن أَملاكِهِم أَحَداً إِلّا أَحَقَّ بِضَربِ الرَأسِ مِن وَثَنِ
المبحث الثاني : إطلالة دلالية عجلى على قصيدة " أفاضل الناس " *
1- أَفاضِلُ الناسِ أَغراضٌ لِذا الزَمَنِ يَخلو مِنَ الهَمِّ أَخلاهُم مِنَ الفِطَنِ
يبتدىء أبو الطيب القصيدة بـ " أفاضل " التي تزخر بدلالات إيحائية عميقة ، لتشكل مع الناس علاقة تماسية دالة على:
فصوت الهمزة من أصعب الأصوات نطقا ، وأكثرها إجهادا للناطق بها ، ويعكس مدى ثقل الهم الذي يؤرق أبا الطيب ، ويسكن أصواته، ويعكس أيضا رفضه إياه، ورغبته في التحرر منه ، فيبحث عن مخرج له فيأتي لنا صوت ( الفاء) ، تلتحم فيه مقدمة الأسنان مع الشفة السفلى ، فيحتجز شاعرنا خلف قضبان من السلطة التي تمنع الأنام عن الكلام بحرية ، ويرفض أبو الطيب الصمت ، والاكتفاء بالضجر في زمن وجب فيه الكلام لتظهر (الألف) كمساحة نفسية طويلة المدى يعبر عن حجم المعضلة من جهة ، وعن نضوجه وخبرته التي تكورت ، وسيرورة هذه المعضلة من جهة أخرى ، لتتجلى بعض الملامح في صوت ( الضاد ) "صوت رخو ، وهو مصطلح يعني ما نعني به في المصطلح : استمراري" ( )
هذه هي معضلة العربية جسدها الحس العروبي لشاعرنا بصوت الضاد ، واندثار الـ "أفاضل " في طي من النسيان .. أو لم يصح العرب من سباتهم العميق المستمر ! أو لم يدرك أبناء العروبة كنه المعضلة ، وحجمها الكبير إزاء التحركات الخفية لغير العرب داخل مقصورات هيكل الدولة العربية !
يختم شاعرنا جهده النفسي والفكري بصوت ( اللام ) الذي يعد صوتا استمراريا ،ويرد مرققا في سياقات ، ومفخما في سياقات أخرى ، ويظل تيار الهواء مستمرا دون توقف ، الأمرالذي لا يجوز معه اعتبار هذا الصوت وقفيا ، ويظل الطريق الأمامي مغلقا مدة نطق الصوت ، فهو من الأصوات الجانبية بترقيقه وتفخيمه ، واللام المفخمة أوضح سمعيا من نظيرتها غير المفخمة * . ليستقر به المقام صوتا يبلغ مرامي الأذهان وإسماعهم ، وليرفو لنا هذا الصوت نسيج الحقيقة التي تمتد من أول القصيدة حتى آخرها بوصف " أفاضل " محورا يقوم عليه جسد القصيدة ، وبؤرة تحوم حولها حنايا من الشجون وارفة الظلال ، علَه يجد من يسعفه في تحقيق ما يسعى إليه من ( الوجود العربي الواعي ) ، وانتشال الروح العربية مما علق بها من أدران امتزاج الحضارات واختلاطها؛ لتغدو أمشاجا نقية صافية في زمن صارت فيه الروح العربية مهددة بالتلاشي والانحطاط من طرف قوي مجابه لها خارجيا ، وانحلال متمكن بها داخليا .) )
الرفض واضح لأولئك الذين يخلون من العقول والتدبر للأمور ، فهم خالين من الفطنة ، والخروج ، وتجسد ذلك في المقدمة التي لم نعتد عليها من أبي الطيب ، فيطرح ما اعتدنا عليه أرضا من مقدمة غزلية أو خمرية أو ... فيفتتح كلامه بالغرض الشعري المراد طرحه على مرأى الناس ، وهو : رفض للجهلة الذين لا يفكرون بشيء مما هو في مدار " الأفاضل " أصحاب الإحساس ، والاهتمام بما دق وجل عبر الدهر وصروفه ، فكأنهم مختزنون داخل مقصورة الزمن ، لا يخرجهم الزمن منها إلا وفق ما تقتضيه ضرورات النوائب ، ثم يقفلون عائدين محملين بالهموم وبالأوصاب الوخيمة.
تمثلت علاقة التماس بداية في قوله :
باعتبار الإضافة نقطة التماس في هذه العلاقة ، ثم يدرك الشاعر نفسه بعلاقة دلالية أخرى ، هي التماس أيضا ، ليقول لنا : إن " أفاضل " هي المحور في العلاقتين :
أ- ب -
الجملة الاسمية في مطلع القصيدة من وحدات الرفض لدلالتها على الثبات ، فالأفاضل يدورون في دائرة الزمن لخدمة نوائبه ، فهم - وإن كانوا من الناس - أغراض لدى الزمن في صروفه ونوائبه ، وليسوا كبقية الأنام ممن يخلون من العقل والفطنة ، فالزمن يخرجهم من دائرة الناس ، ويؤكد ذلك الشاعر برفضه أن يكون كعامة الناس ، بدليل انتقاله إلى الدائرة التماسية الثانية ؛ ذاك أنه لم يكتسب من الدائرة الأولى سوى التعريف ، فأراد أن يكون ممن يخبر عنهم الزمان بشيء ، ليس يوجد في غيره ، فكانت " أغراض " وبها اكتملت الدائرة التماسية الثانية ، واستوت على سوقها .
عن مثل هذه الحقيقة عبر شاعرنا بالجملة الاسمية ، في حين أنه في الشطر الثاني أطلق الفوهة الفعلية لضمان استمرار الخالين من العقل ، وديمومة مثل هذه العينات في المجتمع العربي آنذاك ، لتكمن حينها أهمية ال " أفاضل" .فالـ "أفاضل " ثابتون بوصفهم حقيقة وجودية ، مهما تناسلت البشرية يسعى شاعرنا إلى إرساخها في الأدمغة العربية ، على الرغم من كثرة وديمومة أصحاب العقول الجاهلة غير الواعية سواء أكانت عربية أم غير عربية .
ويرى الباحث أيضا أن استخدام الشاعر الواعي للجملة الاسمية بوصفها افتتاحية القصيدة يمثل إشارة مباشرة منه إلى عصره الذي يحياه ، وينزل ضمن دائرة الرفض الواسعة ، الدال على تجاوز شاعرنا منطقة التذبذب الفكري باتجاه الموقف الفكري الصلب ذي الثبات للحظات المواجهة الحرجة .
2 - وَإِنَّما نَحنُ في جيلٍ سَواسِيَةٍ شَرٍّ عَلى الحُرِّ مِن سُقمٍ عَلى بَدَنِ
يرفض شاعرنا هذا الجيل ، ويدعو نفسه أن تخرج من هذه الدوائر الضآلة والعقيمة الممزقة للواحد ، جاءت هذه الثنائية على النحو التالي :
فالأفاضل الأحرار أصحاب العزيمة ، جؤش المصاليت أصابهم شر من نوع ما ، وهو: تداخل الأجناس وامتزاج العقول ، ليغدو الجسد الواحد الرصين مصابا بالمرض محملا بالأوجاع من ذاك الجيل من الناس المتساوين في الشر دون الخير ، فليس فيهم من يركن إليه ويعول عليه( ) ، ويرى الباحث أن النظر إلى ما وراء النص هو الذي يجلي حقيقة مفادها : الإشارة إلى الشعوبيين في ذاك العصر وقد اختلطت الأنساب ، وحفت العقول ، وسُلبت جوهرها من القيم والخير ، لتأفل شمس عروبة القيم والمبادىء ، ويبزغ ظلام الشعوبية التي صوَرها " بالفيروس " الخطير الذي دق ناقوس الإعلان عن سراب فكره الخفي ، وأطلق أشرعته الفكرية في تناول العقول العربية ، ونفث سمه ، فيها لتغدو متحجرة غير واعية ، فاقدة للكثير مما وسم بها عبر العصور ، وتزامن الأصقاع من حمية ، وعقلانية وخير وتساوٍ مع غيرهم من الشعوب . فينسب الشعوبيون إلى أنفسهم كل ما توج في أمهات الكتب من المرامي الفكرية والشذرات العقلية لكنهم بالرغم من ذلك يبقون بلا عقول ، وبلا كيان وخفافيش الظلام ، وهذا ما أكده في البيت التالي :
3- حَولي بِكُلِّ مَكانٍ مِنهُمُ خِلَقٌ تُخطي إِذا جِئتَ في اِستِفهامِها بِمَنِ
وشرح المرزوقي هذا البيت ، فقال : " حولي من هؤلاء الناس جماعة كالبهائم ، إذا أردت الاستفهام عنهم فقل : ما أنتم ، ولا تقل : من أنتم ، وإلا عدوت الصواب " ( ) . يرى الباحث أن التائهين في دياجير الظلام يرتشفون من الخفية في المكان رحيقا لأنفسهم ، فهم كثر ممن لم يحدد مكانهم الخاص ، لأنه غائب عن الأذهان ، على الرغم أنهم على هيئة البشر ، والرفض الوجودي حاصل لهم بعدم جواز السؤال عنهم بـ ( مَنْ )؛ لأنهم كالبهائم أو أضل قليلا ( ) .
رفض الشاعر لهم يشعر القارىء بالرفض الأكبر للمكان ، فالـ" أنا " مقابل الـ " هم " يستدعي منه الرفض فالخروج ، وعند السؤال عنهم بـ (من ) يقتضي بالضرورة وجود أجواء تسودها العفة الزمكانية والطهارة الاحساسية والنقاء البشري ، فكان من المستحسن التعبير عنهم بـ ( ما ) لغير العاقل من جهة ، وليبين لنا الشاعر مدى الفوضى المكانية ، والضوضاء الفكرية بينه وبين (الخلق ) أو الحلق - كما أشار البرقوقي- ( ) من جهة أخرى ، ويدعم ما قاله الباحث كثافة العلاقات الدلالية في هذا البيت ، وكانت على النحو التالي :
يحيط المكان هنا بـ (الأنا ) ، ولكن الإحاطة فقط مكانية دون أن تكون وجدانية وجودية ؛ ذاك أن (الأنا ) هي التي اكسبت المكان التعريف ، وجعلته خصبا بالقيم الوجودية والفكرية ، باعتبار أن هذه العلاقة أنجبت من رحمها علاقة التماس ، والتي تعد (الأنا ) أيضا فيها نقطة التماس .
" أ" "ب "
علاقة التماس " أ" تنبئنا بأن الفكر الوجودي الذي يحمله شاعرنا ، ويؤرقه ما خفي في ما هو حوله ، هو نقطة التماس في العلاقة " أ" . فهذه الـ " خلق " بوصفها دائرة دلالية فليست ذات أهمية ، ولا تشكل علاقات وجودية بدون الدائرة " أ" التي كورها الشاعر ، وأنتجها من مخاض فكره ورحم وجوده داخل مقصورة الزمن ، فالعلاقة في " أ " ليست ذات بالٍ إذا انتزعنا منها (الأنا ) ومثل هذه القيمة الدلالية تسربت إلى الدائرة " ب " وهذا يعني بالضرورة أن العلاقتين التماسيتين أُنجبتا من فكر (الأنا ) الشاعر المدرك لعروبته، لتشكل (الأنا ) محورا هاما في هاتين العلاقتين ، وبؤرة أساسية في إنتاج الدائرة " أ " فلولا وجود (الأنا ) بوصفها نقطة تماس ما كتب لهاتين العلاقتين أن تريا الوجود والنور ، وتعانقا الظهور .
وجود (الأنا ) في افتتاحية هذا البيت مدعاة في ظهور الكثير من العلاقات التماسية الأخرى ( بـ + كل ) و( كل + مكان ) و( من + هم ) ، ... فـ "الأنا " مقابل الـ " خلق " جميعها، فيأتي الغرض الذي يؤمه شاعرنا باعتبار (الأنا ) هي المقرر والحاكم عليهم بـ " تخطي إذا جئت في استفهامها بمن " ، تلازمية الحكم عليهم ، واقترانهم بـ : ( لا عقل فيهم، مسرح عملهم غير محدد، ...) .
الرفض لمثل هؤلاء متوقع من شاعرنا ، وكذلك الرفض قائم للمكان المزدحم بـ " خلق " ( جمع كثرة ) ، ورغبته في الخروج من هذه الدوائر المكانية ضمنيا حاصلة بالبيت التالي :
4 - لا أَقتَري بَلَداً إِلّا عَلى غَرَرٍ وَلا أَمُرُّ بِخَلقٍ غَيرِ مُضطَغِنِ
يقول المرزوقي في شرح هذا البيت : " لا أسافر إلا على خطر وخوف على نفسي من الحساد والأعداء..." ( ) هذا يعني بالضرورة أن شاعرنا كان قبل ذلك يأمن على نفسه أثناء حله وترحاله .
المتنبي مع كافور= لا آمان المتنبي قبل كافور= آمان
يأتي هذا البيت بوصفه نتيجة حتمية لحديثه عن " خلق " التي تمارس حقدها وكراهيتها على شاعرنا مع غياب " الأفاضل " من بني جلدة شاعرنا .
مكان يحتضر لانعدام أصحاب الفكر ، وفنائهم من ديار شاعرنا ذي العلم والفضل ، فكان من الضرورة في شيء الارتحال بمحيط الذاكرة إلى الوراء في رحلاته للبحث عن (الأنا العربي الواعي ) ، ولكنه عَدِم أن يجد سوى أولئك ممن يختزنون بداخلهم طاقات من الحقد والكراهية لمن هم من غير جلدتهم ( الشعوبية وأحقادها الدفينة ) .
أعمدة الرفض للمكان قائمة، وشِراك الخروج يحيط بمخيلة شاعرنا الشعرية من ذاك المكان العفن، والزمان المستهلك بحثا عمن يعلمون ويدركون الأهوال والمخاطر المحيطة بهم، يبحث عن " الأفاضل " الذين يفنون أنفسهم لخدمة العروبة في ظلال الزمان .
فكان من المحتم عليه العودة بالذاكرة إلى الوراء للشعور بالآمان بعض الشيء من ناحية ، وحتى يطفىء نار الغربة التي تسكن بين أضلعه ، فاستعان شاعرنا بالجملة الفعلية ( لا أقتري) ؛ لضمان أطول فترة زمنية ممكنة فيها ديمومة الرفض ، وفيها الرغبة الكامنة - في أدغال نفسه - بالخروج من هذه الدائرة المكانية، والابتعاد وجوديا عن الحاسدين، والذين يبيتون له كما هائلا من الضغينة والكراهية .
5- وَلا أُعاشِرُ مِن أَملاكِهِم أَحَداً إِلّا أَحَقَّ بِضَربِ الرَأسِ مِن وَثَنِ
يركز أبو الطيب في البيت السابق، وفي هذا البيت على الجملة الفعلية المقترنة بالنفي بوصفه وحدة من وحدات معاني الرفض ، الذي تكاد تختص بمعالجة مواقف الرفض ذات النزعة التأملية البعيدة عن تصلب الشخصية، وتؤلف مثل هذه الجمل شبه مدخل للموقف الأساسي الذي يكون نتيجة مخاض فكري ونفسي ، بوصفها قيد استعمال شاعرنا .
( لا أقتري، لا أعاشر ) تؤكد بقاء شاعرنا في دوامة التأرجح، فهو في محاولة لمعالجة فكره الرافض لأولئك الأصنام أي : الملوك ؛ لأنهم صور لا معنى ، فيها كالأصنام التي يعبدها الأقوام، ويفتنون بها فلا يستحقون إلا أن تحطم، ويفصل بين رأسه وجسده ؛ حتى لا يبقى على خلقة البشر( ) .
وجود المدَ في هذا البيت ( أعاشر، أملاكهم ) يصف حالة الركود ودوامها : ركود وجودي تمثل في كثرة أملاك تلك الأصنام، تلك التماثيل التي ليس بحوزتها معنىً وجودي، والدوام للحجارة التي تملك – وللأسف – السلطة ؛ ليعكس مدى ضآلة الوعي العربي آنذاك.
يظهر شاعرنا في هذا البيت علاقة التباين في استخدامه الاستثناء، ذلك أن ( الأنا / أحقَ ) يشتركان في الفاعلية في الدائرة الدلالية نفسها ، (فالأنا) فاعل حقيقي يمارس دوره في عدم معاشرة المشار إليهم ، و(أحق) مساوية تماما للـ"أنا " في مزاولة عملها، ونقلها من حيز المكان والثبات نحو رفضهم بل واجتثاثهم من أجسادهم ، فتنزع رؤوسهم عن أجسادهم الأحقية لشاعرنا في تخليص البشرية جمعاء ، من مثل تلك الأصنام، ووثنيتهم التي كان المتنبي على موعد معها لفترة زمنية طويلة الآمد ، بدليل قوله : ( أعاشر ) فاستخدامه للفعل المضارع دالا على طول الفترة الزمنية التي قضاها الشاعر بجوار تلك الأصنام . فاعل في سياق النفي (رفض )، وآخر في سياق الإيجاب (خروج )، فقرر الخروج تاركا وراءه إطلالة الفاعل الحقيقي ورسمه .
ومما يدعم ما ذلك استخدام الشاعر :
نقل الشاعر ( الملوك ) ذات الصيغة الصرفية الدالة على الكثرة من حيز الوجود المعنوي إلى حيز الأشياء المادية مستخدما جمع القلة ( أملاك ) ؛ ليزيل عنهم الهيئة والهيبة ، وليقلل من أهمية تلك الصور التي لا تحاكي في الوجود إلا الأصنام التي لا تستحق معنى، ولا وجودا.
يرى الباحث أن همَا ما يؤرق تلك الأملاك، ويسكن عوالمهم ، تتشكل خيوطه من الماديات، والتي لا تسأمه نفوسهم، وفكرهم القاصرعن بلوغ المعالي والقيم المعنوية ، فهم (أملاك) لأنفسهم المحدودة التفكير، والضيقة الرؤيا .
الأملاك = لا تساوي شيئا =أحدا ( نكرة عامة ) بما يتناسب مع حقيقة الاستثناء باعتبار المستثنى منه كونا عاما ، ليؤدي دورا دلاليا تمثل في تهميش دور الأملاك وتنكيرهم ؛ حتى يبلغ منهم الشاعر مكانا يصل كينونتهم الوجودية وتشكيكه فيها .
استعمل شاعرنا مخاطبة الآخرين ( أملاكهم ) بوصفها أداة للانتقال إلى غرض الرفض ، وساعده في ذلك تلك الغربة الفكرية التي تنزل ستارتها في متن البيت ( أعاشر .... أحقَ بضرب ) فـتدل كلمة (أعاشر) على الدوام والاستمرار في مجاورة أولئك الأصنام ، وما النتيجة ؟ فصل الرؤوس عن الأجساد .. غربة فكرية تشكلت معالمها في هذا البيت ، نفذت خيوطها إلى كراهية ( الآخر ) ، ورفضه إياهم ، مما أحالته إلى ضرب من التخبط والجمود الذي يُمدد من برودة الحياة من حوله ، وتمثل ذلك جليا في البيت التالي :
6 - إِنّي لَأَعذِرُهُم مِمّا أُعَنِّفُهُم حَتّى أُعَنِّفُ نَفسي فيهِمِ وَأَني
يقول البرقوقي : " إني أجعل لهم عذرا في ما ألومهم به من الغفلة واللؤم حتى أعود على نفسي باللوم ، وأني – يقول : أي أقصر – في لومهم ، أما عذرهم فهو أنهم جهال ، والجاهل لا يلام على ترك المكارم والرغبة عن المعالي " ( )ولمَ لا ؟ فالشاعر يبحث هنا عن " الأفاضل " ، بوصفها وحدة دلالية تتساوى مع نفسه في هذه اللحظة التي يلومها فقط لأنها تمور مع الآخرين في قضايا وجودية ليس لها نظير في عوالم تلك الأنفس المتواجدة على رقعة ذاك المكان .
تكثر المؤكدات في هذا البيت ( إنَ ، لـ ، أنَ ) ، والحذف في البنية التركيبية ل " أن " ، مضافا إلى ذلك التركيز الواضح على (الأنا ) ؛ ليعكس مدى ضآلة الفكر الموجود في من يعاشرهم الشاعر بالمقارنة مع (الأنا ) الشاعر للدرجة التي لا يُسمح بها بعقد المقابلة في ما بين :
الأنــــا ( الشاعر ) الـ ( هم )
الرفض هنا بين لأولئك الجهال ، ورغبته في الانسلاخ عنهم واضح ، والخروج من دائرتهم الوجودية جلي أيضا ، ويفسر الشاعر هذه الثنائية بقوله :
7- فَقرُ الجَهولِ بِلا عَقلٍ إِلى أَدَبٍ فَقرُ الحِمارِ بِلا رَأسٍ إِلى رَسَنِ
يقول البرقوقي :" إن الجاهل لا يفتقر إلى الأدب إذ لا عقل له ؛ وأول ما يحتاج إليه الإنسان : العقل الذي به يعقل ، ثم يتأدب بعد ذلك ، فإذا لم يكن عاقلا لم يحتج إلى أدب ، كالحمار ما لم يكن له رأس لم يحتج إلى الرسن " .
تتمثل جمالية هذا البيت في علاقة التماس التي تربطه من أوله إلى آخره ( فقر .... فقر ... ) فتتساوى دلالة المبتدأ وما تبعه مع دلالة الخبر وما لحقه مضافا إليها القالب الأدواتي المستخدم :
( بلا ... إلى ...) ( بلا ... إلى ... )
يستخدم الشاعر هنا الجملة الاسمية بوصفها وحدة رفض ، وذلك بالمساوة بين ( فقر الجهول ، وفقر الحمار) ؛ ليدلل على تجاوز الشاعر منطقة التذبذب ، ووصوله إلى منطقة الثبات في تقديم حقيقة في حكمه على من يعاملهم ، وتصلب موقفه الفكري إزاء أولئك الجهال في عصره .
يبدو ذلك جليا في استخدام الشاعر النفي داخل علاقة التضمن في قوله :
النفي يتطلب إثباتا سابقا له في الوجود ، ( بلا عقل ) يتطلب بالضرورة مقاما قيل فيه : ( كان عندنا عقل ثم صار اللاعقل ..)، ومعنى هذا :
كان العرب في زمن سابق أصحاب عقول نيرة ، وكذلك أصحاب قيادات عربية محضة فذة، جعلت منهم منبرا يتوجه إليه في الركب الحضاري ، وسبب هذا كان : اعتبار ( الأدب = الرسن ) في بلوغ المعالي ، ومواكبة الركب الحضاري آنذاك . ويعزو الباحث هذا إلى:
أن شمس العقول العربية بحثت لنفسها عن ظل ، ولكن أين ؟ للأسف بالعراء الفكري الوجودي ، فمات " الأفاضل " ممن يشكلون بصمة واضحة ، وعلامة فارقة في تاريخ الأمة العربية للدرجة التي انصهر فيها " الأفاضل " في بوتقة غير العرب ، فانتقلوا من حالة الوجود إلى حالة العدم والقحط الفكري ، وصقيع الغربة الفكرية التي عاشت مع شاعرنا العربي منذ ولادة البيت الأول ، وانتهاء برحلته للبحث عن " الأفاضل " ، وهو حقيقة يبحث عن نفسه التي ترتفع عن كل الأنام ، فإطلالة ذاته تجسدت في " الأفاضل "، فكل محاولة خروج تقتضي منه العودة إلى مقصورة الزمن القديم الذي يمده بالطاقة ، ويسعفه في معاشرته الجهال داخل الرقعة الزمكانية .
كيف لا وهو القائل
)
صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها فَالحُـرُّ مُستَعبَـدٌ وَالعَبـدُ مَعبـودُ
وَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُهُ تُطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُ
وهو القائل أيضا : ( )
وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ
لا أَدَبٌ عِندَهُم وَلا حَسَبٌ وَلا عُهودٌ لَهُم وَلا ذِمَمُ
استخدم الشاعر علاقة التضمن ، وكانت على النحو التالي :
الدائرة "أ" الدائرة "ب "
=
لتنصهر الدائرتان في دائرة التطابق بين ( "أ " و" ب " ) ، وذلك في المعنى المراد تقديمه، من حيث إن دلالة الجهل معنوية مختزنة بداخل أولئك الجهال ، فكان من الضروري نقلها من عالم التجريد إلى العالم المادي ، بوصفه في الدائرة " ب " بالحمار بوصفه موصوف حسي ؛ ليقرب لنا المعنى ، وينتشله من عالم المشبه الجواني إلى عالم حسي مادي ، فتبرز العلاقة الدلالية بين ( الجهول والحمار ) ، وتساويهم في السمات الدلالية المشتركة المتمثلة بـ:
الجهول = بلا عقل + بـلا أدب
الحمار = بلا رأس + بلا رسن
الرفض لأولئك الجهولين مساوٍ تماما لرفض الأدب إياهم ؛ لأنهم بدون عقول ، فالأدب هنا يقابل الرسن في الشكل السابق ؛ ليدل على أن وجود الأدب هو المحرك الفعلي للفكر ، فبوجوده ينمو العقل ، ويغدو ثريا نزيها موصلا صاحبه إلى أعلى المراتب ، كيف لا وقد كان العقل العربي زاخرا بالعلم ، باسقا بالمعرفة ... فتطورت الأمة وازدهرت ، وسارت في الركب الحضاري تخترق الحواجز ، ولا تعترف بلغة الحدود الزمكانية .
ما الذي حدث للعقل العربي إذن ! فقد زمام السيطرة على مجريات الواقع ، وسيرورة الأحداث ، فتراكمت الرسوبيات غير العربية ، مما أدى إلى إنتاج مجتمع عربي جاهل لما حوله ! كيان ممتص لا حياة فيه ولا بعث ولا نشور ! ملوك يتقدمون إلى الوراء بعقولهم الجاهلة ، فهي خاوية من الأدب ، يتخللها فكر خفي قادم من " الشعوبية "، ليجد أمامه تربة خصبة مهيأة لاحتضان أفكارهم المتمثلة في تفريغ العقل العربي من الأدب ؛ لأنه سلاح واقٍ مانع من انتشار أفكارهم الخبيثة الخفية .فتصير العلاقة وفق المعنى هذا على النحو التالي :
يعتقد الباحث أن السبب وراء تطابق هاتين الدائرتين ، هو : فقر الجسد العربي إلى العقل الواعي المنظم ، وفقره إلى الإحساس بالعروبة ؛ مما أفقده عقله الناضج ، وأفقد أدبه الرفيع كلمته المسموعة ؛ ليغدو كيانا ممتصا يلتحف من رماد الشعوبية جهلها وقيمها اللأخلاقية.
الخـاتـمـة :
يسكن عوالم شاعرنا الجوانية فكرة ما غادرت مضجعه ، وهي : الشعوبية ودورها في طمس الهوية العربية ، وعبر عنها ضمن ثنائية ( الرفض ) المعلن عن تلك الوثنية التي لا بد من اجتثاثها من أصولها ، و( الخروج ) من دوائر مسلوبي العقول ، وفاقدي الوجود الحقيقي في أن يكونوا - كما كانوا دائما- بصمة تبقى حتى الأزل قيد الأخذ والوجود .
يرى الباحث أن بحث الشاعر عن " الأفاضل " الذي لن يجدهم في جميع محطات القصيدة هو بحث عن ذاته التي تشعر بالجفاء الفكري ، وبالقفر الوجودي التي دامت آثاره بينة ، وأطلاله مرتسمة ، مع تدخله في بعض الأحيان في بسط آرائه عن الواقع المعاش ، ومدى تدهوره وضلالته ، والسبب في ذلك هو أن الذات الملوكية لشاعرنا اعتادت بالفطرة أن تكون عنصرا إيجابيا في المجتمع الذي تحياه ، واعتادت كذلك بالفطرة أيضا أن تكون (ذاتا ملوكية ، وعربية محضة ، ومفكرة واعية ) . كيف لا وهو القائل في هذه القصيدة : ( )
وَخَلَّةٍ في جَليسٍ أَتَّقيهِ بِها كَيما يُرى أَنَّنا مِثلانِ في الوَهَنِ
وَكِلمَةٍ في طَريقٍ خِفتُ أَعرِبُها فَيُهتَدى لي فَلَم أَقدِر عَلى اللَحنِ
يعتبر المتنبي في هذه المرحلة الوجودية التي عاشها في أرجاء الدولة الإخشيدية من الشعراء أصحاب البصمة الخالدة ، حيث قال شعرا " يقرأ في كل زمان ، ويصلح لكل مكان ، شعرا انكشفت فيه شخصية جديدة ، لم تدرك من ذي قبل ، فكان المتنبي أبرع الساخرين وأمهرهم " ( )
المصادر والمراجع
• سمير استيتية : الأصوات اللغوية ، رؤية عضوية ونطقية وفيزيائية ، دار وائل ، عمان ، ط1 ، 2003 م .
• عبد الرحمن البرقوقي : شرح ديوان المتنبي ، دار الكتب العلمية ، لبنان ،ج4 ، ط2 ، 2007 م .
• مارون عبود : الرؤوس ، دار المكشوف ، ط1 ، 1946 م .
• يوسف الحناشي : الرفض ومعانيه في شعر المتنبي ، الدار العربية للكتاب ، تونس ، 1984م .