مفاهيم ومصطلحات تفرعت عنها حزمة مقترحات ومقاربات في النقد الأدبي والفني خاصة, والفلسفي, وشَمتْ أوساط الثقافة العالمية, والعربية لاحقا . فكونت ما يشبه الجسر والدليل للوصول إلى المعاني والدلالات الخبيئة والمتعددة في النصوص المقروءة في ضوء معاييرها ومقترحاتها. أو الى اللامعنى في متاهته اللغوية الماكرة, إلى ذلك السديم الذي يضيع فيه الدليل والمعنى, ويتم التضحية بالتاريخ والوجود, على مشرحة اللغة وسيلانها الجارف كما عند (دريدا) على سبيل المثال.
حزمة مفاهيم ومقترحات استقرت فترة من الزمن كمسلمات, تتعرض للاهتزاز والنقد والاستقصاء, في تجليها العربي المرتبك, كما (بالطبع) في أصولها ومنابعها.
هذان المقالان لشربل داغر وخميسي بو غرارة, في ترجمته لهانس بارتنس, يؤشران,إلى قراءة وأفق من هذا القبيل.
نتمنى مستقبلا في مجلة نزوى, أن نواصل عبر أصدقائنا الكتاب والشعراء والباحثين, تلك الأسئلة النقدية وتعميقها حول الكثير من تلك المفاهيم والتصورات التي تعجّ بها ساحة الثقافة العربيّة, رغم تجاوز الكثير منها في سياقاتها الأصلية, فكأنما هذه الثقافة عليها أن تجتر ماضي الآخر مقابل اجترار ماضيها السلفي, على نحو عقائدي جامد, لا يخضع لحركة الفكر والحياة والتاريخ في تحولاتها وانكساراتها اللامحدودة. نطمح إلى توسيع دائرة الأسئلة النقدية وتجذيرها وفق المعطى الخاص لسياقات الثقافة العربية, في تفنيد تلك المفاهيم التي زرُعت فيها بشبه العملية القسرية على تربة تختلف في خصائصها وتاريخها وتطورها, وهو ما يتنافى مع التلاقح الفكري الخلا قّبين الثقافات والشعوب.
فاستثمار انجازات, الآخر, المعرفيّة إذا لم تخضع لمثل هذه السياقات الخاصة والنقدية, تتحول عن وجهتها الخصبة الى وبال وعشوائية في تكرارها <<الحداثي>> و<<البنيوي>> و... الخ , الأجوف..
هذا ما حاولناه ونحاوله في مجلة نزوى التي هي ملك كتابها وقرائها بالدرجة الأولى ومنهم تستمّد شرعيّة وجودها الذي يغتني بآرائهم التعددية وأفكارهم وخيالهم باستمرار.
مثل مقالات ودراسات أخرى تتوزع على صفحات هذا العدد الذي يشهد انصرام عام وبداية عام جديد; وأسوة بالأعداد السابقة التي تشكل أفق المجلة ومسارها الطامح الى الاختلاف في ظل المحن العاتية للزمن العربي الراهن.
نزوى
استوقفني أثناء اقامتي في فرنسا, قبل العام 1994, تباعد الاهتهام بكتابات جاك ديريدا بين فرنسا وألمانيا وغيرها من بلدان أوروبية, من جهة, والولايات المتحدة الامريكية, من جهة ثانية. وهو التباعد عينه الذي استوقفني في السنوات نفسها, وبعدها, إثر عودتي الى لبنان, بين فرنسا وألمانيا وغيرها من بلدان أوروبية من جهة, والبلدان العربية من جهة ثانية. ولقد ذهبت مذاهب شتى في تفسير أسباب هذا التباعد, منها كسوف الايديولوجيات وما استلزمه من خفوت للتفسير التعليمي على أنواعه, وما تبعه من انصرام للمعنى أيا كان خطابه. ولقد أضفت مؤخرا الى هذه التفسيرات قولا فطنا ليورغان هابرماس, في كتابه الذائع الصيت <<الخطاب الفلسفي للحداثة>>, لاحظ فيه ارتباط ذيوع المنظور الديريدي بجامعات أمريكية لها عهد سابق وأكيد بالنقد الأدبي(1), من دون أن يكمل هابرماس هذه الملاحظة بغيرها, وهي ان المنظور الديريدي لا يحظى بالعناية نفسها في البيئات الثقافية ذات الشاغل الفلسفي الراسخ. وهو ما يدعوني الى طرح السؤال الذي بات لازما بالضرورة: أت فسر العناية العربية القوية بديريدا استعادة نشطة للنقد الأدبي الذي كانت قد خفتت أسبابه عربيا, وتأكيدا جديدا لضعف الشاعل الفلسفي فيها?
ان انعقاد هذه المعاينة العجولة قد لا يفي بالجواب عربيا, إذا انتبهنا الى ان المنشغلين بمنظور ديريدا في البيئات العربية لا يقتصرون على نقاد أو أصوات جديدة وحسب,وإنما أصاب أيضا من كانت لهم مواقع معلنة في المنظور اللساني البنيوي, مثل الدارس كمال أبوديب(2): أو عبدالله الغذامي, في وجهة اخرى, إذ جعل في أحد كتبه الاخيرة من <<النقد الثقافي>>, <<بديلا>> (3), فما يجري واقعا ?
الشعر , أو العوض عن الوجود
هذا ما أطلب التحقق منه في هذه المطالعة,في عدد من الوقفات, دارسا اخفاقات او انسدادات اللسانية البنيوية, من جهة, والعودة وان الخفرة للتذوق الأدبي, على ما اقول, من جهة ثانية. ولا يستوقفني في هذه المراجعة أمر ملاحظة التغيرات في الاصطفاف النقدي العربي, إذ قد يعتني بها من يبغي رسم مشهد سوسيولوجي وموقعي للمنظورات النقدية وللنقاد في مساعي التصدر والافحام بين أقرانهم العرب ومن دون غيرهم(4). أما من يبغي التحقق من أحوال نقدية وفلسفية وغيرها في النص, فان عليه أن يسلك سبيلا آخر, لا يكتفي فيه بمعالجة ظاهر ما تقوله النصوص النقدية, وإنما عليه أن ينسبها الى منتجيها وسياقاتها, وان يتحقق منها, حيث هي, لا في اشباهها التطبيقية المبتسرة لها(5).
ذلك ان النقد يتردد أمام بوابات عديدة, أمام تشابك مناهج وآليات, من دون غلبة ظاهرة لهذا المنظور او ذاك, وتبدو لحظة النقد في ذلك <<رخوة>>, اذا جاز القول: فهذا ناقد يتابع طريقته البنيوية في استقراء النص الأدبي ولكن من دون استقواء معلن أو مضمر بخلاف ما كانت عليه البنيوية في سنواتها <<الظافرة>> السابقة; وذاك يعود الى طريقة تقليدية ولكن من دون حذر أو رادع هذه المرة; وهذا ثالث يدعو الى <<نقد ثقافي>> ولكن بحلة تقليدية, وهذا آخر يمضي في <<تأويلية>> لاتعدو كونها عودة رتيبة لطرق التفسير الأدبي القديمة.. ويبدو المشهد تصالحيا في كيفية ما, او لا يقوى فيه نقد على ادعاء غلبة, عدا أن النقاد يظهرون على اختلاف مواقعهم ومواقفهم حذرين, مستعدين للتراجع, إذا جاز القول, أمام أية تحولات جديدة او محتملة, فكيف تغيرت الأحوال? وما هذا الوهن البادي?
تغيرات واصطفافات وسمات تجمع في بعضها على الخروج أو الانفكاك من سلطة النص الآمرة والآسرة في آن, والتعويل على ما حوله من محيط وبيئة ومرجعيات وانسقة عابرة له, وقد يكون في الخروج هذا ما يدل على نواقص او تشوهات البنيوية, او على أشكال تعسفها الأكيد, ما أحسبه اعادة توازن لازمة ومطلوبة في الدرس النقدي. ذلك أن النقد البنيوي في وجوهه الغالبة أحال النص الى وحدات ذرية ومتعالقة ولكن في هيئات مجوفة, إن جاز القول: مجوفة من الانسان, من التاريخ, ومن جملة محددات تقع في أفق المعنى. هذه العودة محمودة, إذن, الى محيط النص إذ تقيمه في نطاقه بعد طول ابتعاد, وتعيده الى ما يدخل في تكوينه بالضرورة. غير ان اعادة التوازن تتم في أحوال شديدة التعثر والتشظي والتردد, ما ينتج حالا من الرخاوة او بالاحرى من القوة الواهنة.
وإذا كان <<النقد الثقافي>> يحظى في هذه الأحوال بحال عافية اكثر من غيره, فهذا لا يعود الى جدته- إذ أنه معروف في بلاد الغرب منذ عدة عقود- وانما تتأتى هذه العافية من لحظة الارتباك ذات الاساس البنيوي. ذلك أن هذا النقد, <<الجديد>> في ترويج البعض له, يبقى عليل المنهج إذا ما قيس بصرامة المنهج البنيوي, والسؤال المقلق يكون في هذه الحالة: ألا نكون في ذلك نعود, من حيث ندري او لا ندري, الى النقد التقليدي في نهاية المطاف, والى تحكم الناقد الاستنسابي بالنص, الى تذوقه الجمالي ليس إلا, أشبه بالمتنزه الخفيف في حديقة النص, من دون حسيب أو رقيب في اقامة البرهان على ما يقوله?
العولمة أو النص, أو التفكيكية, او النقد الثقافي, أو البنيوية, أو التأويلية, معطيات لا مقدسات; مقترحات بالتالي لا حقائق نهائية! مواد للتداول لا ذهب الحقيقة الخالص. إلا أننا لا نزال نتلقى ونستهلك, بالمعنى التالف للكلمة. نفضل الوقوف تحت الشعارات بدل التفكير بها, ونختار التحزب بدل التحقق من أسباب الانضواء وجدواه. ذلك أننا نستهلك الحداثة, أي بضاعاتها, من دون أن نساهم في انتاجها, ولا في التفكير بها في أدنى الاحوال: نكتفي وحسب بتصريفها, بل بالتحزب بها, حيث ان فرسان النقد يعاملون المنظورات- ومنها البنيوية وغيرها أو ما بعدها- مثل أسلحة للاحتراب الداخلي تعينهم في التصدر, في مجتمعاتهم وبين أقرانهم.
هذا التشظي, هذا التعثر في المشهد النقدي المحلي لا يعدو كونه حاصلا لما يحدث خارجه, في المشهد النقدي الغربي, ولما يحدث فيه من تغيرات واصطفافات أصابت البنيوية خصوصا , وخففت من غلوائها أو من ادعاءاتها الآمرة والناهية. وتظهر العودة, على سبيل المثال, الى <<القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللغة>> (6), في طبعته المجددة (1995), بعد السابقة (1972) تغيرات لافتة لا تقتصر على اجراء تعديلات في تعريف هذا اللفظ المفهومي أو ذاك, او في زيادة بعض المفاهيم على القاموس, وإنما تتعداه لتشمل مبنى البنيوية نفسها. يقول المشرفان على الطبعة الثانية, في تقديمهما الجديد للقاموس, ما حرفيته: <<ان عددا من المواقف التي بدت, قبل عشرين سنة, مثل حقائق لا يرقاها الشك, لا تبدو اليوم (في الدرس اللساني) سوى محطات تاريخية>> (م.ن,ص7). وهو ما يتبعانه بهذا التأكيد الآخر: <<لم تعد اللسانية العلم الموجه لغيرها, مثلما جرى تقديمها; واذا كانت الدراسات الأدبية لا تزال تتوجه صوب اللسانية, فذلك لكونها وسيلة درس, ليس إلا, لا نموذجا>> (الصفحة نفسها).
باتت اللسانية البنيوية جزءا من تاريخ نقد النص, فاستكان الدرس النقدي الى نوع من <<التواضع>> الذي لا يكشف طبيعة وهنه الفعلي, وتفلت هذا الدرس النقدي من تشدد سابق, وتحلل من اشتراطات كانت محل التحقق الأكيد من تعثره او توفقه. وانساق هذا الدرس, في اكثر من منظور,الى اجرائية رتيبة وخافتة الادعاء والتطلع في بعضها, أو الى استسهال القراءة النقدية بما يقيم الاستنساب والتذوق سبيلا للنظر.
اكتفي في هذا السياق بطرح وجه أو مثل دال على هذه الحال <<التثاقفية>> في النقد العربي المعاصر, وهو التعويل على الشعر كعينة للدرس النقدي. وهو تعويل أتحقق من أحواله عند الديريديين و<<الثقافيين>> و<<التأويليين>> وغيرهم من النقاد العرب, من دون أن تحظى أنواع النصوص والخطابات العربية الأخرى بكبير درس, إلا فيما ندر; وإذا ما وجدت دراسات في الرواية على سبيل المثال, فإنها تبقى محدودة التطلع المعرفي إزاء دراسات نقدية في الشعر تطلب علاقة مستحكمة بالفلسفة, بعالي الثقافة وبكثيف الوجود أيضا . وهو مظهر آخر من أحوال <<التثاقف>> المتفاقم اذا جاز القول, الذي ي سرع حركة تكيفه طلبا باللحاق, من دون أن يكون لتغيراته أسباب انتقال مجدية ومقنعة واقعة في خطابه نفسه, بل في مشهد آخر وفوق مسرح مختلف, بدليل ان بعض النقاد ينتقلون وحسب من منظور الى آخر, من دون أن يربطوا أو يفسروا في النقلة الثانية أسباب الامتناع والتراجع عن المنظور السابق. ولكن ماذا عن الشعر والنقد, بل عن الشعر والفلسفة أساسا ?
إن مراجعة المواد التي تدرسها الفلسفة في الخطاب الغربي تظهر, ولا سيما منذ القرن التاسع عشر, مع عدد من الفلاسفة الألمان تحديدا, ميلا صريحا الى التعامل مع النص الشعري, بل الى النظر الى الشعر, منذ هيجل على الأقل, على انه <<خلاصة الفنون الكثيفة>>. هذا التعيين للنص الشعري انتقل أو حكم بدوره الدرس اللساني الحديث في القرن العشرين, إذ أن دارسيه تعاملوا مع القصيدة على انها خلاصة اللغة وكثافتها النوعية الدالة. ولقد بلغ هذا التعويل على الشعر, ولا سيما مع أ.ج جريماس, حدا عاليا إذ جعل من درس الشعر, ومن درس <<الشعرية>> نفسها نموذجا لغيرها من الأجناس الأدبية والفنية عموما (7). وهو ما عرفناه في <<شعرية الرواية>>, و<<شعرية المسرح>>, و<<شعرية السينما>> وغيرها.
وما يثير النقاش في هذا المسعى هو أن الشعر- لو اعتمدت على أبسط تعريفاته- يمثل مفارقة مبتعدة مع جاري اللغة, مع استعمالها, ولا يشكل بأي حال خروجا عليها, فيما جرى التعامل مع الشعر, وفق هذا المنظور, على انه شيء قد يتعدى التاريخ نفسه; وهو ما أتناوله في كتابات جاك ديريدا: أعلى ديريدا من شأن <<الكتابة>> بدلا من الشعر, على أن ما طلب- بعيدا عن مسألة الاجناس الكتابية- لا يبتعد عن الشعر بل يشبهه, إذ طلب التوقف أمام نصوص بعينها, توفرعالي التجربة باللغة, كما في كتابة جان جينيه وغيره. لم يطلب ديريدا الشعر تحديدا , ولا غيره كنوع, بل طلب شيئا نوعيا في انتاج اللغة, حدده في <<الكتابة>> بل في نوع من الاشتغال فيها يقربها عمليا من تجريب الشعر الأقصى, بعد أن حدد للكتابة هذه سمتين دالتين عليها, وأن في أشكال شديدة الخفر: الذاتية واللهو, بل جعل لهذه الكتابة موعدا تاريخيا, في القرن السابع عشر, ما فتح النقاش على أسئلة عديدة: ماذا عما سبق هذا الموعد المضروب من كتابات? وماذا عن غيرها من كتابات بعد هذا الموعد? هل اجتمعت فيها أم في بعضها وحسب قوة <<الاخلاف>> أو <<الإرجاء>> الذائعة الصيت? وماذا عن الفروق التي في الإخلاف: كيف يكون معناها مرجئا ? أهو خاف على كاتبه إذ يكتبه, لا على سواه كما في التحليل النفسي للنص الشعري, ولا على ديريدا بأية حال? وإذا كانت هذه العملية في حاصلها لا تفضي الى ضبط معنى ما, فما يعني التحويل والارجاء في هذه الأحوال? وماذا عن الفروق نفسها: أهي معينة في قاموسية اللغة واستعمالاتها أم في تجريباتها غير المسبوقة? وإذا كانت مسبوقة ألا يعني أنها قابلة لاستقبال تأويلي لها? وإن كانت غير مسبوقة, فإما أن تكون ممتنعة عن أي تأويل, في خلاء <<اللوغوس>>, الذي يكون افتراضا عدميا في هذه الحال, أو قابلة لتأويل ما, ولا يقع بالتالي خارج <<اللوغوس>>?(8)
قد يجد البعض في العدمية الفلسفية داعيا لمثل هذا النظر (أي اسقاط أي معنى) , الا أنني أجده في شاغل آخر, في ابتداء القول الفلسفي من الفيلسوف, من قدرته على <<إفحام>> الآخرين, وفي جعله المقال الفلسفي <<تحفة فنية>> (مثلما قال ديريدا عن عمله في درس كتاب كنط: <<نقد ملكة التذوق>> ). فما يعتني به ديريدا يضرب عرض الحائط بأصول كتابة المقال الفلسفي,بما يحتاجه من اسلوب عرض وتقشف وإبانة واعتناء بالموضوعات, منصرفا الى نصب ذاته, ملكته التفكيرية - الكتابية, مثل خشبة مسرحية تعنى بجعل المقال خشبة ذات أصوات لا تعدو كونها تنويعا على مقام الأنا (أطلق ديريدا على جزء من مقالته حول فان كوخ عند نشرها الأول تسمية <<الأصوات المتعددة>> ). وتخدم ملكت ه توجيه قوله وفق مسارب متعرجة ومتقاربة ومتعارضة أحيانا . بما يفيد وجهة المعنى الذي يقصده ويطلبه; ولا يتوانى ديريدا, إذا اتخذت هذه الوجهة سلوكا متعرجا , عن التذكير بأنه عائد إليها بعد وقت. ذلك أن ديريدا يعنى بايجاد توافقات وتباينات وتناغمات بين أمور ناشئة في المقال متولدة من حركة النص, من ألفاظه, من معانيه, لا من لزوم التوسع الفلسفي في عرض مسألة المقال الفلسفية. وهو <<يمرن>> في ذلك <<عضلاته>>, كما نقول في عبارة شعبية, وأقصد بذلك ابراز قدراته على الكتابة الصرف, على التفنن بطاقات اللغة وامكاناتها, مثل أي كاتب فنان, لا مثل أي فيلسوف (واجدا , على سبيل المثال, علاقة بين وجود <<عروة>> في الحذاء (oeillet) ووجود لوحات لفان كوخ موسومة ب-<<عروة>> الورد: وهي لقيا الكاتب في اللغة, المتفكه فيها, واقعا), وهو ما نعانيه في ظهورات كثيرة لكتابته, مثل استعمال أشكال في التوزيع الطباعي للنص لا تبتعد عما سعى إليه شعراء فرنسيون وايطاليون وغيرهم, منذ نهاية القرن التاسع عشر على الاقل. وهو ما يجد مثله الأقوى في <<لعبه>> الشديد على التقارب الدلالي بين لفظ <<تصوير>> في الفرنسية (peinture), ولفظ <<مقاسات>> الحذاء في الفرنسية, أي (pointure),وهما لفظان مختلفان في حرف واحد: وفق هذا <<اللعب>> عينه أسميت في دراسة سابقة لي مسعاه الفلسفي بأنه <<يحتذي>> الفن (وفق معاني <<حذا>> العربية كلها). وأزيد على ذلك بالقول: إذا كان منظور ديريدا في <<الإخلاف>> يفتقر الى أسانيد كتابية له في التاريخ الأدبي والفلسفي, فإنه يقدم في كتابته تمثيلا لما يريده من قوة الاخلاف هذه.
هكذا يمكن القول بأن ديريدا يعمل لصالح ابتداء كتابي ينشغل بالتعبير على حساب التفكير. وهو ابتداء يجد مرتجاه أو بلوغه في ايصال قدرة الكاتب على الظهور, في بروزها, بل في سطوعها الأشد, على أقرانه, على النصوص, من دون أن يكون قد خلف طريقة, ولا بناء معللا معروضا , بفعل كتابته على غيره للاستكمال والمتابعة: هو <<يفحمهم>> في المناقشة مثل سفسطائي قديم.
هكذا جرى تجريد النص من الآلهة, من الماوراء, من الهاهنا, من الكاتب, من أنظمة بناء النص, وتمت اقامته في البهمة: اسكتوا النص عن الابلاغ, وقطعوا فيه نقاط التدليل, وبات عرضة لأي تلاعب استنسابي في القراءة, بما يتيح التعرف علي الدارس واقعا , لا على ما يدرسه, أي النص نفسه.
وإذا كانت اللسانية البنيوية قد أحاطت نطاقها بنوع من سياج مفهومي وتطبيقي, لاظهار جدتها الحاسمة, فإن هذا التحديد لها لا يغيب عن ناظري كون هذا البناء تقيد بغيره, وتشبه به: هذا يصح في التعويل على الشعر في المنظور الفلسفي, وهذا يصح كما يفسر التأويلية المتزايدة, أو الهرمونوطيقا كما يقول البعض: الدارس اللساني غفل عن العالم, أوغض النظر عنه, واكتفى منه بالنص, جاعلا منه <<العوض عن الوجود>>, كما أسميه, وهو ما يمكن التحقق منه في هذه الدراسات حيث انها باتت تكتفي بما يقوم عليه النص في لفظه, في مبنى علاقاته, على أن كل ما يعنيه موجود فيه, وهو موقف المفسر الديني القديم, الذي كان يكتفي بالنص الديني بما يقوله لكي يستخرج منه الحقيقة: غابت في ذلك حقيقة الواحد, إذا جاز القول, واكتفى الدارس اللساني بحقيقة النص. وهو ما ادى الى تأويلية مختلفة, غير إلهامية إذا جاز القول, جعلت كلود-ليفي شتراوس ورومان جاكوبسون في دراسة شهيرة لهما عن <<قطط>> بودلير, يتوصلان الى احصاء نوع القوافي في القصيدة, إلى تعالقاتها, على أنه ما يمكن أن يخلص إليه الدارس منها: باتت هذه المادية تبر الوجود, وباتت كفايته أيضا .
هذا ما جعل النص معطى تماميا , إذا جاز القول, مثل فعل كامل في خلوصه الى هيئته, وشكله, وما يخفى فيه من أسرار تكوينه وانتظامه. وهو ما أبعد درس النص عن انتاجيته الانسانية, عن كونه فعلا يقوم على علميات انتاجية, تبنيه وتغيره, وتحوله, وتجعله عرضة لتاريخية ما, لصنع ما, وهو ما أريد التدليل عليه في النظر الى نص مبعد عن النظر اللساني البنيوي, وهو النص المترجم, فماذا عنه?
الترجمة دالا على النص
اشتغلت اللسانية البنيوية على النص الأدبي عموما, والشعري خصوصا , من دون غيره, فيما لم يصرف أ.ج. جريماس <<مع عدد من النقاد) سوى كتاب وحيد للنصوص الاجتماعية (نصوص التاريخ والتاريخ الفني...), من دون غيرها من الانتاجات اللغوية (9): انتاج لغوي واحد بقي خارج الدرس, وهو النص المترجم, لماذا?
فالترجمة لا تحظى بمقامها بين النصوص, وبالتالي بين المقاربات البنيوية, أيا كانت. وفي ذلك ما يدل, لا على الترجمة نفسها, بل على البنيوية, على ما تخفيه في عملياتها من تقويمات مغلفة بعمليات الوصف والدرس. لا تأبه اللسانية البنيوية بالنص المترجم: نص مهمش, مبعد تماما من نطاق درسها, فيما يبقى النص المترجم بذلك مجالا لدراسات تقنية الطابع, لا تعدو كونها تتحقق من مدى أمانة أو حسن وصول النص الأول الى لغته المستقبلة. وهو ما تقوله العبارة الايطالية الشهيرة: <<الترجمة خيانة>>, والتي أرد عليها بالقول: ولما لا?!
هذا ما تحقق منه ناقد ايطالي قبل عدة عقود في مجال الاستنكار, وهذا ما يردده بعده كثيرون, ومنهم نقادنا, غير آبهين بمعاينة المسألة نفسها, ولا ب,<<تقليبها>> كما تقول العربية. هذا ما أنعم النظر فيه منذ سنوات, بعد أن طلبت, ذات يوم, من طلابي في الجامعة نقل جزء من قصة قصيرة في الفرنسية الى العربية, من دون أن يعرفوا يومها أن الجزء مستل من قصة قصيرة موضوعة بالعربية أساسا , وهي لغسان كنفاني. أمعنت النظر في ترجماتهم من دون أن أعود الى النص العربي. ثم طاب لي بعدها اجراء التمرين التالي: ماذا لو أخضع نص كنفاني في صيغته العربية من جديد للترجمة, وصوب الفرنسية هذه المرة? ماذا سيتأتى لي من مقارنة النصوص بعضها ببعض? ألن أكون أمام <<بابل>> اللغات فعلا ? من دون شك. ألن افتقد بين نصوص الطلبة والمترجم الفرنسي, وهي متعددة ومختلفة, نص كنفاني في نهاية المطاف? بالطبع. ماذا لو وقعت مدونات الترجمة هذه كلها بين أيدي الناقد الايطالي, صاحبنا? أما كان سيعيد ويكرر قوله الشهير: <<الترجمة خيانة>>?
لن أغضب صاحبنا, لكنني أحيله الى ما أقع عليه في قراءاتي المتعددة, في دوريات مختلفة: تشير المقالات هذه الى أخطاء في الترجمة ارتكبها هذا المترجم او ذاك, بل بت أرى أكثر من ترجمة واحدة لكتاب أجنبي. وهي ظواهر متعددة تفيد أننا ننظر إلى الترجمة نظرة تمامية, إذا جاز القول, فما تعني <<التمامية>> هذه?
تعامل الناقد الايطالي, والكثيرون من مترجمينا, مع الترجمة من جهة النص الأول, مشترطين حصول التمام النصي في عملية النقل, غير طالبين من النص الثاني, النص المترجم, سوى الامانة لما يتم فعله ونقله. ولكنني أتساءل: كيف يحدث أن المترجمين يقعون في أخطاء. على الرغم من أمانتهم الخلقية وغيرها من المواصفات المطلوبة? كيف يحدث أن مترجما متمرسا يقع في أخطاء ينتبه إليها من هو أقل منه باعا ? وكيف يحدث أننا لا نتوصل الى نص مترجم واحد, إن زدنا عدد مترجمي النص نفسه? كيف يحدث أن الترجمات تختلف في النص الواحد عينه?
يمكنني أن أزيد من عدد الاسئلة, ومن حراجتها, وهي كلها تفيد عن الأمر عينه, وهو أن شيئا أو أشياء تحصل بين النص وترجمته, ولا تجيب عنها نظريات الترجمة التي تكتفي بالحديث عن الأمانة وغيرها. وهذا الشيء, أو الأشياء, هي ما أجمعه تحت هذا المفهوم: <<التمامية>>.
ذلك أننا ننظر الى الترجمة نظرة مستقاة من اعتقاد قديم, قوامه أن كل ما ينتجه البشر في الكتابة لا يعود كونه افراغا أو تثبيتا لشيء سابق على فعل الكتابة, ولا تؤثر فيه الكتابة نفسها عند حصولها. كما لو أن الكتابة فعل غير بشري, جاهز قبل حلوله في مادية لفظية. وهو المنظور عينه الذي نرى فيه الى الترجمة, إذ نطلب منها أن تنقل إلينا تمام ما سبق له أن تعين في كتاب مثبت. وهو ما يجعل الترجمة خيانة مستقبحة, إذ انها تحيد دائما بالنص المترجم عن اصله, عن صراطه, عن تمامه الأكيد.
نقول هذا في صورة ضمنية, كما لو أننا نقوى فعلا على انجاز التمامية هذه. ذلك أننا نتناسى, أو لا نلتفت الى الترجمة من جهة ما يستقبلها, من جهة النص الثاني, من جهة اللغة المستقبلة او المترجم نفسه. فكيف نقول ان اللغة تقع في <<الفروق>> مثلما قال أبوهلال العسكري منذ عنوان أحد كتبه الشهيرة, ونسى ذلك عند إجراء الترجمة, أو عند التفكير في مسائلها? كيف لا نلتفت الى ان اللغة تقوم, من جهة, على تمييز الدقائق واللطائف في المفردات وعلى تأكيدها, ونطلب من اللغة, من جهة ثانية, تأدية هذه الفروق كلها من لغة الى أخرى?
يمكنني أن أعدد الاسئلة, وهي كلها تفيد أن اللغة تستقبل بما وسعت مبانيها ومفرداتها, لا في صورة مطلقة, بل وفق كيفيات أقل أو أغنى بين لغة وأخرى, تبعا لممكنات الحقول الدلالية. وهذا ما يمكن قوله عن المترجم بدوره, إذ أنه يستقبل, هو أيضا, بما وسعت قدراته وامكاناته. فلا يفيد- والحال هذه- أن نؤنب المترجمين مثل صاحبنا الايطالي, وإن كان المطلوب في الترجمة الأمانة, لا النقل المشوه طبعا . بل ما يفيد هو أن ننظر الى الترجمة على انها فعل تأليفي, فعل <<خياني>> بهذا المعنى, وإن غير مقصود, فما أقصد بذلك?
أريد من ذلك القول ان الترجمة ممارسة كتابية, لا تقنية واجرائية وحسب; ولها أن تتوافر فيها شروط اللغة المستقبلة, لا التقيد وحسبما تمليه عليها معطيات النص الأول ومواصفاته. ويعني هذا في حسابي أن الترجمة الموفقة والجميلة هي التي تنسيني انها منقولة عن غيرها, فتبدو لناظري كما لو انها موضوعة أساسا في اللغة التي تستقبلها. كما لو انها من <<أهل البيت>>, لا دخيلة عليه, شرعية وفق هذا المعنى وان دخلت خلسة او في هيئة خيانية.
ذلك أن الترجمة, بعيدا عن دورها التوسطي في التعارف والتعارف بين البشر والثقافات واللغات, تجريب مكشوف لما هو عليه النص واقعا , ولما هي عليه الكتابة أساسا , في حقيقتها المادية لا المثالية, في مجرى علمياتها, لا في تصورات مسبقة ومسقطة عليها. فالترجمة ترينا, طالما انها تقوم على امكان حصول مدونات مختلفة انطلاقا من نص واحد, أنها مثل أي فعل كتابي آخر تقوم على التجريب والمحاولة. كما ترينا الترجمة انها تنتهي الى توصلات كتابية, إلى حلول نهائية تعتمدها وتقرها وتثبتها, شبيهة بما يعرفه الكاتب في عمليات الوضع نفسها, إذ يجرب ويقر ويثبت ما يعده لاحقا من كلامه <<الخالد>>. فكيف لا نعطي الترجمة المكانة التي تفوز بها الكتابة أساسا ?
لا أقصد من مجموع هذه الملاحظات أن أقلب الترجمة من نقل الى تأليف, ولا أن أبيح بكلامي هذا عمليات التشويه التي قد تقع فيها علميات الترجمة عند من لا يحسنها ويمسك بأسبابها كلها. بل أريد من ذلك أن أنظر الى النص المترجم في دائرة النصوص, لا على هامشها, وان أخفف من مفاعيل النظر التمامي الى مسائل النص والتأليف في ثقافتنا, ذلك أنني أميل الى الاعتقاد بأن ما نسميه <<النص>> لا يعدو كونه <<حاصلا نصيا>> ليس إلا, مثله مثل أي نص مترجم, وتعتورهما بالتالي مصاعب التكوين, وإن تخفى في حالة أحدهما (أي النص الموضوع), وتبدو جلية في الثاني منهما (أي النص المترجم).
التأويل ف-ي أفق المعنى
والغريب في إهمال اللسانية البنيوية للنص المترجم كونها لم تعبأ بنص قابل للدرس, هو بدوره, وفق أساس الجملة التي جعلته أساسا لدرسها, فالنص المترجم قابل للتقسيم, بل هو مسبوق التقسيم, إذ يتقيد بتوزيع الجمل, ما يسهل سلفا التعرف عليه والتعريف به في آن.
وقد يكون مبعث الإهمال ناتجا عن أسباب أخرى, منها, بل أولها, أن اللسانية درست اشتغال اللغة في اللغة أكثر مما درست التحققات اللغوية, ولا سيما النصوص منها, إلا أن الاشتغال بالتركيب اللغوي جعل الدرس يقتصر على عمليات مثالية, مجردة, مخلاة من أية حمولة إنسانية أو تاريخية وغيرها. فبدأ النص في أحسن أحواله نصا وظائفيا , مقتصرا على عدته التشغيلية, والقابلة للمعاينة, بل للحساب العياني, إذا جاز القول, وهي الجملة. وانقادت المقاربة البنيوية بذلك الى التعامل مع الانتاج اللغوي, في هيئاته النحوية, والتركيبية, لا التواصلية والتخاطبية بأية حال.
باتت اللغة في ذلك, شيئا ماديا , جسما محسوسا , غير بعيدة في ذلك عما انتهت اليه الدراسات الفلسفية التي انتقلت من درس الوجود الى درس عينات منه, ومن درس العينات نفسها الى درس مواصفات ماثلة فيه: هكذا ينتهي مارتن هايدجر في دراسة شهيرة له عن <<أصل العمل الفني>> (10). إلى القول بأن <<حقيقة>> الحذاء لا تمثل في الحذاء المعروف في اقدامنا, بل في هيئته, في مثوله فوق لوحة, هي لوحة فان كوخ الشهيرة لحذائه, هكذا باتت اللوحة, كما قلت, <<العوض عن الوجود>>, أي ما يكتفي به عنه, وما يستبدل به على انه الأفضل تعبيرا وتدليلا عليه.(11)
استوقفتني هذه المقارنة, بل هذه الفكرة, في غير دراسة, وهي أن الدارس انتهى في عدد من المناهج الى الاكتفاء بما يمثل فوق مكتبه, مثل اللوحة او صورتها, أو النص نفسه, كما لو انه دارس في مختبر, في ما يعرض له تحت المجهر, غافلا عن كون النص أو اللوحة مسبوقين ومستلحقين بما يقومان عليه وبما يجعلهما مادة تواصل وتخاطب بين المنتجين والمتلقين.
ولقد وجدت في كتاب ميشال فوكو, <<الكلمات والأشياء>>, تمثيلا جديدا لهذه الفكرة, إذ جعل فوكو من <<الأدب>>, ابتداء من سرفنتس, عملا <<انبثاقيا>>, متولدا من حركيته نفسها, مقطوع الصلة بخارجه(12), ولقد وجدت في لعبة <<الجثة الشهية>> (le cadaver exquis) عند السورياليين خير نقد لهذه الفكرة. فما حكاية الجثة الحية, واقعا ?
فقد عرف عن السورياليين الشعراء تعويلهم, في جملة ألعاب فضائحية, على ممارسة أطلقوا عليها تسمية <<الجثة الشهية>>. وتقوم على كتابة أحدهم جملة أو اقل أو أكثر منها فوق ورقة, لا يلبث أن يطويها ويدفعها الى زميله, الذي يكتب بدوره عليها ما يشاء, وهكذا دواليك, إلى ان ينتهوا من كتابة سلسلة نصية متتالية. مما يمكن القول عن الناتج, عن الحاصل النصي, كما اسميه?
هناك احتمالان ممكنان: إما أن نقول إن المكتوب لا معنى له, وهو نوع من <<الهباء الجمالي>>. كما يحلو لي تسميته, وإما أن نقول عن المكتوب أنه قابل لتأويل, وهو تأويل لا يمكن أن يقع خارج تلقينا للمعنى, وهو تلق تاريخي لازم بالضرورة. بهذا المعنى أقول إن الابتدائية الانبثاقية التي يتحدث عنها فوكو تفتقر الى ما يسندها, حتى وإن صحت في نشأتها, وهو ما يجعلها موضوعا لتلق , لتأويل, أي نحن; ولا وجود لها إلا بالقدر الذي نستقبلها به, وهو استقبال يلزم النص بخارجه بالضرورة.
وهو ما أدلل عليه كذلك بما يقوله أمبرتو إيكو في مقدمة أحد كتبه (13), إذ يفيد في حكاية أن احدهم كتب رسالة, وأرسلها مع أحد خدمه الى شخص يقع بيته في منطقة مجاورة, فما وجد حاجة الى تدوين اسمه, ولا اسم المرسل اليه, فوق غلاف الرسالة, إلا أن الخادم أسقط الرسالة في الطريق, وتلقفها واحد آخر, ففضها وقرأها فلم يفهم المقصود الأول منها, بل غيره. وهذا ما حدث لمستلم الرسالة الجديد, إذ فقدها من جديد, وتلقاها عابر آخر. وهكذا دواليك, إذ تنتقل الرسالة من قارئ إلى آخر, ولا تنتقل معانيها بل تتبدل بمجرد الانتقال نفسه.
قد يفهم القارئ حكاية إيكو التي انقلها عنه فهما مختلفا عما طلبه إيكو منها: قد يفهمها على انها الدفاع المتين لنظرية التأويل المتمادي, التأويل الذي لا ينقطع, بل يتحول من مغزى إلى آخر, فيما طلب ايكو منها عرضا لنظريته الجديدة في <<حدود التأويل>>. وهي نظرية تعني, في حسابه, وجود كاتب او مرسل أول قصد من الكتابة شيئا بعينه, وعلى المفسر بالتالي أن يتتبع الكتابة, وان يقف على ما طلب الكاتب منها من معان ومغاز.
غير أن كلام إيكو يبقى أسير نظريته التأويلية السابقة, وإن يضع حدودا لها تقيها من التفلت التام من معطيات النص المقيدة له. ذلك أن نقد البنيوية في أشكالها اللسانية, ومنها اسهامات إيكو فيها, كشف عن أن المفسر قد يذهب في تأويل النص مذاهب قد تستحصل من النص ما لا يقوله, أو غير ما يقوله الكاتب. وهو ما نلقاه في بلادنا في نقد بعض اللسانيين ممن يأتون بأمثلة شعرية ركيكة ويسندون إليها كلاما نظريا او نقديا لا يناسبها, فلا يتعالق الشعر مع نقده وفق علاقة لزومية وواجبة بالتالي.
يضع إيكو, إذن, حدودا للشطط. إلا أنه يمتنع عن النظر الى النص, فيه وفي ما يحيط فيه ويمثل فيه في آن, وهو وقوع النص في جدل حواري بينه وبين غيره من النصوص والقيم والتمثلات والتصورات وغيرها. فما يحد واقعا من شطط التأويل ولا نهائيته المجانية في نهاية المطاف, لا يقوم على إيجاد حواجز أو ضوابط في النص, وإنما على الإمساك بأسباب الجدل الحواري التي تنشئ النص, وتعين أفق المعنى, وهو أفق الشراكة الانسانية والتاريخية.
أخلص من هذه المراجعة الى تحقق أساسي, وهو أن اللسانية البنيوية جددت التعامل مع النص ولكن وفق المنطق التمامي, الديني الأساس, وأخرجته مرة أخرى من دائرة الصنع الإنساني: لهذا أتحدث عن <<حاصل نصي>>, لا عن <<النص>>. وهو ما يستتبع تحققا آخر, وهو أن الحديث عن حاصل نصي يفيد ان النص واقع فيما يسبقه بالضرورة, وفي ما يصب فيه كذلك, أي تداول المعنى التاريخي وأفقه, أي الشراكة الانسانية.
عرفت اللسانية البنيوية إخفاقات, أو لم تف بواجب تطلعاتها المنهجية; كما عرفت أيضا انسدادات فبلغت <<طرقا غير نافذة>>, أو أفضت الى حصائل شكلية ومجوفة غير ذات جدوى. كما عرفت المنظورات النقدية الأخرى, في تحاور مع البنيوية وفي تباين معها, سبلا جديدة للنظر أعادت النص الى نطاق حيوي جديد بما يتيح فحصه ودرسه وتأويله. إلا أن هذا التجديد يكاد أن يطيح بالحصيلة الأهم التي طمحت إليها البنيوية اللساني وبنت عليها مسعاها الدرسي, وهي التعويل على البرهانية شرطا دراسيا واجرائيا للعقلانية كأساس للدرس والجدل. فقد تم الخلط بين الفلسفة والانطباعات الأدبية, بين التفكير والتعبير, بين النقد والإثارة التسويقية وبين التعليل والتذوق. وبات الناقد في عدد من الأحوال أقرب الى لاعب خفة, بل الى ساحر, وبات التأويل لعبة من الكلمات المتقاطعة, الشكلانية, التي يكاد أن يكتفي الدارس فيها بالحمولات اللفظية للمداخل في <<لسان العرب>>, بدل العودة الى منظورات ومناهج قراءات تاريخية ونفسية ويغرها. هكذا ينساق بعض النقد الجديد إلى التخمين, لا إلى الترجيح; إلى التذوق, لا الى التعليل; إلى الظن الحدسي, لا إلى الحجاج البرهاني.(14)
وهذا ما وجب قوله في الاحتياج الى الفلسفة أساسا , وإلى نواتها المكونة لها, أي العقلانية, بعد أن استعاض عنها البعض بالبلاغة(15) أو البهمة الجمالية: فللفلسفة ما يبررها, ونحتاجها وان أضلت سبيلها, أي الاحتياج الدائم إلى قوتها العقلانية. الفلسفة هي ما يجمعنا, ما يقيمنا في حوار, في جدل, فيما بيننا, مع الهاهنا والماوراء. نحتاجها وإن لا تجنبنا الفوضى والجنون وانعدام المعنى والشطط المتمادي. نحتاجها مثل قوة رادعة, إن لم تكن رافعة رجاء. نحتاج إلى العقل في هذه الأزمنة المضطربة, وإن أصابه شطط, لا إلى التخويض العبثي, وإن <<شرقط>>.
الهوامش
1 -la modernite, Jurgen Habermas: le discours philosphique de
(traduit de l`allemand par: Christian Bouchindhomme
et Rainer Rochlitz), Gallimard, Paris, 1988, P225.
2 - كمال أبوديب: <<جماليات التجاور, او تشابك الفضاءات الابداعية>>, دار العلم للملايين, بيورت 7991: يقوم هذا الكتاب في رسمه النقدي على محاكاة منظور ديريدا, وإن لا تخلو من نقد وتباين; كما لاحظ الناقد محمد البنكي بلوغ هذه المحاكاة حدود المشابهة في تسويق لفظين عربيين: <<زئبرية>> و<<زئبقية>> مقابل لفظي ديريدا الشهيرين: (difference), و(difference)) محمد البنكي: <<التفكيك بوصفه زئبرية: قراءة كمال أبوديب>>, مجلة <<أوان>> البحرين, عدد 2/2002, ص143.
3 - عبدالله الغذامي: <<النقد الثقافي: قراءة في الانساق الثقافية العربية>>, المركز الثقافي العربي, بيروت- الدار البيضاء>> 2000.
4 - لأن بعض مساعيهم لا يعدو كونه تكييفا وشرحا ميسرين للمنظورات الغربية في نصوصها وسياقاتها المنتجة, وهو ما ييسر لهم كذلك سهولة الانتقالات والسرعة بين منظور وآخر.
5 - ومن طريف ما يقع عليه الدارس, في هذا المقال أو في هذا البحث, عقد مقارنات بين ديريدا أو غيره وهذا الناقد العربي أو ذاك, في نوع من <<الموازنة>> الشكلية طبعا . لا المعرفية ولا الثقافية بأية حال.
6 - Nouveau dictionnaire Oswald Ducrot et Jean- Marie Schaeffer et autres:
encyclopedique des sciencesdu langage, Seuil, Paris, 1995.
7 - A.J Greimas (direction): Essais de semiotique poetique,
Larousse, Paris, 1972.
8 - بدايات ديريدا- وإن ذات تدشينية ضاجة منذ نهاية الستينيات- لم تلبث أن ارتدت على اعلاناتها: أهم هذه الاعلانات كان حجز اسم علم جديد, <<الغراماتولوجيا>> (grammatologie), او علم الكتابة: وما خفي عن الكثيرين حينها ان ما يعلنه ديريدا يطلب قاعدة <<اللوغوس>>, فيما يقوم خطابه على اسقاطه المعرفي. هذا العلم المحجوز سيبقى شاغرا , ولا يعوض عن ذلك رفع لواء <<التفكيك>>, الموجود في صورة خفرة في كتابات ديريدا الاولى: أسقط الغراماتولوجيا من حسابه الكتابي, واخفى تنكبه عن أي تعليل وبرهنة (يقتضيهما أي علم جدير بهذا الاسم) وراء قول في التفكيك يزيد البهمة بهمة مزيد, وهو ان ما يجريه الاخلاف في النص مدو حتى زيغ البصر و البصيرة.
9 -A.J Greimas (derection): Introduction a L`analyse du
discours en sciences socials, Hachette Universite, Paris, 1979.
10-, in:<<L`origine de l`oeuvre d`art>> - Martin Heidegger:
Chemins qui menent nulle part, (traduit de L`allemand
Par: Wolfang Brokmeier), Paris Gallimard, 1980.
11- يمكن العودة في صورة مزيدة الى: <<فان كوخ بين هيدجر وديريدا: احتذاء الفلسفة للفن>> في : شربل داغر: <<اللوحة العربية بين سياق وأفق>>, المركز العربي للفنون, الشارقة, 2003, صص151- 163.
12 - Michel Foucault: Les mots et les choses, Gallimard,Paris, 1966, P315.
ولقد استوقفني في هذا الامر كون ديريدا, مثل فوكو, اقاما- على الرغم من اختلافات اكيدة بين منظوريهما- للنص المتولد من اشتغاله الداخلي المخصوص, عند فوكو, وللكتابة المتولدة بفعل طاقة الاخلاف فيها, عند ديريدا, أساسا لبناء منظوريهما, ولشغلهما النقدي; وهو اشتغال عو ل في المنظورين على ما قاله هايدغر قبلهما, بضرورة سؤال <<الفن الكبير>>, مثل عالي الشعر, عما يحدث في <<الحضور>>.
13 - Umberto Eco: Les limites de Liinterpretation, Grasset, Paris, 1992.
14 - يختم ديريدا دراسته عن أحذية فان كوخ بهذه الجمل:
<<جعل هذا السر, مع ذلك, مكشوفا حتى في اللفظ عينه(...)
- لكن الانفصال (أو الانشقاق) واقع فيه أساسا , في الكلمة, في الحرف, في زوج (الأحذية, وأي شيء), في انكشاف السر, الاسم يفيد ذلك, بات من اللازم, إذن, جعل هذا السر اكثر انكشافا , مثل بقية رقم غير مجد.
- يجب ألا نعيد الكرة, بل ان نراهن على الفخ مثلما يقسم غيرنا على التوراة, ففي ذلك ما يستحق المراهنة, وما يتيح المنح, والتقدمة.
- ها هي (أي المحاورة المتعددة الاصوات التي تقوم عليها الدراسة) تنطلق من جديد.
- ها هي تعود من جديد.
- ها هي تعود الى الانطلاق من جديد>>.
Jacques Derrida: ((Restitutions de la verite en pointure)), in:
La verite en peinture Flammarion, Paris, 1986, P436.
15 - ما يمكن ملاحظته في هذا السياق هو ان الفلاسفة وجدوا صعوبة لم يألفوها عند الحديث عن الأدب, ولا سيما عن الشعر نفسه, لا لعلو كعبه الجمالي, مثلما دافع عن ذلك غير فيلسوف, وإنما للتشارك والتداخل اللازمين- عبر اللغة- بين الفلسفة والشعر. لهذا فان لجوء ديريدا الى عدة <<البلاغة>> لدرس النص الفلسفي, او انصرافه الى التحقق من <<بلاغية>> هذا النص الفلسفي أو ذاك (ومنها هذا التأني الدراسي الشديد والمديد, الذي يصرفه ديريدا لفهم اعتمالات الكلام, وإمالاته, ومبثوثه الخفيف النبرة, إذا جاز القول) لا يبدو غريبا إلا في نظر البعض ممن نظروا الى النص الفلسفي في جانبه التعليلي والاقناعي وحسب. ذلك انه لجوء مسبوق عند غيره من الفلاسفة, أي النظر الى النص الفلسفي بوصفه نصا لغويا , ويعول على أدوات اللغة بالضرورة في بناء منطقه الكتابي, وهو تعويل قديم يرقى الى هذه العلاقة التعايشية- التنازعية القديمة, ابتداء من انشقاق <<الكلمة>>, بين الكلمة والكلمة, أي في اللغة, وفي احتياجاتها المختلفة