لا يشبه العبث مع الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو العبث في مكان آخر. السخرية في هذه الحال "تتنبأ بما سيكتبه آخرون فعلياً، في وقت لاحق". هذه هي رسالة الصورة الساخرة، كما جاء في التقديم الذي أعدّه إيكو لكتابه "كيفية السفر مع سلمون" الصادر بنسخته المعرّبة لدى "المركز الثقافي العربي" (ترجمة حسين عمر): "عليها ألا تخشى المبالغة أبداً، وإذا أصابت الهدف، فهي لا تقوم بتجسيد ما سيحققه آخرون بلا خجل وبهدوء أعصاب ووقار رجوليّ". هكذا، يزعم كاتب هذه النصوص التي نُشرت بالفرنسية تحت عنوان "معارضات ومستعارات"، أنها وُلدت بغرض التسلية والمتعة الشخصية فحسب. لكنه إذ يدافع عن الحق في التسلية، ولاسيما إذا كانت مفيدة لممارسة اللغة، يعود فيعترف بأن السبب الأول لكتابة مجمل هذه النصوص هو الاشمئزاز، طارحاً السؤال: هل في وسع المرء أن يشمئز مبتسماً؟ ليجيب بعد ذلك: "كلا إذا كان السخط وليد الخبث والرعب، ونعم، إذا كان وليد الغباء والحماقة". لأنه، وفقاً للمبدأ "الإيكوي" المقتبس من المبدأ الديكارتي، ليس الحسّ السليم هو الشيء الأعدل توزيعاً على وجه البسيطة بل... الحماقة.
في هذا المعنى، يصنّف إيكو النصوص التي تحمل عنوان "طرائق الاستخدام"، وهي الأكبر حجماً في الكتاب، باعتبارها "مساهمة في تحليل الحماقة التي تغمرنا في ثقافتنا وحياتنا اليومية". في حين يمكننا إدراج النصوص المتبقية، وإن كانت تشترك مع "طرائق الاستخدام" في طابعها الساخر، في إطارات أخرى. "رتب وكواكب" مثلاً، هو نص يمكن تصنيفه كقصة خيال علميّ هزليّ يستجيب تماماً ما طرحه الكاتب في مقدّمته عن الإمكانات التنبُّئية للسخرية. في حين أن نصوص قسم "مقتطفات من كاكوبيديا" تتميز بالسفسطة الفكرية الصرفة، الشبيهة بالبحث البيزنطي في جنس الملائكة، وتقود تالياً إلى استنباط مناهج تفكير شاذّة وغريبة، وإن منطقية. يترك إيكو لقلمه في الجزء الأخير المعنوَن "إسكندرية (بييمونت)" أن يعرّج قليلاً على ذكريات شخصية مُعاد إنتاجها وفق منظار شامل لا يخلو من الغمز واللمز أيضاً.
ربما يسعنا القول إن "المهندس الأكبر" إيكو طبّق رؤيته الهازلة على كل شيء تقريباً في هذا الكتاب: السياسة العالمية والفلسفة والفساد الإداري والذكريات الشخصية وقصص الأطفال والتكنولوجيات الجديدة وعلم الخرائط والأنتروبولوجيا، والجنس على الإنترنت والسياحة، ملقياً الضوء على ما ننسى الحديث عنه غالباً أو ما يسقط سهواً في تنقّلاتنا وترحالاتنا الدائمة، وخارجاً بتعميمات وطرائف ذكّية، مثل النَسَب الذي يجمع كل سائقي التاكسي على اختلاف طباعهم في العالم: عدم وجود فكّة نقود لديهم. هذه المروحة الضخمة من الموضوعات المعالجَة في "طرائق الاستخدام" تبدو جلية في عناوين النصوص التي تبدأ كلّها بسؤال "كيف": كيفية السفر مع سلمون، كيفية إسقاط حقيبة ذات عجلات، كيفية تناول طعام في الطائرة، كيفية استخدام هذه الفناجين الرديئة، كيفية السفر بالقطارات الأميركية، كيفية استبدال رخصة قيادة مسروقة، كيفية اختيار مهنة مربحة، كيفية كتابة مقدّمة، كيفية عدم الحديث عن كرة القدم، كيف تكون مقدّماً في تلفاز، كيفية التعرّف الى أبله القرية في التلفاز، كيفية مشاهدة عملية شنق على التلفاز في بثّ مباشر، كيفية التعرّف الى فيلم إباحيّ، كيفية البحث عن الجنس في الإنترنت، كيفية عدم معرفة الوقت، كيفية تمضية عطلة ذكية، وصولاً إلى "كيفية التهيؤ للموت بصفاء وطمأنينة". من هذه الكيفيات الجزئية يمكننا استنتاج كيفية ضخمة هي: "كيفية العيش في عالم اليوم"، أو طريقة التقاط المعنى من هوامش المعيش التي يبدو أن لا معنى لها، والانطلاق منها لطرح كل الأسئلة الكبرى المقلقة. ففي نص "كيفية السفر مع سلمون"ـ يصف الكاتب "مغامرته" في أحد فنادق لندن مع سمكة سلمون مدخّنة ابتاعها من استوكهولم. نتيجة رحلة الكاتب مع سمكته ستكون على هذا النحو: سخط ناشر الأعمال واعتباره الكاتب طفيلياً شرهاً، فساد السمكة وعدم صلاحيتها للاستهلاك البشري، وعتاب أطفال إيكو له ومطالبته بالتقليل من تعاطي الكحول.
ذلك كله سببه واحد: إصرار عمّال الغرف على إخراج السمكة من الثلاجة كل يوم وإعادة ملئها بالمشروبات والكحول كل يوم بدلاً من تلك التي دفع بها الكاتب إلى أحد الأدراج ليضع السمكة مكانها. ويخلص إيكو إلى أن الفنادق الفخمة لا تسمح لزبون من الدرجة الممتازة بالاحتفاظ بسلمون داخل ثلاجته، لأنها، وبقصد توفير الرفاهية لزبائنها، تتبع إجراءات بيروقراطية تؤدي غالباً إلى إزعاجهم. أما في نص "العيش في مجتمع الفرجة"، فيلجأ إيكو إلى تطبيق واقعنا التلفزيوني على واقع متخيّل، فيتحدّث عن شعب "البونغا" الذي يعيش في مكان ما "بين الأرض المجهولة والجزر الثرية". هذا الشعب يجهل فنّ الافتراض والمضمر، ويميل إلى الشرح الذي لا طائل منه، كأن يعلن أحد أفراده كلما أراد التحدّث: "انتباه، سأتكلّم وسأستخدم كلمات".
السخرية هنا تكمن تحديداً في هذا الإسقاط البارع للتصرّفات الغبيّة والسطحية لمقدّمي البرامج على مجتمع عادي غير محاط بالحصانة التي توفّرها الميديا للعاملين فيها. في العودة إلى "رُتب وكواكب"، يستخدم إيكو التقنية نفسها، أي الإسقاط، ليلقي الضوء على النظام السياسي العالمي الجديد، وليسخر من الحروب البشرية وجدواها. هذه الطريقة تسمح بتضخيم عيوب هذا النظام الذي تتحكّم فيه وجهات نظر ضيّقة للغاية وغير قادرة على استيعاب خصوصيات كل شعب من الشعوب. يتمّ التضخيم هنا من خلال توسيع الأنتروبولوجيا البشرية لتشمل كواكب أخرى، ومخلوقات فضائية مختلفة كل الاختلاف عن البشر.
عند هذه النقطة، يكمن المأزق في أن القوانين الوضعية سُنّت لتلائم الطبيعة البشرية فقط، مما يعرّض الأنواع الأخرى إلى أخطار كبيرة. كيف يتمّ التعامل مع سلالات من أصل خنثوي مثلاً، هل تُتّهم باللواط؟ وكيف نجعل مخلوقات يبلغ طولها أمتاراً عدة ترتدي ثياباً عسكرية مماثلة لما ترتديه مخلوقات أخرى لا يتجاوز طولها السنتيمترات؟ ثم ماذا يحدث عندما يصبح الكون المعروف خاضعاً لنظام حكم واحد ويغيب عنه مفهوم العدو؟ يتخيّل إيكو أن الحروب ستتحوّل إلى نوعٍ من اللعبة، لأنها ستُخاض ضمن فرق الجيش الواحد، من دون أن يعني ذلك أن الضحايا لن يكونوا حقيقيين.
يعيد إيكو في كتابه هذا إنتاج الواقع بما يحويه من متناقضات ومفارقات، مجسّداً أمام أعيننا الكثير من سوء الفهم والقصور البشري، انطلاقاً من اقتناعه بأن "الطريقة الوحيدة لعدم استجابة غباء الآخرين بغباءٍ مقابل، هي أن نصفه ونحن نستمتع بالدقّة البالغة لحبكته". هكذا، تأتي محاكاة نصوص أخرى بطريقة ساخرة واستعادة الطريقة التي يتحدّث الناس ويفكّرون فيها، وسيلةً ناجحة للصعود بالضحك إلى ما فوق كل المحلّيات. الى ذاك النوع "الكونديري" من الضحك (نسبةً إلى ميلان كونديرا)، الذي لا يمكن نظاماً سياسياً ومعيشياً أعور التساهل معه.
ورابط الكتاب هو:
http://www.4shared.com/document/Ye3TcNcR/______.html