ثانوية محمد الخامس التأهيلية
كلميمة د. يوسف تغزاوي.

مقارنة بين نصين مقتطفين من "دلائل الإعجاز" للجرجاني و"مفتاخ العلوم" للسكاكي.

يعتبر عبد القاهر الجرجاني المتوفي سنة 471 هـ، ومحمد علي السكاكي المتوفي سنة 626 هـ، من رجالات البلاغة العربية، فالأول أقام مباحث البلاغة على الأسس النفسية في كتابيه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» وقد مثل الكتاب الأول علم المعاني ومثل الثاني علم البيان، إذ درس فيه التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية، ووضع إطار لنظرية النظم، ولكنها لم تجد بعده من يواصلها فانفرد بها صاحبها، وفي «مفتاح العلوم» للسكاكي امتزج الدرس البلاغي بمقولات الفلسفة والمنطق، فاستقام في نظام بيِّن الحدود، واضح المعالم والأبواب فانقسم إلى أنواعه الثلاثة (البيان والمعاني والبديع) ومثل هذا الكتاب مرجعاً أساسياً في علوم البلاغة، عادت إليه كثير من التلاخيص والشروح اللاحقة عليه، دون أن تضيف شيئاً جديداً والنصان قيد المقارنة، نقطتان من بحر الكتابين «دلائل الإعجاز» و«مفتاح العلوم» ولكنهما دالان على موقعهما وقيمتهما فما موضوع النصين؟ وما هي نقط الاختلاف والائتلاف بينهما؟ وإذا كانا يعالجان قضية واحدة، فإلى أي حد كان أحدهما أجود؟ أم كلاهما على عتبة التفوق أوحد؟
يطرح الجرجاني في النص المقتبس من «دلائل الإعجاز» تصوره لمفهوم الفصاحة إذ فصاحة اللفظة تظهر خلال التئامها واتساقها داخل عقد الكلام، ولا تبرز قيمتها البلاغية كلفظة فصيحة خارج السياق وساق الشاهد القرآني من سورة هود (الآية : 44) لإعطاء تصوره بعداً حجاجياً، يضفي عليه صفة الصحة والثبوت، في حين أن السكاكي يسوق نفس الشاهد ليكشف عن أوجه البلاغة والفصاحة فيه في سياق محاولته إفهام المتلقي لمعنى الفصاحة والبلاغة، وإرشاده لكيفية اجتناء ثمرات علم المعاني والبيان من خلال الشاهد، فكان بناء النصين على أساس علاقة النظري بالتطبيقي إذ يقدمان تصورهما معززاً بشاهد، فبدأ الجرجاني بالإعلان عن تصوره للمتلقي، وعمل على استمالة ذهنه بوضعه أمام المفارقة بين اللفظة المتمكنة واللفظة النابية، وليؤكد أن التمكن ناتج عن حسن اتفاقها في المعنى مع أخواتها، والنبو ناتج عن سوء ذاك الاتفاق أو في ورودها منفردة متفردة، ولينفي صفة الريب عن ذهن المتلقي دعاه إلى تأمل الشاهد القرآني، وحصر مظهر الإعجاز في الآية فيما يقوم بين ألفاظها من ارتباط وأن الحسن والشرف راجع إلى ما بينها من اتساق، ليضع المتلقي في دائرة الموضوع الأساس، ويبعده عن الانشغال بغيره، مما في الآية من صور بلاغية رائعة، وما تواثر فيها من إيقاعات داخلية ساحرة تستميل الألباب. فليس هذا هو الأهم بالنسبة للجرجاني فهو ظاهر، بل الأهم النظر إلى انتظام الألفاظ بعضها إلى جانب بعض وما يحققه لها من فصاحة يعظم بها شأنها داخل الكلام.
أما السكاكي فقد بدأ التوجه إلى المخاطب منظراً للبلاغة والفصاحة، كاشفاً ستار الغموض عن معناهما. مرشداً إلى طريق اكتسابهما، ثم ليوقف المتلقي على معنى البلاغة والفصاحة بالمحسوس ساق على سبيل الأنموذج، (الآية 44 من سورة هود) فأسهب في الشرح والتحليل، والتفسير والتعليق، مبتدئاً في النظر إليها من وجهها البلاغي بقسميه علم البيان وعلم المعاني، ثم من جهة الفصاحة اللفظية والمعنوية، ولا غرابة في ذلك إذ وعينا أنه يتوجه إلى متعلمين عاديين يلتمسون المعرفة بعلم البلاغة، عكس الجرجاني الذي اكتفى في مقاربته للآية بالإيجاز في التحليل لأنه يخاطب فئة عارفة واعية بعلم البلاغة وقوانينه وأسسه، فهو لا يروم في سياق التحليل، التحليل ذاته، بل يروم القوة النظرية لتصوره، فأتى بالآية في معرض الاستدلال على قوة منهجية، إذ يتضح أنه يريد تبيان القوة التفسيرية لتصوره من داخل التحليل، فتم التركيز على كيفية انتظام الألفاظ داخل الآية، وتكاملها في المعنى تاركاً تفسير دلالاتها ومعانيها للمتلقي.
أشار الجرجاني إلى ابتداء الآية بالنداء لغير العاقل (الأرض) وتوجيه الأمر لها ببلع الماء، وهو ما فسره السكاكي بعدما قدم معنى الآية ككل معلناً عن ابتدائه في النظر إلى الآية من جهة علم البيان. إذ بين أن مناداة الجماد «يا أرض» و«يا سماء» هو على سبيل الاستعارة المكنية، إذ شبهت الأرض بالإنسان الذي يسمع ويؤمر ويقدر على الاستجابة، فتجلى الوجه البلاغي هنا متمثلاً في حصول الاستجابة من ذاك الجماد، تصويراً لقدرة القادر جل وعلا، وتجاوز السكاكي ذلك بإظهار الصورة البلاغية في هذا الجزء من الآية، فقد أسند فعل «البلع» للأرض على سبيل المجاز، وهو فعل لازم للإنسان الذي يبلع الطعام، ثم تجاوز المستوى القريب في الصورة إلى الكشف عن مشابهة بين نتيجة فعل بلع الأرض للماء وبلع الإنسان للطعام من حيث ذهابهما إلى مقر خفي، حيث ذهاب الماء إلى غور الأرض وذهاب الطعام إلى البطن، ثم إن الماء شبه بالطعام على سبيل الاستعارة المكنية حيث حذف المشبه به وهو الآكل، فالأرض تتقوى بالماء فتنمو الزروع والأشجار... والآكل يتقوى بالطعام، والقرينة هي لفظة «ابلعي» فهي خاصة بالطعام وليس بالماء. أما دلالة نداء الأرض والسماء ب «يا» دون أداة أخرى فلم يستعمل مثلاً «يا أيتها الأرض» كما قال الجرجاني فقد فسّره السكاكي في معرض نظره إلى الآية من جهة علم المعاني، أنه اختيار راجع لكثرة استعمالها بالإضافة إلى دلالتها على مقام المنادي (الله) وفي ذلك إظهار لعظمة الجلال وإبداء لعزته وجبروته. وتبعيد للمنادى الغافل عن قدرة الله تعالى ولم يقل «يا أيتها الأرض» طلباً للاختصار. ويضيف السكاكي أن اختيار «الأرض» بدل أسمائها الأخرى، لخفته وتداوله أكثر، وهو نفس ما يقال عن لفظة «السماء» وأنه ثم اختيار «ابلعي» عوض «ابتلعي» لاختصاره، وحتى يكون متجانساً مع لفظ «اقلعي». وقد أضيفت كاف المخاطب إلى الماء لأجل التعين فقيل «ابلعي ماءك» بدل «ابلعي الماء» حيث أضيف الماء إلى الأرض على سبيل المجاز بإشارة من السكاكي إلى وجود علاقة احتواء لتشبيه اتصال الماء بالأرض كاتصال الملك بالمالك ثم إن إيراد «ماءك» بالإفراد دون الجمع ليوحي إلى إظهار الرفعة والكبرياء في حين أن ورودها بالجمع ينفي عنها ذلك، وتوسع السكاكي في ذلك من حيث المعاني وبين أن ذِكر المفعول في «ابلعي ماءك» منعاً للتعميم حتى لا يذهب الذهن إلى ما ليس بمراد، كابتلاع الجبال والبحار وغير ذلك، تماشياً مع مقام الآمر تعالى، وعدم ذكر المفعول، في «اقلعي» هو على وجه الاختصار، وإبعاد للحشو. ويوحي الجرجاني أن الابتداء بنداء الأرض، وأمرها بما يخصها، ثم إتباعه بنداء السماء وآمرها بما هو من شأنها، أيضاً له دلالة على مستوى معنى الألفاظ في ترابطها إذ فيه تحققت لها المزية، والفضل والعظمة، وهو ما فسّره السكاكي في معرض النظر إلى ترتيب الجمل في الآية، حيث وجه الانتباه إلى أن تقديم النداء على الآمر فقيل «يا أرض ابلعي» و«يا سماء اقلعي» بدل «ابلعي يا أرض» و«اقلعي يا سماء»، تماشياً مع المعتاد في تقديم تنبيه المنادى حقيقة، قبل آمره بما هو من شأنه حتى يتمكن الآمر من نفسه، فيعرف أنه المقصود بتوجيه الأمر، وعليه تحقيق الفعل، ثم إن تقديم ذكر أمر الأرض على أمر السماء، هو لابتداء الطوفان من الأرض، الأصل، والابتداء بالأصل أوجب في رأي السكاكي.
ثم قيل «وغيض الماء» بإيراد الفعل «غيض» على وزن «فُعِلَ» في إشارة إلى امتثال الماء أيضاً لأمر القادر تعالى، وحَذْوُهُ حذو الأرض والسماء في الاستجابة.
وذهب السكاكي إلى أن اختيار «غيض» بدل «غيض» المشدد طلباً للاختصار، كما هو الأمر في اختيار «الماء» بدل «ماء طوفان السماء» وكذا «الأمر» دون قول «أمر نوح» وينهي الله تعالى قصة الماء المتفجر من الأرض والماء النازل من السماء، وتأكيده انتهاء الأمر المراد بقوله «وقضي الأمر» على وجع التأكيد والإقرار، لتكتمل الصورة، صورة اتساق الألفاظ في المبنى والمعنى، معلنة انتهاء مرحلة مخاضها العجيب، ودخول مرحلة الانسياب الدافئ، والتوازن الهادئ، مع استواء السفينة على الجودي، وإضمار السفينة، إشارة إلى أن الأهم هو فعل الاستواء، الذي حدث بقدرة قادر، فالسفينة كالأرض والسماء والماء، منقادة لشأنه مسخرة لتنفيذ أمره، فكما أمرت السماء بالإقلاع، والأرض بالبلع، أمرت السفينة بالاستواء أمام إرادته، وإنجاز الموعود من هلاك الكفرة، وإنجاء نوح عليه السلام ومن معه في السفينة.
وإذا لم يصرح بالفاعل مع كل الأفعال فلم يذكر «من غاض الماء» و«من قضى الأمر» و«من سوى السفينة» وقال : «بعداً»؛ فيرى فيه السكاكي أنه على سبيل الكناية. ثم إنه لا يمكن أن يذهب الذهن إلى فاعل غير الفاعل الحقيقي، هو الله جلت قدرته، فتلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة وجبروت. وإذا نظرنا ما بين قيل في صدر الآية، وقيل في ختمها، نجد عطف مضمون على مضمون بالواو أكثر، وجمع لأحداث تحققت في نفس الزمن، فليس بين قيل الأولى والثانية، إلا المدة الفاصلة بين النطق بهما، حيث تحققت معجزة طوت المسافة ما بين الأرض والسماء، بين الآمر والمأمور، وجعلت الجمادات تتمثل أمر الاستجابة لربها بسرعة فائقة، سرعة انطبعت بها حتى التراكيب، فجاءت الجمل قصيرة مختصرة في المبنى، قوية الوقع من ناحية المعنى. وقضي أمره تعالى، معتماً الكلام بالتعريض تنبيهاً لسالكي نفس المسلك، أن يستحقوا نفس العقاب.
وقيل «بعداً لقوم الظالمين» دون «ليبعدوا بعداً» فالحذف هنا للاختصار، مواءمة مع السرعة التي تطبع الموقف كما تمت الإشارة. وإبقاء «بعداً» هو على سبيل التأكيد المطلق، واستعملت اللام مع «بعداً» قيل «بعداً للقوم...» هو على وجه الشبه مع لام الملكية، وكـأن البعد حق لهم امتلكوه بظلمهم، واستعمل الظلم بصفة الإطلاق، ليشمل كل أنواع الظلم، وللزيادة في التنبيه على من سوّلت له نفسه الحذو حذوهم. كما يرى السكاكي.
وبانتهاء الآية، ينتهي عطف الألفاظ بعضها على بعض، عطف ترتيب في المعنى والمبنى، وليؤكد الجرجاني أو ورود ذات الألفاظ هو وُرُدٌ لزومي وليس اعتباطياً، دلالة ذلك تضامها واتفاقها حتى يتحقق إعجاز المبنى والمعنى، وتتحقق فصاحة اللفظة في سياق ذاك الاتفاق، فلو وردت الألفاظ منفردة متفردة، ما ظهر فضلها ومزيتها وفق تصور الجرجاني الذي أقنع به المتلقي، وبالنظر إلى المكونات المعتمدة لأجل ذلك عند الجرجاني، نجد هيمنة التحليل النحوي على تصوره، لأنه ينطلق من نظرية النظم التي يبقى عمودها الفقري هو النحو، ولهذا لم يركز على الجانب البلاغي كالسكاكي إظهار الوجه الجمالي للآية، بل اعتمد على تركيبها النحوي، أما السكاكي الذي ابتدأ النظر إلى الآية من جانب البلاغة، بمقارنة الأوجه الظاهرة من تشبيه وكناية ومجاز واستعارة، فلم يتوقف إلا عند تشكل المعنى بتمامه، والصورة بكاملها عند الانتهاء، وما تشكل المعنى، وما اكتملت الصورة إلا عند الوصول من الآية حد الإعجاز، إعجاز تدركه القلوب، وتتصوره الأذهان إذا أفلحت، ولكن تحير الأقلام عن وصفه وتعجز.
وأياً كان هدف مقاربة الآيات القرآنية إذن، تبقى كلمة الختم لكل مقاربة، إعطاء دليل على الإعجاز القرآني، وتلك كانت كلكمة الختم الضمنية في نصي الجرجاني والسكاكي اللذين إن كان اختلافهما في المنطلق بيّن، فاتفاقهما في الختم قيّم.
فالجرجاني كان ينظُمُ الألفاظ في العقد ويتأمل تآلفها وتناسقها والسكاكي يصقلها حتى يظهر لمعانها وبريقها ولم يتجشما كثير عناء، كيف وهي من صنع البارئ تعالى الذي أبدع صنعها؟!