تأليف د محمد محمد يونس علي
النقطة الأولى التي ينبغي أن نستهل بها الحديث هنا هي أن الفرق بين الحقيقة والمجاز يشرح عادة اعتماداّ على فكرة الوضع.[v] وقد عرّف أبو الحسين البصري المعتزلي الحقيقة بأنها "ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به".[vi] ووفقا لرأي أنصار ثنائية الحقيقة والمجاز (الذي هو رأي الجمهور في كتب أصول الفقه): إذا استعمل لفظ للتعبير عن أكثر من معنى، فإن هذا اللفظ قد يكون مشتركا، أو منقولا، أو مستعارًا. فالفرق بين المشترك –من ناحية-، والمنقول والمستعار –من ناحية أخرى-، قد يشرح من حيث العلاقة المعنوية.[vii]فإذا كان هناك علاقة بين المعاني المختلفة للفظ متعدد المعاني، وُصف اللفظ بأنه إما منقول أو مستعار. فإذا لم يكن ثمة علاقة صنف اللفظ بأنه مشترك. ويحدد الفرق –بحسب رأي الأصوليين- بالنظر في الطريقة التي يظن بأن اللفظ وضع فيها لمعناه في الوضع الأول: فإذا تقرّر أن اللفظ وضع لمعنيين بمقتضى وضعين مختلفين- سواء أوضعه واضع واحد أم أكثر- صنف اللفظ بأنه مشترك،[viii] أمّا إذا تقرّر أن اللفظ وضع وضعا أوليًّا لمعنى واحد فقط، وظن أن المعنى الآخر نشأ عن عُرف أو نتج عن استعمال متجدّد حكم على اللفظ بأنه إما منقول أو مستعار على الترتيب. ويمكن أن يشرح الفرق بطريقة أخرى، فيقال: إن المشترك –خلافا للمنقول والمستعار- يدل –كما يذكر السيوطي- على معنييه على السواء.[ix] أو كما يقول الغزالي: ليس لمعنى من معنيي المشترك بأولى أن يكون أصلا من نظيره.[x] وكما سبق أن شرحنا في الفصل السابق، فإن معاملة نوع من المعنى على أنه أصل يعني منحه عددا من المزايا، من أهمها الاعتقاد بأنه أول ما يتبادر إلى ذهن السامع في عملية التخاطب. ويُزعم بأن هذا هو المعيار الأساسي الذي يحكم به على لفظ متعدد المعنى بأنه مشترك أو غيره. ومن هنا، فإن ما ينبغي مراعاته هو أن المفترض في كتب الأصول أن معاني المشترك تتبادر إلى الذهن معًا، في غياب القرينة، في حين أن المعنى الحقيقي فقط للمنقول والمستعار هو الذي يتبادر إلى الذهن إذا لم يكن هناك قرينة على خلاف ذلك.
أما فيما يتعلّق بالفرق بين المنقول والمستعار، فيمكن أن نوجزه بالقول: إنه على الرغم من أن الصنفين مندرجان تحت فكرة المجاز، وقد يدرسان تحت صنف واحد، حاول بعض الأصوليين أن يفرّق بينهما. ولتوضيح الفرق بينهما يلجأ الغزالي إلى اختبار خاص يمكن أن نسميه "اختبار الثبات". فقد أطلق الغزالي مصطلح المنقول على اللفظ الذي "ينقل عن موضوعه إلى معنى" ويعامل باستمرار على أنه اسم ثابت له، ويستعمل للتعبير عن معنييه الأصلي والجديد.[xi] ومن ذلك لفظ الصلاة الذي وضع أصلا للدعاء في معناه العام، ثم استخدم على سبيل التخصيص للإشارة إلى الصلاة الإسلامية المخصوصة. ومنه أيضا كلمة حج الموضوعة أصلا للقصد، وكلمة كفر الموضوعة أصلا للتغطية، ثم أُعطيتا في القرآن الكريم، والسنة المطهرة معنيين جديدين هما الحج إلى مكة وعدم الإيمان على الترتيب. وقد فسرت العملية التي يعزى فيها معنى جديد للفظ قديم بالطريقة المذكورة على أنها نقل لفظ من معناه الأصلي إلى معنى جديد. وقد يفيد المعنى اللغوي للنقل والاستعارة لتوضيح الفرق بين مصطلحي المنقول والمستعار.[xii] فكما أن الإعارة تستلزم إعادة ما استعير عادة، كذلك المستعار يقتضي أن المعنى غير الحرفي الذي يدل عليه اللفظ المجازي يستخدم استخداما سياقيا فقط ولا يدل عليه اللفظ وضعًا.
ومن المهم أن نذكر هنا أنه بينما يفترض أن الاشتراك ظاهرة وضعية، ويعامل على أنه حقيقة،[xiii] ينظر إلى المستعار -على نطاق واسع- على أنه محكوم جزئيًّا بالاستعمال. والقصد من وضع القيد " جزئيًّا" الإشارة إلى أن المستعار يعتمد أيضا على ضرب من الوضع، ألا وهو الوضع النوعي (2، 2، 1)، الذي يعطي للمتكلم قدرًا كبيرًا من الحرية لاستعمال قولات جديدة (لم تستعمل من قبل)، مخالفا بذلك الوضع الشخصي. أما النقل فهو ناشئ إما عن الوضع الشرعي الذي بمقتضاه توضع المصطلحات الشرعية، أو بالوضع العرفي، ويشتمل النوع الثاني على نوعين فرعيين هما الوضع العرفي الخاص، والوضع العرفي العام. والفرق بينهما أن العرفي الخاص يقوم به أهل الاختصاص في مجال معيّن، والعرفي العام يقوم به متكلمو اللغة عامة (2، 2). وينبغي أن يلحظ أن الألفاظ الجديدة التي تدخل اللغة من طريق الوضع الشرعي، أو الوضع العرفي يمكن عدها من ألفاظ الحقيقة؛ لأن تعريف الحقيقة السابق ينطبق عليها؛ إذ يقتضي هذا التعريف أن الحكم على لفظ بأنه حقيقة أو مجاز يتوقف على اللغة موضوع التخاطب. وهكذا فإن لفظ "الصلاة" يُعد حقيقة بالنسبة إلى الوضع الشرعي، ومجاز بالنسبة للوضع الأصلي (أو اللغوي).[xiv]
لمعرفة المزيد http://takhatub.blogspot.com/2009/12/blog-post_3692.html#ixzz0cIX62bf2