المحامل الممكنة للأعداد: محاولة لصوغ ضوابط تأويلها
د. محمد محمد يونس علي
1- مقدّمة
تزخر اللغة بألفاظ الأعداد؛ وتستخدم على نطاق واسع في النصوص النثرية، وتزداد أهميتها في النصوص الدينية: ولاسيما القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والأخبار والتحليلات الاقتصادية والسياسيّة، والمعاهدات والاتفاقات، والعقود، والأخبار والتعليقات الرياضية، وغيرها من النصوص. وعلى الرغم من أنّ أهمية الأعداد في المخاطبات اللغوية ليست مثار شك؛ فإن كثيرًا من الناس لا يدركون المصاعب التي تكتنف تأويلها، وإدراك مدلولاتها، بل إنّ الاعتقاد الشائع ينزع إلى عدّها من قبيل الألفاظ البيّنة الدلالة، التي هي أبعد ما تكون عن مظان الخلاف في إدراك المقصود منها، غير أن المتأمّل في مواضع ورودها ليدرك أنّ هذا النوع من الألفاظ تعتريه أحكام عدّة، ويتعرّض إلى محامل مختلفة تحكمها أصول تخاطبيّة، وعناصر سياقيّة مازالت موضع نقاش وخلاف بين الباحثين.
وسنناقش في هذا البحث دلالة اللفظ الوضعية، ودلالاته الأخرى، وسنحاول تقديم تفسيرٍ لكيفيّة استنباطها، ومسوّغات هذا الاستنباط، مع شرح المحامل التي يمكن أن يحمل عليها العدد، ومدى قطعيّة كل منها، واستقراء كل أنواع الدلالات المفهومة من العدد، وتصنيفها إلى أنواعها المناسبة مع الاستئناس في ذلك بآراء اللسانيين وعلماء الأصول في الموضوع، ومناقشتهم فيما ذهبوا إليه. وستأخذ البنية المنطقية للبحث الشكل الآتي:
1- مقدمة
2- المحامل الممكنة للعدد
3- منهج علماء أصول الفقه الإسلامي في دلالة العدد
4- منهج اللسانيين في دراسة دلالة العدد
5- الرّد على اللسانيّين في تصوّرهم لمحامل العدد
6- محاولة لتفسير اختلاف محامل العدد
7- مرجعية تأويل العدد ومدى قطعيته
8- الخاتمة
وقبل الشروع في سرد المحامل الممكنة للعدد، يحسن أن نشير إلى أنواع الوظائف التي تؤديها ألفاظ الأعداد؛ إذ يمكن إجمالاً التمييز بين الأنواع الآتية:
1- الوظيفة الرياضية arithmetical: مثل خمسة هو العدد الخامس.
2- وظيفة العدّ: مثل دخلت خمس بطات في القفص.
3- الوظيفة الإسناديّة: مثل هذه خمس بطّات.
4- الوظيفة الوصفيّة: مثل البطات الخمس.
5- الوظيفة التقديريّة: مثل خمسة جرامات من الذهب.
6- وظيفة التسمية: مثل القناة رقم خمسة.[1]
7- وظيفة الترتيب: مثل جاء الطالب الخامس على أقرانه في الامتحان.
2- المحامل الممكنة للعدد
إذا ما استقرأنا الاحتمالات الممكنة التي يمكن أن تؤوّل عليها الأعداد، فسنجد أنّ العدد لا يخلو عادة من التأويلات الآتية:
1- العدد قد يدل على نفسه فقط، ويؤول بمعنى لا أكثر ولا أقل. وقد ورد على هذا قوله تعالى:
(2) ”فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة“ (النور:24/2).
ومنه أيضا قوله تعالى:
(3) ((إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ)) (إبراهيم: 14/52).
(4) ((وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ)) (ص: 38/23.
(5) ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)) (الأعراف: 7/54.
(6) ((وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ)) (يوسف: 12: 43).
(7) ((وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) (الزمر: 39/6).
(8) ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ)) (التوبة: 9/36).
وهناك نزعة في الدراسات البراغماتية –كما سنذكر- على أن العدد لا يدل من الناحية الدلالية المحضة على المعنى المحدد exact n-interpretation ، أي أنه لا يُحمل على قراءة "لا أقل ولا أكثر"، بل تأتي هذه القراءة من السياق، أي أنها تعتمد على معطيات براغماتية، لا دلالية.
2- وقد يدل العدد على غيره (علاوة على إضافته لنفسه)، وفي هذه الحال إما أن يدل على ما هو أكبر منه، كما في (9) التي تدل على أن ست رضعات يحرمن من باب أولى. ويؤول هذا التأويل إلى أن المقصود خمس رضعات (في الأقل) يحرمن.
(9) خمس رضعات يحرمن.
وقد حاول بعض اللسانيين أن يجعل من هذا المحمل "في الأقل" أصلا وضعيا، على أن تكون المعاني الأخرى مرتبطة بالقرائن.
3- أو يدل على ما هو أصغر منه، كما في (10) التي تدل على أنه يمكن للسيارة المذكورة أن تقطع تسعة وتسعين مترا في ثانيتين. وتفسّر عادة على أن المقصود "في الأكثر".
(10) يمكن لهذه السيارة أن تقطع مائة متر في ثانيتين.
4- وقد يدل العدد على التقريب فقط، دون دلالاته على رقم محدّد، كما في (11) التي تفسّر كما في (12).
(11) سكان الهند بلغ مليار نسمة.
(12) سكان الهند بلغ مليار نسمة تقريبا.
5- أما المعنى الخامس للعدد فدلالته على التكثير فقط، وذلك كما في (13) التي تفسّر كما في (14).
(13) لقد حاولت إقناعه بالأمر مائة مرة.
(14) لقد حاولت إقناعه بالأمر كثيرا.
والظاهر أنّ المحملين الرابع والخامس للعدد من قبيل الدلالة المجازيّة؛ لأنّ المعنى الحرفي فيهما غير مقصود لذاته، بل المراد فيهما المعنى الآخر غير الوضعي، وهو التقريب، أو التكثير.
3- منهج علماء أصول الفقه الإسلامي في دلالة العدد
تتفق آراء علماء أصول الفقه الإسلامي مع بعض اللسانيين المحدثين على أن إطلاق العدد لا يمنع من إدخال غيره إو إخراجه، بل يحتمل إدخال ما أكبر أو أصغر منه فيه، ويفهم المنع من دخول غيره في مدلوله من مقتضيات التخاطب، أي من المعطيات البراغماتية.
ويمكن تلخيص رأي الأصوليين القائلين بمفهوم العدد في أن حصر العدد في مدلوله مفهوم من قصد المخالفة، وذلك عندما يكون هناك قرينة تسوّغ أن للعدد الأصغر أو الأكبر حكما مخالفا للعدد المذكور. وفي المقابل قد يأخذ العدد الأصغر أو الأكبر حكما موافقا لحكم العدد المذكور إذا دلت القرائن على ذلك. وهكذا فإن مايفهم لغةً من (15) هو أن للمتكلّم ثلاثة أولاد، وليس هناك ما يمنع أن يكون له أكثر. أما الدلالة على نفي أن يكون له أربعة أولاد، فليس ثمة ما يمنع منه وضعًا، بل المانع هو مبدأ المخالفة بين المذكور والمسكوت عنه، وهو ما يعني أن المخاطب عندما يستمع إلى (15) فإنه يفكر على النحو الآتي: لو كان المتكلم يقصد أربعة لنصّ على ذلك بالعدد "أربعة"، ولكنه لمّا ذكر "ثلاثة"، وعدل عن الأربعة دلّ ذلك على أنّ المقصود أن لديه ثلاثة فقط، وليس أربعة أولاد أو أكثر.
(15) عندي ثلاثة أولاد.
وإذا ما رمنا تفصيلا لرأي الأصوليين في دلالة العدد (التي يخصّصون لها مبحثًا خاصًا فيما يعرف عندهم بمفهوم العدد، الذي يعدّونه نوعًا من أنواع مفهوم المخالفة)، فلابدّ من توضيح رأيهم في مفهوم المخالفة، والخوض في مناقشاتهم في حجية مفهوم العدد المتفرّع عنه.
ويمكن النظر إلى دراسة الأصوليين لموضوع العدد على أنّه محاولة منهم للإجابة عن السؤال الآتي: أيدلّ الحكم المعلق بعدد ما على حكم ما زاد عليه وما نقص عنه أم لا؟ فالقائلون بمفهوم العدد يرون أنّ ما زاد على العدد المذكور وما نقص عنه قد يخالف المذكور، والنافون ينكرون ذلك. والظاهر أن أهم المحاولات التفصيلية للإجابة عن السؤال السابق كانت محاولة أبي الحسين البصري الذي أثار هذا السؤال في القرن الخامس الهجري، وقد نقل فخر الدين الرازي،[2] ومحمد الأسمندي[3] في القرن السادس رأيه مفصّلا، بيد أنّ هذه المحاولة سُبقت بآراء مجملة نقلت عن المتقدّمين من كبار الفقهاء. والشائع في كتب الأصول نسبة القول بحجية مفهوم العدد إلى المتكلمين، وإنكارها من لدن الأحناف. وقد ذكر صاحب المختصر في أصول الفقه أنّ مفهوم العدد "حجة عند أحمد وأكثر أصحابه ومالك وداود والشافعيّ"،[4] وقد نفاه أبو حنيفة، وأكثر الشافعيّة.[5] وممن اشتهر بإنكاره أبو محمد بن حزم الظاهريّ، وأكثر الظاهريّة، ومن الشافعيّة أبو العباس بن سريج.[6]
ومن أهم الحجج التي قدّمها القائلون بمفهوم العدد
1- كون الحكم في المسكوت مخالفا للحكم في المنطوق بوجه من الوجوه يظهر فائدة التخصيص بالمقدار،[7] وإلا فما فائدة التخصيص بعدد معيّن إذا لم يكن غير العدد المذكور مخالفًا له.
2- أنه لو لم يكن المسكوت مخالفا للمذكور في حكمه للزم حصول طهارة الإناء الذي ولغ الكلب فيه قبل أن يغسل سبعا فيما في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:[8]
(16) طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات إحداهن بالتراب.
أي أنّه لو لم يكن حكم العدد الأقل في هذا المثال مخالفا لحكم العدد المذكور لطهر الإناء بالغسلة السادسة وما دونها. وينطبق هذا أيضا على نحو (17) التي تستلزم أن ما دون الرضعة الخامسة لا يحرّم؛ إذ لوكان التحريم حصل بالرضعة الرابعة أو ما دونها لكان التحريم بالخامسة "تحصيل حاصل"، وتحصيل الحاصل محال،[9] كما هو معروف في علم المنطق.
(17) خمس رضعات يحرمن.
وقد أجاب المنكرون لحجّية العدد بعدم التسليم بأنه "لو لم يدل اللفظ على النفي عن المسكوت لزم حصول الطهارة والتحريم قبل السبع والخمس فيهما"، بل كل ما يلزم من ذلك هو " عدم الدلالة على نفي الطهارة والتحريم قبل وجود السبع والخمس"، أي أن كل ما تعنيه (16)، و(17) هو إثبات حصول الطهارة بالسبع، وحصول التحريم بالخمس، أما نفي الطهارة والتحريم بما دون ذلك فأمر مسكوت عنه لم يتعرّض له بإثبات أو نفي، ولكن لمّا كان الأصل في النجس أن يبقى نجسًا فسيستمر النجس كذلك إلى أن يغسل بسبع، لأن الطهارة بالسبع منصوص عليها، فيتغيّر الأمر بها، وعلى المنوال نفسه: لمّا كان الأصل في الأشياء الإباحة فسيبقى الأصل ساريًا على ما دون الخمس في المثال الثاني، وهو عدم التحريم بالرضاع إلى أن نصل إلى الرضعة الخامسة التي نُصّ على التحريم بها. وهكذا فإن الأمر يؤول عند المنكرين لمفهوم المخالفة في العدد إلى أن حكم المسكوت عنه (وهو هنا نجاسة ما نقص غسله عن سبع غسلات في المثال الأوّل، وعدم تحريم ما نقصت فيه الرضاعة عن الخمس في الثاني) مستنبط من حال الأصل، وليس من مخالفة العدد المذكور.
3، 1- رأي الحسين البصري في دلالة العدد
لعلّ من أهم ما يحسب لأبي الحسين محمد البصري (ت 436هـ/1044م) تفريقه بين دلالة العدد على ما زاد عليه، ودلالته على ما نقص عنه؛ وهو أمر ضروري للتفريق بين دلالتين مختلفتين. وسنفصّل رأي البصري في أحوال العدد فيما يأتي:
أولا: دلالة العدد على ما زاد عليه:
أ- يذكر البصري أنّ العدد لا يدلّ على نفي الحكم عما زاد عليه،[10] وهذا غير دقيق؛ لأنّ العدد قد يدلّ على نفي ما أكبر منه، كما في (18) التي تدلّ دلالة مفهوم مخالفة على أنّ ما زاد على اثنين من الأبناء لا يسمح له بالدراسة مجانًا.
(18) يسمح لاثنين من أبناء أعضاء هيئة التدريس بالدراسة في الجامعة مجانًا.
ب-قد يدلّ العدد على ثبوت الحكم فيما زاد عليه من جهة الأولى، كما في قوله –صلى الله عليه وسلّم- المذكور في (19) الذي يفهم منه أن ما زاد على القلّتين لا يحمل الخبث من باب أولى.
(19) "إذا بلغ الماء قلّتين، لم يحمل خبثًا"
ويشير البصري هنا إلى حالة افتراضيّة، وهي أنه لو حظر الله علينا جلد الزاني مائة، لكان مازاد على المائة أولى بالحظر، خلافا للإباحة أو الإيجاب، فإنهما لا يدلان على حكم العدد الزائد.
ثانيًا: دلالة العدد على ما نقص عنه:
يرى البصري أن دلالة العدد على ما نقص عنه مرتبطة بنوع الحكم إيجابا وحظرا وإباحةً: أ- فعند الإيجاب يدل العدد على ثبوت حكمه في العدد الأقل، كما في استنباطنا وجوب جلد الخمسين عند علمنا بوجوب جلده مائة.[11]
ب- وعند الإباحة، يدل العدد على إباحة ما هو أقل، إذا كان الأقل داخلا تحت الأكبر، كأن يباح لنا استعمال القلتين اللتين وقعت فيهما نجاسة، فيستنبط من ذلك، إباحة استعمال القلة منهما، فإن لم يكن الأقل داخلا تحت الأكبر، فلا يدل العدد على إباحة ما هو أقل، إذ لا يمكن أن نستنبط من إباحة القلتين إذا وقعت فيهما نجاسة، إباحة القلة الواحدة إذا وقعت فيها نجاسة؛ لأنّها "ليست من جملة القلتين".[12]
ج- وعند الحظر يدل العدد المذكور على حكم ما دونه موافقةً، لا مخالفةً، كأن يحظر علينا استعمال قلتين وقعت فيهما نجاسة، فيكون حظر قلة وقعت فيها نجاسة من باب أولى؛ لأن تأثر القليل بالنجاسة أشدّ من تأثر الكثير بها. وأما إذا افترضنا أنّه حظر جلد الزاني مائة مثلا، فلا يدل ذلك على حظر ما هو أقل، ولا إباحته، بل هو مسكوت عنه، تتوقف معرفته على دليل آخر.[13]
وبعد أن أنهى البصري تفاصيل أحكام العدد، لخّص رأيه بقوله: "فبان أنّ تعليق الحكم لا يدلّ على نفي ما زاد عليه، أو نقص عنه، ولا على إثبات ما زاد عليه أو نقص، إلاّ باعتبار زائد".[14] وهكذا يتبيّن لنا أن أبا الحسين البصري ينفي مفهوم المخالفة في العدد الذي يقول به بعض الأصوليين، ويرى أنّ دلالة العدد على غيره تحكمها اعتبارات أخرى.
وقبل أن ننتقل إلى رأي اللسانيين في دلالة العدد يجدر بنا أن نقدّم التعليقات الآتية على آراء البصري في الموضوع:
1- يبدو أن البصري أهم مطوّر للبحث في دلالة العدد؛ إذ لم يأت قبله –فيما أعلم- من توسّع في الموضوع مثله، ولم يزد من جاء بعده أمرا جوهريًّا.
2- أنه ربط اختلاف الدلالات باختلاف الحكم الفقهي كالإيجاب، والحظر، والإباحة، وهذه إضافة مهمة في مبحث العدد.
3- على الرغم من أنّه من المنكرين لدلالة المخالفة في العدد، فإن شرحه للموضوع يدلّ على أنّه يقرّه في بعض المواضع.
4- منهج اللسانيين في دراسة دلالة العدد
يربط البراغماتيّون دلالة العدد بما يسمونه "المفهوم المتدرّج" scalar implicature. وهو نوع مما يسميه بول قرايس بالمفاهيم التخاطبيّة conversational implicatures، التي تستنتج – خلافا للدلالات الوضعيّة والمنطقيّة- من العناصر التخاطبيّة، وليس من المعطيات الوضعية للغة. ويستند المتخاطبون في استنباطهم لهذه المفاهيم على اتباع ما يسميه قرايس بمبادئ التعاون cooperative principles، المبنية على فكرة أن المتخاطبين ينزعون في عملياتهم التخاطبيّة إلى التعاون فيما بينهم لتسهيل عملية التخاطب وإنجاحها، ولكي يتسنى لهم ذلك عليهم أن يسترشدوا بمبادئ تنظم الطريقة التي بها تسنبط مقاصد المتكلمين. ومن هذه المبادئ يلقى مبدأ الكم maxim of quantity اهتماما متزايدا لما له من أهمية في استنباط معظم المفاهيم التخاطبية، وقد صاغ قرايس هذا المبدأ على النحو الآتي:
(أ) تكلّم على قدر الحاجة فقط (القدر الذي يضمن تحقيق الغرض من التخاطب).
(ب) لا تتجاوز بإفادتك القدر المطلوب.[15]
وبناء عليه فإن المخاطب يفترض أن المتكلّم يراعي هذا المبدأ؛ ومن ثمّ سيفسّر كلامه على أساسه. ومن أهم المفاهيم التي يستند استنباطها إلى مبدأ الكم المفهوم المتدرّج، الذي بمقتضاه يمكن استنتاج (21) من (20) اتكالا على أن المخاطب سيفكر على النحو الآتي: لوكان المقصود أن كل الظن إثم لصرّح تعالى بذلك، لأن التعاون يقتضي أن المتكلم يتكلّم على قدر الحاجة، ولمّا كانت الحاجة ماسّة لبيان القدر المنهي عنه من الإثم، كان من المناسب استنتاج أن ليس كل الظن حرامًا؛ لأنه لوكان الأمر كذلك، لقال إن كل الظن، وليس "بعض الظن".
(20) "إن بعض الظن إثم" (الحجرات: 49/12).
(21) ليس كل الظن إثمًا.
وهكذا استنبطت قاعدة عامة بمقتضاها يستنتج أن التصريح بـ "بعض" عند الإثبات يستلزم أن المقصود "ليس كل"، مقسمين هذه التعبيرات ونحوها إلى مدرج يشتمل على تعبير أضعف هو "بعض"، وآخر أقوى هو "كل"، ويذهبون إلى أن إثبات الأضعف يستلزم نفي الأقوى. ونظرًا إلى ضعف الدلالة المستنبطة من المفهوم المتدرج، (والمفاهيم التخاطبيّة) إجمالاً، فإنه يمكن إبطالها بدليل أقوى، ولاسيما الدليل اللفظي، كما في (22) حيث يمكن أن نستنبط منها مفهوما متدرجًّا كما في (23)، الذي يمكن إلغاؤه بعبارة أخرى كما في (24).
(22) بعض أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
(23) ليس كل أطفالي في المرحلة الإبتدائيّة.
(24) بعض أطفالي –بل جميعهم- في المرحلة الابتدائيّة.
وقد حاول بعض البراغماتيين من أبرزهم هورن أن يدرسوا دلالة العدد اعتمادًا على "المفهوم المتدرّج"، فنظروا إلى الأعداد على أنها تمثل طائفة من الأفراد التي تترتب على شكل متدرّج، ورأوا أنه بالإمكان دراستها وفقًا للضوابط التي تحكم المدرج < بعض، كل>. وبناء على ذلك، فإنه مثلما أن إثبات الكل يتضمن entail إثبات البعض، كما في (25) المستلزمة لـ (26)، فكذلك الأمر في العدد، فإن الأكبر، كما في (27)، يتضمن الأصغر (28).
(25) كل أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
(26) بعض أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
(27) أربعة من أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
(28) ثلاثة من أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
وليس من الصعب تفنيد قياس العلاقة بين الأعداد بالعلاقة بين بعض وكل؛ فقد أثبت سابقًا أن القواعد في العلاقتين مختلفة؛ ولذا يمكن تفنيد هذا القياس بالمثالين (29) و(30) حيث لا يمكن أن نستنتج من إثبات العدد الأكبر في (29) إثبات الأصغر في (30) كما فعلنا في العلاقة بين إثبات الكل، وإثبات البعض.
(29) أربعة آلاف دينار كافية لهذه السيارة (أو كثيرة عليها).
(30) ثلاثة آلاف دينار كافية لهذه السيارة (أو كثيرة عليها).[16]
وقد أدرك البراغماتيّون مؤخّرًا أنّ العدد يختلف عن المفهوم المتدرّج، بل حتّى المتحمّسون منهم من أمثال هورن تخلّوا عن فكرة التطابق بينهما، يقول هورن: "ألفاظ العدد ليست المحكّ السليم لنظريّة المفهوم المتدرّج"،[17] وينقل ناتسوس وبرهني عن كارستون،[18] وجرتس،[19] وهورن[20]– أنّ المقيّدات تختلف عن مفهوم العدد– في الآتي:
أ- الاختلاف في التوزيع، كما في (31) حيث لا يمكن إحلال "بعض" محل "ثلاثة" لاختلاف توزيعهما السياقي.
(31) يستضيف أحمد أقل من ثلاثة أصدقاء.
ب- العمليات الحسابية، إذ لا يمكن إحلال المقيّدات محل الأعداد في (32) مثلاً.
(32) 3 + 3 = 6 في الأقل؟
5- الرّد على اللسانيّين في تصوّرهم لمحامل العدد
يفترض اللسانيون الغربيون وجود ثلاث قراءات للعدد، هي:
1- لا أقل ولا أكثر
2- في الأقل
3- في الأكثر
والشائع عند اللسانيين وفلاسفة اللغة في الغرب، ولاسيما البراغماتيون الجدد neo-Gricean Pragmatists أن الألفاظ لا تدل وضعا على المعنى الأول، أي المعنى المحدّد للعدد exact n-meaning، وهو المشار إليه بـ " لا أقل ولا أكثر"، بل إن المعنى الدلالي للعدد هو المعنى الثاني (في الأقل)؛ ولذا فإن عبارة "زيد له ثلاثة بنين" صادقة حتى إذا كان له أربعة أو أكثر من البنين، ومن أشهر المناصرين لذلك هورن،[21] وإن كان قد تخلى عنه،[22] وتردد ووليفينسون فيه.[23] ومن الباحثين الغربيين من يرى أن المعنى الدلالي الظاهر للعدد هو المعنى الأول، ومن هؤلاء هورن بعد تغيير رأيه،[24] و جيرتس،[25] وبرهني.[26] وثمة رأي ثالث تنفرد به كارستون[27] يذهب إلى أن العدد محايد من حيث معناه المعجمي، مع احتمال قبوله للمعاني الثلاثة المذكورة.[28]
ويمكن الرد على هذه الآراء على النحو الآتي:
أ) تفنيد القول بدلالة العدد بالوضع على "في الأقل"
من الأدلة التي يمكن بها الرد على من يقول بأن العدد يدل وضعًا على معنى "في الأقل":
أ- لوكان العدد دالا بالوضع على "في الأقل" لكان هو المعنى المتبادر منه، ولكن واقع الأمر ليس كذلك، فعندما نقول مثلا: ضع في كل كأس ملعقتين من السكر، وثلاث ملاعق من الحليب، فلا يتبادر إلى الذهن أنّ هذا هو الحدّ الأدنى المطلوب من السكّر والحليب.
ب-وجود أمثلة تدل على أن هذا المعنى غير وارد أصلا، ومن ذلك (33) التي تفسّر بـ "في الأكثر".
(33) يمكن للطالب أن يسجّل سبعة مساقات في الفصل.
ت-أن الأعداد المستخدمة في العمليات الحسابية والرياضية لا يمكن تفسيرها على معنى "في الأقل"، لاحظ مثلا:
(34) إذا أضيفت أربعة إلى خمسة، فالمجموع تسعة.
ث-لوكان المعنى "في الأقل" معنى وضعيًّا دلاليًّا للعدد لكان قطعيًّا (ما دام ليس هناك معنى وضعي آخر غيره)، وإذا كان قطعيًّا فلا يستحسن التأكيد بالتصريح به، بل إن تأكيده يكون حشوا مادام المعنى موجودًا في الأصل، غير أن الأمر ليس كذلك؛ فالقولة (36) مقبولة ولايبدو أنها تحتوي على حشو بزيادة "في الأقل" على (35).
(35) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء.
(36) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء في الأقل.
ج- ثم إنه لوكان المعنى "في الأقل" معنى وضعيًّا دلاليًّا قطعيًّا لما أمكن إلغاؤه دون الوقوع في تناقض، بيد أن الأمر ليس كذلك؛ إذ يمكن أن يقال (37) بزيادة "بل أربعة"، فيلغى الاستنتاج "في الأقل"، دون الوقوع في تناقض.
(37) حضر الاجتماع ثلاثة (بل أربعة) أعضاء.
ب) تفنيد القول بدلالة العدد بالوضع على "بالتحديد"
يمكن الرد على من يقول بأن العدد يدل وضعًا على المعنى "بالتحديد" exactly بأنه
أ- لو كان الأمر كذلك، لكانت إضافة عبارة "بالتحديد"، كما في (39)، أو ما يرادفها نحو "لا أكثر ولا أقل"، كما في (40)، من قبيل الحشو، ولكن الأمر ليس كذلك، بل واقع الأمر أن ذلك تأكيد لاستنتاج براغماتي احتمالي، حتى إنه يمكن استعمال تأكيدين أو أكثر في جملة واحدة كما في (41).
(38) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء.
(39) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء بالتحديد.
(40) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء لا أكثر ولا أقل.
(41) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء فقط لا أكثر ولا أقل.
ب-ومن الردود الأخرى إمكان إلغاء هذه الدلالة كما في نحو (38) التي ألغيت بالقولتين (42)، و(43)، دون الشعور بتناقض.
(42) حضر الاجتماع عشرون عضوا، بل أكثر.
(43) حضر الاجتماع عشرون عضوا، بل أقل.
ت-ومن ذلك أيضا حسن الاستفهام عن المعنى المقصود بنحو "بالتحديد" في (44).
(44) هل تقصد حضر عشرون بالتحديد؟
ت) تفنيد القول بأن دلالة العدد بالوضع ملبسة، أو غير محدّدة
للرد على من يقول بأن الدلالة الوضعية للعدد يكتنفها غموض متأصل، وعلى القائلين بأن دلالة الوضع غير محدّدة، نقول: لو كان الأمر كذلك لكان علينا أن نتوقف عند فهم سماع أي عدد إلى أن نجد القرينة الكافية للمقصود به، ولكن واقع الحال ليس كذلك، بل المعتاد في التخاطب أن مجرّد سماع العدد يدل على مدلوله الوضعي نفسه، ثم نأتي إلى معرفة حكم ما هو أقل أو أكثر من العدد المذكور بالاستناد إلى القرائن، وهذه يعني أن دلالة العدد على نفسه دلالة وضعية، ودلالته على غيره دلالة استنتاجية براغماتية.
6- محاولة لتفسير اختلاف محامل العدد
بعد مناقشة آراء الأصوليين واللسانيين في دلالة العدد، سنوضح في هذا المبحث رأينا المفصّل في المحامل التي يمكن أن يأتي عليها العدد. وسنبدأ بالقول: إن العدد المذكور قد يدل على العدد المسكوت عنه دلالة موافقة، كما في (45) الدالّة على (46)، أو دلالة مخالفة، كما في (45) المستلزمة لـ (47)، وعندما يتطابق حكم العدد المذكور مع حكم المسكوت عنه قد تكون دلالة العدد المذكور على غير المذكور دلالة موافقة، وذلك عندما يدلّ حكم العدد الأصغر على تطابقه مع حكم العدد الأكبر، كما في (45) و(46)، وقد تكون دلالته دلالة تضمّن، وذلك عندما يدلّ حكم العدد الأكبر على تطابقه مع حكم العدد الأصغر، كما في (48) التي تتضمّن (49).
(45) ثلاث طلقات يحرمن الزوجة على مطلّقها.
(46) أربع طلقات يحرمن الزوجة على مطلّقها.
(47) الطلقتان لا تحرمان الزوجة على مطلّقها.
(48) لديّ أربعة أولاد.
(49) لديّ ثلاثة أولاد.
وسنحاول في هذا المبحث أيضا أن نقدّم تفسيرا للأسباب التي تدعو إلى اختلاف دلالة العدد بين الموافقة والمخالفة، ويمكن أن نلخّص ذلك في القول بأن هناك اتّجاهين مختلفين لدلالة العدد: اتجاه صعودي، واتجاه نزولي. وأنّ ثمة أنواعًا من الأغراض التخاطبية هي التي تحدّد الاتجاه الدلالي للعدد، وترتبط هذه الأغراض بالإيجاب والسلب، والمقصود بالإيجاب الإثبات في الجملة الإخباريّة، والأمر في الجملة الطلبيّة، والمراد بالسلب النفي في الجملة الخبريّة، والنهي في الجملة الطلبيّة. فإثبات التأثير مثلا –كما في (50) يؤدّي إلى توجيه العدد صعودًا، وبناءً على ذلك يمكن القول: إنّ إثبات التحريم بخمس رضعات يستلزم إثباته بالست. أمّا نفي التأثير فيؤدّي إلى توجيه العدد نزولا، ومن ثمّ فإنّ نفي التطهير بست غسلات في (51) يستلزم نفيه بخمس غسلات فما دون. وأمّا في الجملة الطلبيّة، فإنّ الأمر بإعطاء مائة دينار يستلزم إعطاء ما دونه، والنهي عن إعطاء المائة يستلزم النهي عمّا فوقه.
(50) خمس رضعات يحرمن.
(51) ست غسلات لا يطهّرن.
وهكذا فإنّه عندما يتوجّه العدد صعودا فإنّ دلالة العدد تدل دلالة موافقة على العدد الأكبر، ودلالة مخالفة على العدد الأصغر، وعندما يتوجّه العدد نزولاً، فإنّ دلالة العدد تدل دلالة تضمّن على العدد الأصغر، ودلالة مخالفة على العدد الأكبر.
ومن القرائن التي تدل على الموافقة في الاتجاه الصعودي (حيث يدل الأصغر على الأكبر):
أولاً: دلالة الإيجاب:
أ-الإثبات:
1) إثباث الاكتفاء، مثل
(52) ثلاثة آلاف دينار كافية لتغطية مصاريف المؤتمر.
التي تستلزم
(53) أربعة آلاف دينار كافية لتغطية مصاريف المؤتمر. (من باب أولى)
2) إثبات التأثير، مثل
(54) خمس رضعات يحرمن.
التي تستلزم
(55) ست رضعات يحرمن.
ثانيًاً: دلالة السلب:
أ- النفي:
نفي التجاوز، مثل
(56) طلبة الفصل لا يتجاوزون العشرين.
التي تستلزم
(57) طلبة الفصل لا يتجاوزون الواحد والعشرين.
ب- النهي:
(58) لا تعطه خمسة دراهم
التي تستلزم
(59) لا تعطه ستة دراهم
ومنه قوله تعالى
(60) ((لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ)) (النحل: 16/51).
الذي يستلزم
(61) لاَ تَتَّخِذُواْ ثلاثة آلهة (أو أكثر).
ومن الواضح أنّ دلالة العدد على الأصغر في هذه الأمثلة من قبيل دلالة المخالفة؛ إذ أنّه يمكن أن يستنبط على سبيل المخالفة دلالة احتماليّة ضعيفة من (60) كما هو معبّر عنها في (62).
(62) اََتَّخِذُواْ إِلـهًا واحدًا.
ومن القرائن التي تدل على الموافقة في الاتجاه النزولي (حيث يدل الأكبر على الأصغر):
أولاً: دلالة الإيجاب:
أ-الإثبات:
1) إثبات الحاجة، مثل
(63) تحتاج إلى سنتين في سبيل إنهاء دراستك.
التي تستلزم
(64) تحتاج إلى سنة في سبيل إنهاء دراستك.
لأنّ كل من يحتاج إلى سنتين، فهو في حاجة إلى سنة.
2) إثبات الملكية، مثل
(65) عندي أربعة أطفال.
التي تستلزم
(66) عندي ثلاثة أطفال.
3) إثبات التجاوز، مثل
(67) طلبة الفصل يتجاوزون الواحد والعشرين.
التي تستلزم
(68) طلبة الفصل يتجاوزون العشرين.
4) إثبات القدرة، مثل
(69) يستطيع أحمد قطع مسافة مائة متر دون تعب.
التي تستلزم
(70) يستطيع أحمد قطع مسافة تسعة وتسعين مترا دون تعب.
5) إعطاء الإذن، مثل
(71) بإمكانك أن تأخذ خمسة دنانير.
التي تستلزم
(72) بإمكانك أن تأخذ أربعة دنانير.
ب-الأمر:
(73) أعطه مائة دينار.
التي تستلزم
(74) أعطه تسعة وتسعين دينارًا.
ثانيًاً: دلالة السلب:
أ- النفي:
1) نفي الاكتفاء، مثل
(75) أربعة آلاف دينار ليست كافية لتغطية مصاريف المؤتمر.
التي تستلزم
(76) ثلاثة آلاف دينار ليست كافية لتغطية مصاريف المؤتمر. (من باب أولى)
ومنه أيضًا
(77) أربع تفاحات لا تكفيني.
التي تستلزم
(78) ثلاث تفاحات لا تكفيني.
2) نفي التأثير، مثل
(79) ست غسلات لا يطهّرن.
التي تستلزم
(80) خمس غسلات لا يطهّرن.
ب- النهي
النهي عن الاكتفاء، كما في
(81) لا تكتفوا بشهادة ثلاثة لإثبات جريمة الزنا.
التي تستلزم
(82) لا تكتفوا بشهادة اثنين لإثبات جريمة الزنا.
وينبغي أن نلحظ أنه عندما يفسر العدد مثلا بمعنى في الأقل قد نجد تطبيقات مختلفة، كما في (83)، و(84).
(83) عندي أربعة أطفال
(84) خمس رضعات يحرمن
حيث يتفقان في حملهما على في الأقل، ويختلفان في أن الأول اتجاهه تنازلي بمعنى أنه يتضمن نحو (85)، و(86).
(85) عندي ثلاثة أطفال
(86) عندي طفلان
أما الثاني فاتجاهه تصاعدي يدل دلالة موافقة على نحو (87).
(87) ست رضعات (أو أكثر) يحرمن.
ومن ذلك أيضا ما يندرج في إثبات الحاجة، مثل (88).
(88) تحتاج إلى سنتين لإنهاء دراستك.
وهذا يدعو إلى التفريق بين الحمل من جهة (كما في" في الأقل" أو "في الأكثر") ، والاتجاه صعودا أو نزولا، ويبين أهمية أثر الاتجاه في تحديد نوع الدلالة (تضمن، موافقة إلخ).
7- مرجعية تأويل العدد ومدى قطعيته
يتبيّن لنا من خلال مناقشاتنا السابقة أن المعنى الوضعي للعدد هو دلالته على نفسه فقط، دون نصّ على ما هو أكبر أو أقل منه من الأعداد؛ وبناء على ذلك فإن دلالة العدد على تسعة في (89) هي دلالة وضعية تفيد أنه بإمكان المخاطب أن يصرف تسعة دنانير يوميًّا، فإذا صرف هذا المبلغ كان ممتثلاًً لكلام المتكلّم، ولكن ماذا عما فوق التسعة وما دونها هل هو داخل في حكم الإباحة، وهل في كلام المتكلم دليل عليه؟ والجواب هو أن المتكلم سكت –بحكم الوضع لا التخاطب- عما تجاوز التسعة وما قل عنها؟ ولكن مصادر الاستنباط المنطقي والبراغماتي تسمح للمخاطب بمعرفة حكم المسكوت عنه، وبالتأمل في هذا المثال يستطيع المخاطب أن يستنبط "استنباطا منطقيًّا" أن بإمكانه أن يصرف ثمانية دنانير، إذ أنّ التسعة تدل بالتضمن "entailment" على ما دونها؛ لأنه إذا صرف تسعة فقد صرف ثمانية ونحوها مما هو دون التسعة. وهذا النوع من الاستنباط إنما هو استنتاج قطعي لا يقبل الشك؛ ولذا لا يمكن إلغاؤه دون الوقوع في التناقض؛ فلا يجوز أن يقال له بإمكانك أن تصرف التسعة ولا تصرف ثمانية مثلا دون أن يشتمل كلام المتكلم على تناقض. أما دلالة (89) على ما فوقها فهي –كما تقدّم- دلالة مفهوم مخالفة تتيح للمخاطب أن يستنتج أن حكم العشرة مثلا مخالف لحكم المذكور تسعة؛ وهذه الدلالة –مثلها مثل دلالة مفهوم المخاطبة إجمالاً- دلالة ظنية يمكن أن تلغى دون الوقوع في تناقض؛ إذ يمكن أن يقال (90) أو (91) دون أن يشتمل كلام المتكلم على تناقض.
(89) يمكنك أن تصرف تسعة دنانير يوميًّا.
(90) يمكنك أن تصرف تسعة دنانير (أو أكثر) يوميًّا.
(91) يمكنك أن تصرف تسعة (بل عشرة) دنانير يوميًّا.
أما نحو (92)، فيدل دلالة وضعية على منع الطالب من دخول الامتحان بسبب حصوله على ثلاثة إنذارات، ولا تدل القولة وضعًا على حكم من حصل على إنذارين فأقل، أو أربعة فأكثر، ومع ذلك يمكن أن نستنبط أنّ من حصل على إنذارين لا يحرم من الامتحان بدلالة المخالفة (التي هي دلالة ظنية، كما تقدّم)، وأن من حصل على أكثر من ثلاثة فيحرم من الامتحان من باب أولى بحكم دلالة الموافقة؛ لأن من حصل على أربعة إنذارات فقد حصل على ثلاثة وزيادة، أي أنه استحق الحرمان بالإنذار الثالث، وتأكّد حرمانه بما زاد على ذلك، وهذه الدلالة (دلالة الموافقة) في نحو هذا المثال دلالة قطعية غير قابلة للإلغاء بدون الوقوع في تناقض؛ إذ لا يمكن أن نقول، ومن حصل على أربعة إنذارات لا يحرم دون حصول تناقض.
(92) الحصول على ثلاثة إنذارات جامعيّة يمنع الطالب من دخول الامتحان.
وهكذا يمكن أن نستنتج أيضا أن دلالة العدد على غيره (أكان أدنى أم أكبر) خمسة تفسيرات تقوم على معطيات سياقية براغماتية يمكن توضيحها على النحو الآتي:
¨دلالة العدد على نفسه إنما هي دلالة مطابقة من قبيل دلالة المنطوق، ومرجعها الوضع.
¨دلالة العدد على التكثير دلالة مجازية ، مرجعها العرف اللغوي.
¨دلالة العدد على التقريب دلالة مجازية ، مرجعها العرف اللغوي.
¨دلالة العدد على ما هو أكثر منه دلالة موافقة ، من باب الأولى.
¨دلالة العدد على ما هو أقل منه دلالة تضمن (في حال الاتجاه النزولي).
¨دلالة العدد على ما هو أقل منه من قبيل دلالة مفهوم المخالفة (في حال الاتجاه الصعودي).
8- الخاتمة
يمكن أن نستنتج مما سبق أنّ العدد بمقتضى الوضع لا يدلّ إلا على نفسه فقط، ولكنه قد يحمل على واحد من محامل خمسة: 1- لا أقلّ ولا أكثر، 2- في الأقلّ، 3- في الأكثر، 4- التقريب، 5- التكثير. ويعود كل حمل من هذه المحامل إلى اعتبارات أخرى. وقد توصلّنا في هذا البحث إلى تصنيف أنواع دلالات العدد، وبيان مصادر استنباطها، ومدى قطعيتها (ينظر الجدول)، كما أوضحنا أيضا أثر اتجاه العدد صعودًا أو نزولاً في تحديد نوع دلالته، وأثبتنا اختلاف الحمل عن الاتجاه.
دلالة العدد
مجال الدلالة في الأعداد
نوعها
مدى قطعيتها
دلالة العدد على نفسه فقط
دلالة وضعية
قطعية عادة
دلالة العدد على ما أقل منه في الاتجاه النزولي
دلالة تضمن
قطعية عادة
دلالة العدد على ما أعلى منه في الاتجاه الصعودي
دلالة موافقة
قطعية عادة
دلالة العدد على ما أعلى منه في الاتجاه النزولي، وعلى ما أقل منه في الاتجاه الصعودي.
دلالة مخالفة
ظنية دائما
دلالة العدد على التكثير.
دلالة مجازيّة
ظنية دائما
دلالة العدد على التقريب.
دلالة مجازيّة
ظنية دائما
المراجع
أولا: المراجع العربيّة:
1- الأرموي، سراج الدين محمود بن أبي بكر، التحصيل من المحصول (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1988م).
2- الأسمندي، محمد بن عبد الحميد، بدل النظر في الأصول، تحقيق محمد زكي عبد البر (القاهرة: مكتبة دار التراث، 1992م).
3- الألوسي، شهاب الدين السيّد محمود، روح المعاني (بيروت: دار إحياء التراث العربي).
4- البصري، أبو الحسين محمد بن علي بن الطّيب، المعتمد في أصول الفقه (بيروت: دار الكتب العلميّة، د-ت).
5- البعلي، علي بن محمد بن علي، المختصر في أصول الفقه، تحقيق محمد مظهر بقا (مكة المكرمة، جامعة الملك عبد العزيز).
6- ابن تيميّة، تقيّ الدين أحمد، الفتاوى الكبرى، تقديم حسن مخلوف (بيروت: دار المعرفة).
7- الحاج، ابن أمير، التقرير والتحبير (بيروت: دار الفكر، 1996م).
8- الدمشقي، عبد القادر بن بدران، المدخل، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط2 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1401هـ).
9- الرازي، فخر الدين محمد بن عمر، المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر العلواني (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، 1400هـ).
10- الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر، البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق محمد محمد تامر (بيروت: دار الكتب العلمية، 2000م).
11- الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، إرشاد الفحول، تحقيق محمد سعيد البدري (بيروت : دار الفكر ، 1992م).
12- الصنعاني، محمد بن إسماعيل، إجابة السائل شرح بغية الآمل، تحقيق حسين بن أحمد السياغي، وحسن محمد الأهدل (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1986م).
13- علي، محمد محمد يونس، علم التخاطب الإسلامي (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2006).
ثانيا: المراجع الأجنبية:
1. Breheny, R. (2005). Some Scalar Implications Really Aren't Quantity Implicatures - But Some Are. In E. Maier, C. Bary, and J. Huitink (Eds.), Proceedings of Sinn and Bedeutung 9, pp. 57–71. University of Nijmegen
2. Carston, Robyn. (1998). "Informativeness, relevance and scalar implicature", in R. Carston and S. Uchida (eds), Relevance Theory: applications and implications, Amsterdam: Amsterdam, Benjamins, pp. 179-236.
3. Geurts, B. (1998). Scalars. In P. Ludewig and B. Geurts (Eds.), Lexikalische Semantik aus kognitiver Sicht, pp. 85–117. T¨ ubingen: Gunter Narr.
4. Geurts, B. and R. Nouwen (2005). ‘At least’ et al.: the semantics of scalar modifiers. Ms, University of Nijmegen.
5. Geurts, B. Take ‘five’: The Meaning and Use of a Number Word, (December 27, 2005). To appear in: Liliane Tasmowski and Svetlana (eds), Indefiniteness and Plurality (Amsterdam: Benjamins, Forthcoming). www.phil.kun.nl/tfl/bart/papers/five.pdf
6. Grice, H. P., “Logic and Conversation”, ”, in Peter Cole and Jerry L (eds.). Morgan (eds.), Syntax and Semantics, 3: Speech acts (New York: Academic Press, 1975), pp. 41-68.
7. Grice, H. P., “Logic and Conversation”, in Steven Davis (ed.), Pragmatics: A Reader (New York: Oxford University Press, 1991) pp. 305-315.
8. Horn, Laurence Robert. (1972). On the semantic properties of the logical operators in English. Ph.D. thesis, University of California at Los Angeles.
9. Horn, Laurence Robert. (1992). "The said and the unsaid", in Chris Barker and David Dowty (eds), Salt II: Proceedings of the second conference on semantics and linguistic theory. Columbus: Ohio State University Linguistics Department, pp. 163-192.
10. Levinson, Stephen C. (2000). Presumptive meanings. The theory of generalized conversational implicature. Cambridge, London: MIT Press.
11. Recanati, François. (1989). "The pragmatics of what is said", Mind and language 4: 295-329.
12. Yunis, Mohamed Mohamed Ali, Medieval Islamic Pragmatics (London: Routledge- Curzon, 2000).
(لقراءة النسخة المحدثة المحكمة المنشورة في مجلة جامعة الشارقة للعلوم الإنسانية والاجتماعية على pdf ، انقر هنا)
[1] Bart Geurts, Take ‘five’: The Meaning and Use of a Number Word, (December 27, 2005) p. 2. To appear in: Liliane Tasmowski and Svetlana (eds), Indefiniteness and Plurality (Amsterdam: Benjamins, Forthcoming). www.phil.kun.nl/tfl/bart/papers/five.pdf
[2] فخر الدين محمد بن عمر الرازي، المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر العلواني (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، 1400هـ)، ج2/ص216-224.
[3] محمد بن عبد الحميد الأسمندي، بدل النظر في الأصول، تحقيق محمد زكي عبد البر (القاهرة: مكتبة دار التراث، 1992م)، ص 126-129. وينظر أيضا سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي، التحصيل من المحصول (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1988م)، 1: 295-296، وسيف الدين علي بن أبي علي الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق إبراهيم العجوز (بيروت: دار الكتب العلمية، د-ت)، 3: 89-90.
[4] المختصر في أصول الفقه ج1/ص134، ويذكر الشوكاني: " وقد ذهب اليه الشافعي كما نقله عنه أبو حامد وأبو الطيب الطبري والماوردي وغيرهم ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن أحمد بن حنبل وبه قال مالك وداود الظاهري وبه قال صاحب الهداية من الحنفية" إرشاد الفحول ج1/ص308، وجاء في البحر المحيط أن مفهوم العدد "دليل مستعمل كالصفة سواء كما قال الشيخ أبو حامد وابن السمعاني ونقله أبو حامد عن نص الشافعي وكذا القاضيان أبو الطيب الطبري والماوردي في باب بيع الطعام قبل أن يستوفى وجرى عليه الإمام والغزالي وابن الصباغ في العدة" البحر المحيط في أصول الفقه ج3/ص124.
[5] المدخل ج1/ص277، وينظر روح المعاني ج10/ص148،
[6] إجابة السائل شرح بغية الآمل ج1/ص259.
[7] الفتاوى الكبرى ج2/ص413.
[8] التقرير والتحبير ج1/ص167.
[9] ينظر التقرير والتحبير ج1/ص167.
[10] أبو الحسين محمد بن علي بن الطّيب البصري، المعتمد في أصول الفقه (بيروت: دار الكتب العلميّة، د-ت)، 1: 146.
[11] أبو الحسين البصري، المعتمد، 1: 146.
[12] أبو الحسين البصري، المعتمد، 1: 147.
[13] أبو الحسين البصري، المعتمد، 1: 147.
[14] أبو الحسين البصري، المعتمد، 1: 147، وينظر فخر الدين الرازي، المحصول، ج2/ص217-225.
[15] Grice (1991: 307-9). See also “Logic and Conversation”, in Peter Cole and Jerry L. Morgan (eds.), Syntax and Semantics, 3: Speech acts (New York: Academic Press, 1975), pp. 41-68.
[16] للتوسع في مناقشة هذه النقطة ينظر محمد محمد يونس علي، علم التخاطب الإسلامي (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2006)، ص 272-276، أو ينظر الأصل الإنجليزي، وهو
Medieval Islamic Pragmatics (London: Routledge- Curzon, 2000), p.218-222.
[17] Horn, 1992, p. 90.
[18] Carston 1998, pp. 179-236.
[19] Geurts 1998, pp. 85–117.
[20] Horn, 1992, pp. 163-192.
[21] Horn, 1972.
[22] Horn 1992, pp. 170-175.
[23] Levinson 2000, p. 90.
[24] Horn, 1992, pp. 163-192.
[25] Geurts 1998, pp. 85–117.
[26] Breheny, 2005, pp. 57–71.
[27] Carston, 1998 pp. 179-236.
[28] Geurts, 2005, p. 1.
لمعرفة المزيد http://takhatub.blogspot.com/#ixzz11WhuOO4K