الدّرسُ النحوي في بغداد أم مدرسَة بغداد النحويّة؟ - د.محمد قاسم1
بدهي القول أن الدرس اللغوي العربي متأثر بالدراسات اللغوية الأجنبية، لأن أكثر الدارسين العرب في عصرنا تلامذة لأساتذة غربيين أو لمناهج غربية. وليس في ذلك افتئات على مكانة باحثينا؛ ولا انتقاص من قدر الجهود التي بذلوها في سبيل تحديث النظرة إلى لغتنا، وتجديد الأساليب المتبعة في دراسة ظواهرها المختلفة.
والملاحظ أن بعض الدارسين المحدثين بدؤوا يطبقون معايير حديثة على ظواهر قديمة تطبيقاً محكماً ودقيقاً وصارماً من غير مراعاة لظروف الزمان والمكان، ولتفرّد اللغات وتميّزها بخصائص ليست مشاعاً، ويخضعون الدرس اللغوي القديم لضوابط لم تكن قائمة آنذاك، وانتهوا إلى نتائج بخست جهود السابقين، وألغت مكانتهم ووجودهم في بعض أحكامهم التحديثيّة.
أولاً- طابع المدرسة البغدادية:
قال الأقدمون بوجود مدرستي البصرة والكوفة النحويتين، وتابعهم في ذلك جلّ المحدثين حتى صار وجودهما من المسلّمات التي لا يجادل فيها إلا المكابرون. أما مدرسة بغداد فليست قائمة في نظر بعض الدارسين القدامى لأنها لا تملك نهجاً خاصاً، ولم تقدّم جديداً في دراساتها النحوية، وجلّ ما قامت به في نظرهم قضاؤها على التطرّف في التحزّب لإحدى المدرستين الأوليين، وكأن صراع الضدّين لا بدَّ من أن ينتهي إلى وجود موقف تلفيقي وتوفيقي يجمع بين الرأيين، ويقرّب ما بين المنهجين. بغداد إذاً لم تضف جديداً بل كسرت جليد العداوة الصفيق، وتركت للدارسين حرية الاختيار واصطفاء الأفضل؛ لكن أليس في هذا الاصطفاء إعمال للعقل، ووضع للقديم على مشرحة البحث والتقويم والغربلة؟ تأخر تمصير بغداد فتأخر دورها في الدراسات النحوية، لكن لا بد للعاصمة من استقطاب النخبة، ولا بد للنخبة من أن يولوا وجوههم شطر العاصمة؛ لأن ما تقدّمه العاصمة- وعلى مرّ العصور وكرّ الدهور- للنخبة الأفذاذ لا تستطيع أن تقدمه لهم الأطراف مهما كان موقعها الفكري والسياسي عظيماً وعريقاً ومتقدماً. هذا سبب من أسباب انتقال الدرس النحوي إلى بغداد. غير أن هذا الانتقال ترك آثاراً إيجابية في توجيهه وتسديد مسيرته. فالمناظرات النحوية، وجلسات الحوار المفتوح بين شيوخ المدرستين الذين غصّت بهم بلاطات الخلفاء والوزراء والأمراء قد نبّهت الطرفين إلى أهمية الحوار، ودوره في تضييق فجوة الخلاف، وإلى ترسيخ اقتناع جوهري بنسبية الحقائق، وإلى ضرورة القضاء على أسباب العداوة والتباعد بعد أن بلغا من العمر عتيّاً.
ثانياً- موقف القدامى من مدرسة بغداد:
يبدو أن خلط آراء المذهبين لم يرق للقدامى الذين رأوا أن مبدأ الاصطفاء لا ينهض بقيام تيار نحوي جديد. ولهذا رأينا الزبيدي (ت 379هـ) يتجاهل البغداديين، وحذا حذوه معاصره ابن النديم (380هـ). والناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم كما يقول الجاحظ. وأرى هنا ضرورة الوقوف وقفة متأنية نناقش فيها موقف اثنين من كبار مصنّفي كتب الطبقات عند العرب.
أ-محمد بن الحسن الزُّبيدي (ت379هـ):
صنّف الزبيدي كتابه طبقات النحويين واللغويين تلبية لطلب الخليفة الأندلسي المستنصر بالله(1)، وذكر فيه "النحويين على طبقاتهم واللغويين بعدهم" وقدّم "البصريين من كلتا الطبقتين لتقدّمهم في علم العربية، وسبقهم إلى التأليف فيها(2)" والغريب أن الزبيدي ترجم فيه على التوالي للبصريين والكوفيين والمصريين والقرويين (الأفريقيين) والأندلسيين، ولم يترجم للبغداديين. ويبدو أن سبب استبعادهم عائد إلى عدم قدرتهم على تأليف مذهب مستقل. فلقد قال في ترجمته لابن كيسان (ت 299هـ):(3) "وكان بصرياً كوفياً، يحفظ القولين، ويعرف المذهبيين" ترى هل أهمل ذكر البغداديين لأنهم كانوا بصريين كوفيين؟ وهل كان المطلوب من بغداد أن تحدث مذهباً ثالثاً معادياً للمذهبين السابقين لتكون لها مدرسة يعترف بها الزبيدي؟ وإذا كان هذا سبب إغفال البغداديين فلماذا ترجم للمصريين والأندلسيين وهم الذين تابعوا البغداديين في اصطفاء الأفضل، والخلط بين آراء المدرستين الأوليين؟ والأغرب أن الزبيدي حشر ابن كيسان في صفوف الطبقة السادسة من الكوفيين على الرغم من قوله(4): "وكان ميله إلى مذهب البصريين أكثر". فالذين أنكروا وجود مدرسة بغداد كانوا يصنفون علماءها بين الكوفيين أو البصريين، ومعيار التصنيف عندهم غلبة أحد المذهبين على آراء المصنِّفين. والزبيدي صنف ابن كيسان بين الكوفيين على الرغم من اعترافه بغلبة مذهب البصرة على آرائه النحوية. أليس في هذا التصنيف ما يدعو إلى العجب؟
من يراجع كتب الطبقات يتأكد من غلبة المذهب البصري على آراء من صنّفوا بغداديين. فلماذا بقي إذاً ابن كيسان كوفياً في تصنيف الزبيدي؟ ألأن المذهب الكوفي كان في البدء راجحاً في بغداد لسبب أو لآخر، أم لأن المذهب البصري لم يفرض وجوده فيها إلا متأخراً؟
ب-ابن النديم (ت 380هـ):
كان ابن النديم أكثر دقة من الزبيدي عندما خص من خلطوا المذهبين باب مستقل في كتابه حيث قال(5): "أسماء وأخبار جماعة من علماء النحويين واللغويين ممن خلطوا المذهبين". وقد ترجم ابن النديم لابن كيسان- المتقدم ذكره- ضمن هذا الباب(6). وكان ابن النديم قد تكلم في فصلين سابقين على "أخبار النحويين واللغويين من البصريين(7)" أولاً وعلى "أخبار النحويين واللغويين الكوفيين(8)" ثانياً. وإذا به يغفل مدرسة بغداد ولا يذكر أن الذين خلطوا المذهبين هم بغداديون. وبذلك يكون ابن النديم قد تحاشى إطلاق اسم المكان على التيار النحوي الجديد في منهجه، القديم في أكثر محتواه.
ثالثاً- موقف المحدثين من المدارس النحوية:
شجع موقف الزبيدي وابن النديم من مدرسة بغداد بعض المحدثين على مراجعة الرأي في وجود المدرستين المعترف بهما في القديم والجديد، وراحوا يبحثون عن مقومات المدرسة النحوية وشروط قيامها أولاً. وبعد أن تكونت عندهم معايير دقيقة لقيام المدرسة النحوية عرضوا الدراسات القديمة عليها فتبين لهم بما لا يقبل الشك أن الدرس النحوي في البصرة والكوفة لا يستأهل تسمية "مذهب" أو "مدرسة"، وانتهوا إلى إنكار وجود مدارس نحوية عربية بالمطلق. وللخروج من هذا المأزق ارتجلوا مصطلحاً جديداً هو الدرس النحوي مضافاً إليه اسم المكان، فقالوا: الدرس النحوي في البصرة بدلاً من مدرسة الكوفة، والدرس النحوي في بغداد بدلاً من مدرسة بغداد.
لن أتصدى لكل المقولات المعاصرة في هذا الباب بل سأكتفي بمناقشة آراء ثلاثة من كبار الأكاديميين المعاصرين الذين ذهبوا إلى عدم الاعتراف بوجود مدارس نحوية عربية.
أ-الأستاذ سعيد الأفغاني:
قال الأفغاني في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه (من تاريخ النحو)(9): "هذه الصفحات محاولة في وضع الأمور في نصابها حيال ما يسمى بالمدارس أو بالمذاهب النحوية" ويستنتج من هذا الكلام أن الأفغاني غير معترف بصحة التسمية (مدرسة نحوية) أو (مذهب نحوي) وأنه سيضع- في هذا الكتاب- الأمور في نصابها الصحيح، وأنه سيصوب فيه خطأ تاريخياً وعلمياً ترسخ في أذهان الناس وفي مقولات الدارسين.
تتبعت آراءه بدقة متوقعاً أن يصحح فيه هذه التسميات القديمة التي كانت فضفاضة على الدراسات النحوية فإذا بي أفاجأ بالعنوان الكبير الآتي (المدرستان الأوليان) وتحته بحرف أصغر: مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة(10)، ثم خص الكوفة بعنوان كبير هو مدرسة الكوفة(11). وغير التسمية فيما بعد فوضع عنواناً ثانوياً هو: الفروق بين المذهبين البصري والكوفي(12). وهذا يعني أن المصطلحين (مدرسة) و(مذهب) شيء واحد عنده. ولا اعتراض على هذا الخلط لأن المصطلحين في دلالتهما الاصطلاحية شيء واحد في الحقيقة لكن الاعتراض يكمن في عدم وفائه بما وعد به في المقدمة. ألم يعدنا بإصلاح الوضع القائم؟ ولكن شيئاً من هذا القبيل لم يتحقق، وبقي الوضع القائم على حاله في طيّات الكتاب. كما أفرد باباً لنحو بغداد عنوَنه بقوله: المذهب البغدادي(13). وكان الكلام على هذا المذهب مقتضباً جداً ضاق به صدر الملف فختمه في السطر الرابع من الصفحة الثالثة بقوله(14): "وانتهينا إلى لزوم تصحيح التسمية الشائعة: المذهب البصري والمذهب الكوفي والمذهب البغدادي، وأن الأصوب أن يقال: نحاة بصريون ونحاة كوفيون ونحاة بغداديون... الخ". والسؤال البديهي هنا هو: إذا كان تصحيح التسمية الشائعة لازماً فلماذا لم يلزم الأفغاني نفسه بما قد أصرّ عليه قبل هذا التصريح وبعده؟ وها هو ينتقل إلى دراسة النحو الأندلسي فيعنون هذا الباب بقوله(15): "المدرسة الأندلسية" فجاء هذا العنوان في الصفحة نفسها ومباشرة بعد الكلام الذي ثار فيه على المذاهب والمدارس. وبقيت التسميات القديمة على حالها في كتاب الأفغاني على الرغم من دعوته الملحّة إلى ضرورة أن يستبدل بها ما هو أفضل منها. والتسمية التي اقترحها الأفغاني هي إطلاق اسم المكان على الدراسات النحوية بغية التخلص من مصطلحي "مدرسة" و"مذهب" اللذين كانا غير متحققي الوجود في الدراسات النحوية القديمة.
ب-د. البدراوي زهران:
رأى د. البدراوي زهران أنّ إطلاق مصطلح "مدرسة" أو "مذهب" على الدراسات النحوية لا يخلو من تعنّت وتعسّف ومغالاة. فالمدارس والمذاهب ينتظمها منهج صارم، وطريقة معينة في التناول وهذا ما لم يلمحه بوضوح في هذه الدراسات(16): "اللهم إلا إذا أقمنا التقسيم على أسس مكانية أو زمانية أو أردناه تقسيماً سياسياً وفرقياً، وهذا لا يُعدّ تقسيماً من حيث مناهج الدراسة وطرق التناول".
إن اعتماد التقسيم المكاني أو الزماني الذي انتهى إليه الدكتور زهران لا يحلّ الإشكال لأنه انزلق إلى اعتماد التقسيم السياسي أو الفرقي. وهذا التقسيم لا تغيب عنه ملامح المنهج الخاص في المعالجة. والفرق الإسلامية كانت تمتلك في تلك الحقبة مناهج خاصة في البحث من استقراء، وتعليل، وقياس، وتأويل، وإسقاط دليل، وإجماع، وما إليها من أصول. وقد تسلّلت هذه الوسائل إلى الدرس النحوي وتوسع النحاة في استخدامها حتى تحدث ابن جني (ت 392هـ) عن تسرّب مصطلحات الفقه إلى اللغة والنحو. غير أن د.زهران وقع في التناقض عندما قال(17): "فكلهم كما نرى سار في منهج واحد أو كاد، وكلهم تأثّر بالمنطق. فقاسوا وعللوا وافترضوا وأوّلوا، وكلّهم اصطنع نظرية العامل، وكلهم سار في طريق البحث عن الصحة والخطأ، وكلهم درس كتاب سيبويه بل وجعله عمدته... ولم تخرجهم اختلافاتهم عن إطار دائرة المنهج الواحد، ويكاد يكون مبعثها الفروق الفردية التي يبرزها تناول الواحد منهم للموضوع، وحسن استفادته أو شدة تأثره باطلاعاته ودراساته لبعض العلوم المترجمة والأجنبية".
بدأ د.زهران باتهامهم بغياب المنهج- كما رأينا- ثم تراجع معترفاً بأن منهج البصريين والكوفيين واحد. وعاب هذا المنهج لتأثره بالمنطق، ونسي أن النحو كان منطق العرب قبل أن يتعرفوا منطق اليونان. ثم لنفترض أن النحو متأثر بالمنطق الأرسطي فالمنطق يسدد الدراسة، ويوضح الخطوات، ويجعل طرق البحث مستقيمة لا لبس فيها ولا غموض، ويكفل للمنهج ترابطه عبر خطوات البحث المتلاحقة. ألا يكفي المنطق بما فيه من مقدمات وقياس وتعليل وتأويل ونتائج لبناء هيكلية موحدة للبحث؟ فلماذا يتهمهم بعدم وجود المنهج وهو الذي يعترف أن خلافاتهم لم تخرجهم عن إطار دائرة المنهج الواحد؟
أما اختلاف الآراء وتباينها ضمن المذهب الواحد فهو من طبيعة التجمع البشري؛ فليس في المجتمع شخصان متفقان في آرائهما بحيث يكون الواحد منهما صورة طبق الأصل عن الآخر. وما العيب في وجود آراء فردية ضمن المذهب المتماسك؟ ألم يؤلف المعتزلة فرقاً متعددة تنضوي جميعاً تحت لواء الاعتزال؟ ألم يعتمدوا هم جميعاً العقل حتى جعلهم اعتمادهم هذا فرقاً متعددة؟ ألم يؤلف الرومانسيون تيارات شخصية متعددة ضمن المذهب الرومانسي؟ وهل كانت كلاسيكية الكلاسيكيين واحدة؟ ألم نشهد اليوم تيارات متعددة في الحزب السياسي الواحد؟ فهذه الأجنحة والتيارات داخل المذهب الفكري ليست بالضرورة عيباً وعامل انقسام بل هي في أكثر الأحيان عوامل إغناء له لأنها تغنيه من الداخل، وترفده بمخزون فكري متنام يوفر له عوامل الاستمرار، فلا تخرّب خطّه الفكري العام، ولا تقوّض أركانه ولا تقضي عليه. والتساؤل الذي يطرح نفسه في نهاية المطاف: هل يكفي الاعتراف بالوجود المكاني- دون سواه- لمدارس النحو للقول إنها غير موجودة؟
جـ-د.محمد كمال بشر:
ألغى د.بشر وجود مدرستي البصرة والكوفة لينسحب حكمه حتماً على مدرسة بغداد. ومسوّغ هذا الإلغاء في نظره أنه(18): "ليس لإحدى المدرستين منهج بالمعنى الدقيق، وإنما لكل منهما مجموعة من الاتجاهات التي يغلب بعض معيّن منها على مدرسة دون الأخرى". هذه تهمة ربما صحّت بالمطلق إلا إنها غير صحيحة إذا ما درسنا كلا المنهجين دراسة تفصيلية تتناول الأصول والفروع التي قامت عليها المدرستان.
واتهامه الثاني يتلخص في أن(19): "طريقة البحث عندهما تتسم بعدم التعامل وبالخلط بين المبادئ اللغوية والفلسفية وغيرها، كما تتسم بعدم الالتزام بخط تفكيري واحد" أتساءل هنا قائلاً: هل النقص في المنهج-إذا صحّ- كاف لنقض المنهج من أساسه والحكم ببطلانه جملة وتفصيلاً؟ والتساؤل الآخر: إذا كانت المدرستان غير قائمتين فلماذا يتابع د.بشر كلامه عليهما معترفاً بأن(20) "المدرسة البصرية" تنفرد بالاعتماد على الأفكار الفلسفية أكثر من الكوفية، كما تنفرد هذه الأخيرة بالاهتمام الزائد بكل ما هو مسموع وبالقياس عليه" يمثل هذا الكلام إقراراً بوجود المدرستين أولاً، واعترافاً بخطهما وأسلوبهما في البحث ثانياً، وتميّز الواحدة من الأخرى وانفرادها في اعتماد أصل من أصول النحو والمبالغة في هذا الاعتماد إلى حد المغالاة ثالثاً. فكيف يصح بعد ذلك اتهامه لهما بعدم وجود النهج بعدما اعترف بوجود نهج فلسفي وأصلين هامين من أصولهما هما السماع والقياس؟ وأعتقد أن هذا النقص الذي لمحه د.بشر عده القدامى فضيلة ودعامة للدرس النحوي لأن الاهتمام بالجانب الفلسفي المنطقي- على تعقيده اللغة- ضبط المنهج، ووفّر له أسباب التماسك، ووحدة الرؤيا، والاستدلال والاستنتاج. أما أن ينتهي د.بشر إلى الاعتراف بوجود(21) "مجموعات من الدارسين عاشت كل مجموعة في مدينة مختلفة، فهي إذن مدارس جغرافية لاعلمية" فأمر غريب حقاً لأن الاعتراف بالمدارس الجغرافية لا يلغي وجودها الفكري على الإطلاق.
رابعاً- محدثون أنكروا وجود المدرسة البغدادية:
ظهرت أخيراً كوكبة من الباحثين المحدثين الذين أنكروا وجود مدرسة بغداد النحوية لأنها لا تحمل جديداً، ولأنها اكتفت بخلط آراء المدرستين الأوليين. ومنكرو مدرسة بغداد كثيرون أكتفي بمناقشة آراء الذين تصدوا منهم بعنف لوجودها لأبيّن في النهاية أنها موجودة ولها استقلالية في البحث وإضافات لا يستهان بها. من هؤلاء:
1-د.عبد الفتاح شلبي:
بكّر د.شلبي في نفي وجود مدرسة بغداد النحوية، وبثّ نفيه هذا في كتابه (أبو علي الفارسي)(22) الذي رأى فيه(23): "أن ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن هناك مدرسة نحوية باسم مدرسة بغداد متميزة عن المدرستين البصرية والكوفية، لا يتفق مع ما كان يراه الأقدمون الأولون من أصحاب التراجم والطبقات" والملاحظ أن د.شلبي اعتمد في حكمه هذا على ما قدمنا ذكره من رأيي الزبيدي وابن النديم. لكن لماذا لا يعترف بمدرسة متميزة عن المدرستين الأوليين، ومدرسة بغداد متميزة عنهما فعلاً؟ صحيح أنها أخذت منهما لكنها ليست هذه ولا تلك؛ والذي يميّزها حسن الاختيار وعدم التعصب، والموازنة الصحيحة، وانتهاجها خطأ فكرياً منفتحاً حملها على الجرأة في مخالفة إحدى المدرستين، أو مخالفتهما مجتمعتين. وقد جاءت بآراء لم تأت بها سالفتاها، وأقرّت أصولاً نسبت إليها. وأرى أن د.شلبي كان قد اعترف بوجودها المميز عندما قال(24): "وقد احتفظت المدرستان بوجودهما المنفصل حتى نهاية القرن الثالث أو وسط القرن الرابع، وحينئذ أصبحتا مختلطتين في المدرسة الجديدة في بغداد" ألا يعني كلامه هذا اعترافاً بالمدرسة البغدادية؟
2-د.مازن المبارك:
ذهب د.المبارك إلى نفي قيام مدرسة بغداد في أطروحته التي منح بها شهادة الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1960 وهي بعنوان "الرمّاني النحوي" فقال(25): "على أننا إذا قلنا إن بغداد قد اتسعت للمذهبين النحويين البصري والكوفي، وأن من علماء النحو فيها من كان بصرياً، ومنهم من كان كوفياً، ومنهم من لم يكن بالبصري المحض، ولا بالكوفي المحض، فلسنا نعني أن هذه الطائفة الثالثة تشكل مدرسة بغدادية جديدة ذات منهج نحوي مستقل.. وإذا كان لبعض هؤلاء العلماء البغداديين أقوال تفردوا بها دون المذهبين فإن ذلك لا يعني قيام مذهب جديد، ولا يعني نشوء مدرسة بغدادية".
ألا يرى الدارس أن المبارك مصرٌّ على نفي وجود المدرسة البغدادية على الرغم من اعترافه بمقومات وجودها؟ ألا يتساءل القارئ معي عن مسوغ نفي وجودها على الرغم من اعترافه بأقوال تفرد بها علماؤها؟ فما الذي يحمله على الاعتراف بها إذاً؟ ولم يعد مستساغاً ولا مقبولاً في نظر المبارك إطلاقاً تسمية مدرسة أو مذهب بعد(26): "أن طوت مدرستا البصرة والكوفة أعلامهما، ولم يعد الأمر في بغداد أمر منهج قياسي أو منهج سماعي يحمل لواء كل منهما طائفة من النحاة... وإنما حل محل المدارس والمناهج شيوخ تختلف مناهجهم وأساليبهم باختلاف عقليتهم وثقافتهم". غريب أمر هذا الكلام، فالبغداديون لهم منهج في القياس مختلف عن مذهبي البصريين والكوفيين، وإن كان نهجهم في السماع أكثر قرباً من منهج الكوفيين. لقد ذهبت المدارس في نظر المبارك بعد "أن طوت مدرستا الكوفة والبصرة أعلامهما" و"حل محل المدارس والمناهج شيوخ تختلف مناهجهم وأساليبهم" والسؤال هنا من الذي يكوّن المذهب النحوي الجغرافيا أم الناس؟ ثم لماذا الاعتراف بدور علماء كل من البصرة والكوفة في تأسيس المذاهب وحرمان أعلام بغداد من هذا الحق؟ كيف استطاع المبارك فصل النظرية عن صاحبها، وكيف تستقل المدرسة عن الشيخ وأسلوبه والشيوخ هم المنطلق في إرساء قواعد المنهج والأساليب التي تشكل بعد بلورتها ووضوحها مدرسة أو مذهباً؟ ومن يراجع مؤلفاً آخر للمبارك هو (الزجاجي)(27) يستطيع أن يستنتج منه اعترافاً بمبادئ المذهب البغدادي المتمثلة "في البعد عن حمى التعصب، وحماسة الجدل، وعزة التمسك بالرأي، وانتخاب الرأي الموافق دون النظر إلى نزعة صاحبه، وأنهم كانوا أحراراً في اختيارهم" ألا تعني هذه المبادئ أن المبارك معترف ومقر بوجود المدرسة البغدادية، ومستحسن لما قامت عليه من أصول ومبادئ؟
3-د.فاضل السامرائي:
نفى د.فاضل السامرائي وجود مدرسة بغداد النحوية في دراسته التي قدمها لنيل شهادة الماجستير سنة 1964 وعنوانها ابن جنّي النحوي. وقال في الفصل الذي عقده لبحث مذهب ابن جني النحوي بعد أن أثبت آراء المتقدمين والمتأخرين في مدرسة بغداد(29): "وعلى هذا فأنا أرى أنه لا يثبت وجود مدرسة بغدادية إلا إذا ثبت أنها مدرسة مستقلة، وكيان خاص، وأن نحاتها يتصفون بهذه الصفات أيضاً وذلك لم يثبت عندي فيما بين يدي من المصادر". لقد ذهب إلى هذا الرأي بعدما تبين له أن المكان لا يصلح قاعدة لقيام مدرسة؛ فقد يعيش النحوي في بغداد وهو بصري المذهب أو كوفيه. وهذا الرأي صحيح جداً لكن البغداديين يشكلون مدرسة بحسب الشروط التي وضعها السامرائي لقيام المدرسة النحوية؛ فلهم منهج مميز وطريقة مختلفة في التعاطي مع الآراء النحوية السابقة. والبغداديون لم يقفوا عند حدود متابعة الكوفيين والبصريين وتبني آرائهم بل إنهم اجتهدوا وأضافوا إلى النحو إضافات حسبت لهم في القواعد والمصطلحات والأصول والشواهد النحوية.
4-د.مهدي المخزومي:
صدر للدكتور المخزومي سنة 1974 كتاب بعنوان "الدرس النحوي في بغداد" الذي أعاد طباعته سنة 1987(30). وقد تابع فيه موجة الابتعاد عن الاعتراف بالمدارس النحوية واحتلال مصطلح الدرس النحوي بتحديد المكان بعده لأن هذا المصطلح أكثر ملاءمة للحقيقة والواقع. وكان قد سبقه إلى ذلك كثيرون منهم من ذكرناه سابقاً، ومنهم من اعتمد ذلك في دراسات أكاديمية كالدكتور "عبد العال سالم مكرم" في رسالة الماجستير التي تقدم بها إلى كلية دار العلوم بالقاهرة سنة 1962 وكان عنوانها "المدرسة النحوية في مصر والشام في القرنين السابع والثامن من الهجرة(31)، والدكتور "أحمد نصيف الجنابي" في أطروحة الدكتوراه التي تقدم بها سنة 1977 إلى إحدى كليات الآداب بمصر وأشرف عليها د.رمضان عبد التواب وعنوانها: "الدراسات اللغوية والنحوية في مصر منذ نشأتها حتى نهاية القرن الرابع الهجري(32)".
لم يترك د.المخزومي مجالاً للتساؤل عن أسباب اعتماده هذا العنوان بالذات بل صرح بذلك قائلاً(33): "ولم أجعل عنوان هذا الكتاب مدرسة بغداد، أو مذهب بغداد في النحو، لأن مدرسة الكوفة أدق في الدلالة على ما يراد بمدرسة بغداد" والطريف في الأمر أن د.المخزومي قد ذهب بعد صفحات إلى إلغاء مدرسة الكوفة نفسها عندما قال(34): "وأما الكوفة فلم يكن لها تاريخ في الدرس النحوي، والنحاة الذين عرفتهم الكوفة كانوا تلاميذ للبصريين لم يتعمقوا في الدرس، ولم يبرعوا فيه، واكتفوا من محصولهم النحوي أن يشتغلوا في الكوفة بتأديب الأمراء والموسرين، ولم يضيفوا إلى ما تلقوه عن أشياخهم البصريين جديداً، ولم يغيروا من أسلوبه شيئاً". فكيف تكون مدرسة الكوفة أدق في الدلالة على ما يراد بمدرسة بغداد، والكوفة باعترافه ليس لها كيان مستقل في الدراسات النحوية؟ والسؤال هل نسي د.المخزومي أنه كتب أطروحته التي تقدم بها إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1953 لنيل شهادة الدكتوراه وكان عنوانها "مدرسة الكوفة"(35)؟ فإذا كانت الكوفة نكرة في النحو فكيف استطاع أن يكتب أطروحته عنها وعدتها أربع مائة وثلاثون صفحة من القطع المتوسط؟ وإذا كان هذا التراجع غريباً، فالأغرب أن يكون قد اعترف بوجود المذهب البغدادي في أطروحته تلك. قال(36): "فليس المذهب البغدادي إذن إلا مذهباً انتخابياً، فيه الخصائص المنهجية للمدرستين جميعاً". فهل كان المخزومي واهماً سنة 1953 وعاد عن وهمه سنة 1974 عندما قال(37): "وجاء المتأخرون من النحاة فرأوا اسم البغداديين يذكر إلى جانب الكوفيين والبصريين، فذهب بهم الوهم وراحوا يركبون الصعب في تصوير مذهب ثالث يقف بإزاء مذهب أهل البصرة ومذهب أهل الكوفة"؟
لا غرابة في أن يعود المخزومي سنة 1974 عن رأي قاله سنة 1953؛ ولكن الغريب حقاً أن يثبت في الكتاب عينه ما كان قد أنكره فيه قبل صفحات. ها هو ذا يعنون فصلاً من فصول كتابه بما يأتي: خصائص المذهب البغدادي(38). ولا يشفع له بإثبات هذا العنوان قوله بعده مباشرة(39) "ولا بد لكي نرسم خطوط المذهب البغدادي (الكوفي)..." لأنه ألغى المذهب الكوفي سابقاً. وعاد في كتابه هذا مراراً إلى إثبات مصطلح الدرس البغدادي فهل كان العنوان الآنف ذكره (خصائص المذهب البغدادي) من قبيل بدل الغلط أو زلة لسان تفصح عن حقيقة مستكنّة يريد صاحبها قمعها وكبتها لغاية من الغايات؟
خامساً- شروط المعجمات والموسوعات لقيام (مدرسة أو مذهب):
لا شك في أن الدراسات الحديثة تستقي كثيراً من المعجمات والموسوعات وتعرض على شروطها الوضع القائم لتحكم بتوافر شروط المعجمات فيه أو عدم توافرها ليكون حكمها في النهاية محصّناً ومتيناً ومتماسكاً. لهذا رأيت ضرورة العودة إلى المعاجم الموثوقة والموسوعات الأجنبية التي كانت منهلاً لها في المصطلحات الفكرية العالمية لتحديد مصطلحي "مدرسة" و"مذهب" ولمعرفة مدى توافر الشروط في المدرسة البغدادية أو عدم توافرها.