بسم الله الرحمن الرحيم
المقطع الثالث: مع أبيات أخرى للبروف
وانظر إلى أبيات أخرى من هذا الديوان يصف فيها الشاعر حنينه إلى النيل، ويصور فيه الطبيعة تصويرًا جميلًا رائعًا مؤثرًا في النفوس حقًّا، ويحذو فيها حذو امرئ القيس أيضًا في الوزن والقافية، ولكنه لا يصطنع اللفظ الغريب إلا قليلًا.
بلندن ما لي من أنيس ولا مال
وبالنيل أمسى عاذري وعذالي
ذكرت التقاء الأزرقين كما دنا
أخو غزل من خدر عذراء مكسال
ينازعها كيما تجود وينثني
وقد كاد محبورًا مؤانس آمال
إذا الأبيض الزخار هاج عبابه
له زجل من بين جال إلى جال
ترافقه من فوقه قزع الطخا
فتحسبهن الطير تهفو لأوشال
ويا حبذا تلك السواقي وقد غدت
بألحان عبري ثرة العين مشكال
ونخل إذا ما البدر أشرق خلفه
أطل على الرائين كالغيق الحالي
وشوك سيال يلمع النور فوقه
طرائق مثل الذر يلمع في الآل
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
يكثبان داري والأحبة أحوالي
وهل أسمعن الدهر تغريد طائر
وبالفجر ترجيع المؤذن والتالي
أترى إلى وصفه لالتقاء النيل الأزرق بالنيل الأبيض، وقد شبهه هذا التشبيه البدوي، الذي بَعُدَ به العهد وحجبته عنا القرون، لولا أنا نقرأه في الشعر القديم، فأحد النهرين عذراء مكسال والآخر يسعى إلى خدرها، كأنه امرؤ القيس في لاميته المشهورة:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي
وهل ينعما من كان في الصر الخالي
وفيها يقول:
اصطحاب النيل
سموت إليها بعد ما نام أهلها
سمو حباب الماء حالًا على حال
أو كأنه عمر بن أبي ربيعة في رائيته التي أولها:
أمن آل نعم أنت غادر فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
وانظر إليه كيف وصف اصطخاب النيل الأبيض بأمواجه الزاخرة وقطع السحاب الرقيق من فوقه، كأنها الطير تهفو إلى الماء لتحسو منه، وكيف وصف السواقي وهي تبكي على الشاطئ بكاء الحزينة ذات الدموع الغذار، وانظر إلى النخل وقد أطل البدر من خلفه، فخيل إلى رائيه أنه عنق قد أطاف به الحلي.
وانظر إلى هذه الصورة الشعرية الرائعة، وهي صورة شجر السيال يلمع النور فوق شوكه طرائق دقاقًا، كأنه أنذر يلمع في السراب.
ثم اسمع إلى الشاعر كيف يتمنى ويسأل نفسه: هل يتاح له أنْ يبيت ليلة على تلك الكثبان التي تقوم عليها داره، حيث ينظر منها إلى هذه الطبيعة الحلوة التي خالطت قلبه، وهل يتاح له أنْ يسمع ولو مرة تغريد الطائر أول الليل وآخر الصبح، وصوت المؤذن، وصوت من يتلو القرآن من آخر الليل، وعند أسفار الصبح.
وليس عليك بأس من كلمة الطخا، فهو قد فسرها لك في الديوان بأنها السحاب الخفيف. والشاعر يحس إحساسًا قويًّا أنه غريب في شعره أيضًا؛ لأنه يؤثر جزالة اللفظ ورصانة الأسلوب، والمعاصرون لا يحبون هذه الجزالة، وإنما يكلفون بهذا الكلام الهين اليسير المهجن، الذي لا تزينه الفصاحة الخالصة.
فاسمع له كيف يقول:
مالك والجزالة في زمان
يحب به من القول الهجين
تبين به وليس له سميع
وينظمه سواك فلا يبين
فإن ذوي الجزالة قد طواهم
لدى غبرائه الزمن الخئون
ولو قبل الشاعر منا لرددنا عليه بعض حزنه؛ لأنه يستطيع أنْ يكون جزلًا رصين القول، رائع اللفظ والأسلوب، دون أنْ يورط نفسه ويورطنا معه في الطخا، وفي السبنتاة، وفي الوصيع وأمثالها من هذه الألفاظ الغلاظ التي تسجل في المعجمات لنستعين بها على فهم النصوص القديمة، ولكن جريان الألسنة بها حتى في أجمل الشعر وأروعه قد انقضى عصره منذ عهد بعيد.
ولغات الناس صورة لحياتهم، فإذا اتخذوها وسيلة إلى الفن تخيروا منها أصفاها وأنقاها وأحسنها، مسًّا للسمع وموقعًا من القلب، وملاءمة للذوق.
وليس يكفي أنْ يقرأ الإنجليزي شعر شكسبير؛ ليتخذ ألفاظه وأساليبه نماذج يحتذيها، ولا أنْ يقرأ الفرنسي المعاصر شعر راسين؛ لينظم الشعر على مثاله، ولا أنْ يقرأ الإيطالي شعر دانتي؛ ليصطنع ألفاظه وأساليبه التي كانت تجمل وتروق في القرن الرابع عشر، وما زالت إلى الآن تجمل وتروق حين يقرؤها الممتازون من العلماء والأدباء، ولكنها لا تُقبل من كاتب أو شاعر معاصر.
واللغة العربية كغيرها من اللغات تحيا مع الناس الذين يتكلمونها، وتخضع لما يخضعون له من طور الحياة وخطوبها، تغلظ حين تغلظ الطباع، وتلين وتعذب حين تعذب الطباع وتلين.
وليحدثني الشاعر المجيد كيف السبيل إلى أنْ يفهم القارئ المعاصر ذو الثقافة المعتدلة من الأدب العربي مثل هذا البيت، دون أنْ يرجع إلى المعجمات، ويفهم ما تروى من الأمثال والشواهد من شعر جرير والذين عاصروه، وأين نحن من جرير ومعاصريه؟
فظلت أروض النفس بعد نفارها
وأكرهها حتى استمر مريرها
أي الناس يستطيع أنْ يفهم هذا البيت إذا لم يكن من أساتذة الأدب الذين عرفوا دقائق اللغة، وتعمقوا شعر القدماء من شعرائها، ولا سيما حتى استمر مريرها هذه، وما على الشاعر لو قد آثر اليسر، فقال: حتى اشتدت قوتها وعرفت كيف تحتمل الأحداث وتصبر لها.
والبيت الذي يلي هذا البيت كيف السبيل إلى فهمه دون الرجوع إلى المعجمات:
على حين قاربت الثلاثين وانتمت
إلى المرء أحداث كثير شقورها
لفهم كلمة الشقور هذه. والشاعر نفسه يفسر لنا هذه الكلمة بأنها الأمور، فما ضره لو اصطنع كلمة الأمور نفسها، فأقام وزنه وقافيته، ولم يغير من جمال الشعر شيئًا.
سكرى الشباب سبنتاة اللحاظ لها
فتك بنفسجي بين أوصالي
وهذا البيت وكلمة السبنتاة خاصة فيه، كيف يستطيع المعاصرون أنْ يفهموها دون الرجوع إلى معجم من المعجمات؟! وكيف السبيل إلى أنْ يذوقوها بعد أنْ يفهموها؟!
وأشهد لقد صادفت هذه الكلمة في شعر قديم رثى به عمر بن الخطاب — رحمه الله — فضقت بها أشد الضيق؛ لأني قرأت هذا الشعر في إيطاليا، ولم يكن لسان العرب قريبًا مني، وإنما كان بيني وبينه البحر، أو بيني وبينه السفر إلى روما في البيت المشهور.
وما كنت أخشى أنْ تكون وفاته بكفي سبنتاه طائش الكف أخرق، والشاعر الذي يرثي عمر يذكر الغلام الفاسي الذي طعنه.
أما شاعرنا فيصطنع السبنتاة هذه في وصف عذراء حسناء، قد أسكرها الشباب، وأي بأس عليه لو اصطنع كلمة أخرى تؤدي معناه، ولا تشق على الأساتذة والطلاب وأوساط الناس جميعًا.
وعلى رغم هذا كله فشاعرنا فذ ما في ذلك شك، ليس في ديوانه على طوله بيت واحد يمكن أنْ يطرح أو يهمل، وهو يعرف أحيانًا كيف يعذب ويلين حين يعبث، وحين يداعب الطبيعة، أو يتحدث إلى الأطفال، فهو قد مارس التعليم، وهو الآن أستاذ، ولكنه مع الأسف حين يعبث لا يلبث أنْ يسأم السهولة ويضيق بها، ويقول في آخر مقطوعة من مقطوعاته: هذا كلام فارغ ونؤثر اطراحه.
وليست المقطوعة كلامًا فارغًا، وإنما أفرغها عنده أنها لا تشتمل على الطخا، ولا على السبنتاة، ولا على ما يشبههما من هذه الألفاظ التي هي إلى نوادر أبي زيد الأنصاري أقرب منها إلى أي شيء آخر.
وللشاعر غناء رائع كنت أحب أنْ أقف عنده، وأنْ أطيل الوقوف، ولكن إنْ فعلت لم أفرغ، ولم يفرغ القارئ، ولم يجد هذا الحديث مكانه في الجمهورية.
ومن حق كل مثقف في الأدب العربي أنْ يقرأ هذا الديوان، فسيجد فيه متعة لا شك فيها وروعة، قلما نظفر بها في شعر معاصر، ولكنه محتاج دائمًا إلى أنْ يكون المعجم قريبًا منه.
ولي بعد هذا كله عتب على الشاعر المجيد، وعتب لا يخلو من مرارة، ومن بعض ما يجد الصديق من خيبة الأمل. فما هذا التعريض بمصر في بعض شعره، أو ما خوفه أنْ تستأثر مصر بالنيل من دون السودان، ومتى خطر لذي عقل أنَّ مصر يمكن أنْ تستأثر بخير دون جيرانها من قرب منها ومن بعد عنها.
والتاريخ لم يعرف مصر منذ أقدم عصورها إلا مؤثرة على نفسها، لا تكره أنْ توسع على غيرها وإنْ ضاق بها العيش، وما أعرف أنَّ مصر استأثرت بشيء دون جيرانها في يوم من الأيام، والشاعر نفسه — فيما أعلم — مدين لمصر بالكثير فبعلمها عرف العربية، وتثقف فيها وبلغ من الفقه بها ما بلغ.
والشعر الذي يغمز فيه مصر هو قوله:
وإني لأخشى أنْ أرى النيل في غد
شريعة مصر علها وانتهالها
نحن إلى وادٍ خصيب ومنزل
سباسب تقلي الناجيات اعتمالها
نحن إلى ود خصيب ومنزا
ونخل على شاطئيه أرخت ظلالها
ونبدل خطا بعد جنتنا التي
جنينا جناها وارتوينا ذلالها
عفا الله عنك — أيها الشاعر الصديق — ما أكثر ما ذكرت خيانة الود ونقض العهد والإخلال بحق الإخاء، وها أنت ذا تورط نفسك في بعض ما أنكرت على من خان عهدك من الإخوان والخلان، فاردد على نفسك بعض حلمك، ولا نطع الهوى فيضلك عن سبيل الله، واذكر قول الشاعر القديم:
إذا أنت طاوعت للهوى قادك الهوى
إلى بعض ما فيه عليك سبيل
وأنا على رغم هذا كله أهنئك بشعرك الرائع، وأتمنى أنْ يذوق منه قراؤك مثل ما ذقت، وأنْ يجدوا فيه من الروعة مثل ما وجدت، وإنْ كان هذا على أكثرهم عسيرًا.