بسم الله الرحمن الرحيم
معنى و(يعلم ما في الأرحام)
لقد استطاع العلم الحديث التعرف على نوع الجنين إن كان ذكراً أو أنثى وهو في بطن أمه. فظن كثير من الناس أن معرفة الجنين تتعارض مع قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) لقمان
ولكن تفسير هذه الآية يوضح علم الله العميق في الأرحام الذي لم ولن يصل إليه أحد. إذاً معرفة الجنين إن كان ذكراً أو أنثى ليس هو المقصود في الآية. وإنما المقصود من الآية مرتبط بتفسير الآية التالي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (5) الحـج. حيث روى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم, أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً, وإن قيل: مخلقة قال: أي رب ذكر أو أنثى, شقي أو سيعد, ما الأجل وما الأثر, وبأي أرض يموت ؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك ؟ فتقول: الله, فيقال من رازقك ؟ فتقول الله, فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب, فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة, قال: فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها, حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان, ثم تلا عامر الشعبي {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة} فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة, وإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دماً, وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.
فهذه المعاني تؤكد أن الله وحده الذي يعلم أي الأرحام سيكون بها حمل وأيها لا يكون بها شيئاً وأيها سيكون بها حمل غير مكتمل وغير مخلق. كما أنه وحده الذي يعلم ما كتبه في رحم كل امرأة و كم عدد مرات حملها وكم عدد ما سيبقى في رحمها إلى نهاية فترة الحمل منه وكم عدد ما سيقذفه رحمها دماً لعدم كمال نموه. والله أعلم. وهذا والله أعلم تفسير قوله تعالى: {اللّهُ يَعْلَم مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (8) الرعد
والتفسير التالي يؤيد هذا المعنى أيضًا وهو
يا أيها الناس) أي أهل مكة (إن كنتم في ريب) شك (من البعث فإنا خلقناكم) أي أصلكم آدم (من تراب ثم) خلقنا ذريته (من نطفة) مني (ثم من علقة) وهي الدم الجامد (ثم من مضغة) وهي لحمة قدر ما يمضغ (مخلقة) مصورة تامة الخلق (وغير مخلقة) أي غير تامة الخلقة (لنبين لكم) كمال قدرتنا لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته (ونقر) مستأنف (في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى) وقت خروجه. أي أن الله وحده الذي يعلم بعدد النطف التي ستحملها كل الأرحام والتي خلقها كذرية لأبينا آدم. وهو وحده الذي يعلم عدد النطف التي سينقص نموها فتسقط قبل أن تخلق خلقاً كاملاً فتنقص من الذرية ويعلم بعدد النطف التي سيستأنف نموها ويزداد وقت تواجدها في الأرحام إلى أن تكتمل فتخرج خلقاً كاملاً. والله أعلم
من هذه التفاسير نصل لمعنى الآية: { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) لقمان. فالله يتحدث عن أشياء غيبية فعلاً لا يتأتى علمها لأحد غيره . فهو إذاً لا يتحدث عن الطفل المكتمل النمو الذي صار العلم الحديث يتعرف عن نوعه إن كان ذكراً أو أنثى. والحديث الذي يخبر عن مفاتيح الغيب يفسر معنى الآية كما أنه يوضح أن معنى ويعلم ما في الأرحام في الآية "34 لقمان" هو نفس المعنى في الآية 8 الرعد أي يعلم ما تغيض به الأرحام وما تزداد والله أعلم. والحديث هو: عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس, لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله, ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله, ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله, ولا تدري نفس بأي أرض تموت, ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» وقال العوفي عن ابن عباس {وما تغيض الأرحام} يعني السقط,{وما تزداد} يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً, وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر, ومن تحمل تسعة أشهر, ومنهن من تزيد في الحمل, ومنهن من تنقص, فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى.
وجاء تفسير القرطبي للآية 8 الرعد يعضد المعنى حيث ذكر حديث مفاتيح الغيب ثم قال:. (واختلف العلماء في تأويل قوله: "وما تغيض الأرحام وما تزداد" فقال قتادة: المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر، وما تزداد فوق التسعة؛ وكذلك قال ابن عباس. وقال مجاهد: إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها؛ فإن زادت على التسعة كان تماما لما نقص؛ وعنه: الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداد منه.)