بسم الله الرحمن الرحيم
الحكمة من وراء النهي من التكاثر من حب زينة الحياة الدنيا لقد عرفنا معنى التقوى وهو الطاعة والشكر للخالق وحده وعدم طاعة إبليس. والشيطان يحبب الخلق في تغيير نعمة الله أو المزيد منها. ومن يطيعه في ذلك يكون قد فقد تقوى ربه لأنه لم يشكره على نعمته كما طلب قوم سيدنا موسى تغيير طعامهم وعصيان أوامره يوم السبت. لذا كانت النعم أي حب زينة الحياة الدنيا هي المحك الذي يوضح الإنسان التقي من غيره. فهي التي جاء فيها قوله تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ) (وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا) ( فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ) (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ) (فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ) 37-41 النازعات. لذا نهى الله الخلق عن حب الزينة لأنها امتحان لتمييز المؤمن حقاً الذي يتقي ربه ويخشاه من المؤمن الضعيف الذي لا يتقي ربه ولا يخشاه. وقد أوضح كثير من العلماء الحكمة من النهي من حب الزينة نذكر بعض أقوالهم. كما نذكر بعض الأحاديث القدسية التي تعكس الحكمة من وراء النهي عن حب الزينة.
لقد أوضح القرطبي الحكمة من وراء النهي عن حب الزينة أي الشهوات والازدياد منها بقوله
ٱتباع الشهوات مردٍ وطاعتها مهلك لما ورد في الحديث:" حُفِّت الجنة بالمكاره وحُفّت النار بالشهوات " وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها. وأن النار لا ينْجَى منها إلا بترك الشهوات وفِطام النفس عنها. وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " طريق الجنة حزْنٌ برَبْوة وطريق النار سهل بسَهْوَة " ؛ وهو معنى قوله: " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " أي طريق الجنة صعبة المسلك فيه أعلى ما يكون من الرّوَابِي، وطريق النار سهل لاغِلظ فيه ولا وعورة، وهو معنى قوله «سهل بسهوة»)
وكذلك الأحاديث القدسية التالية التي أوضحت هلاك الخلق في اشتغالهم بالزينة وصدهم عن عبادة الله. أي أن التكاثر من الزينة يتعارض مع عبادة الله وذكره وتعارض مع حمد الله على نعمه ويتعارض مع هدى الله والاستقامة نتيجة الميل مع الشيطان واتباع الهوى. والأحاديث هي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى: يابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلاً، ولم أسد فقرك ". وعن أبي الدرداء مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من يوم طلعت فيه الشمس، إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " قال: وأنزل في قوله: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم: { وَٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ } الآية.
وقد أوضح العلماء الحكمة من وراء النهي بتوضيح حقيقتها ودناءتها ونهايتها المؤلمة وعظمة الانشغال بعبادة الله التي نهايتها مفرحة. ومن أهم هذه الأقوال قول سيدنا علي بن أبي طالب فيها وقول ابن القيم الجوزية. فقد قال سيدنا علي بن أبي طالب لعمار
لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها.).
أما أقوال ابن قيم الجوزية فهي التي توضح سوء تأويل الشيطان وتزينه لحب الشهوات وحسن شكر النعم التي قسمها الله والانشغال بعبادته. فقول ابن القيم الجوزية في ذلك هو: (من الآفات الخفية أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له فيملها العبد ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها. وربه برحمته فلا يخرجه من تلك النعمة. ويذره بجهله وسوء اختياره لنفسه حتى إذا ضاق ذرعاً بتلك النعمة وتبرم بها واستحكم ملكه لها سلبه الله إياها. فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان وما صار إليه اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه. فإذا أراد الله بعبده خيراً ورشداً أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورضاه به وأوزعه شكره عليه...وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها بل يسخطها ويعدها مصيبة، هذا وهي من أعظم نعم الله عليه ... فكم سعت إلى أحدهم نعمة وهو ساع في ردها بجهده وكم وصلت إليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله قال الله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيراً ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فليس للنعم أعدى من نفس العبد). كما قال ابن القيم أيضاً في طلب الدنيا ما يلي: (السير في طلبها سير في أرض مسبعة. والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح: المفروح به هو عين المحزون عليه. ولهذا جاء وصف ابن القيم للعقل بالآتي
.. والعقل آلة للتفكر والتدبر لعواقب الأمور الدينية والدنيوية وإيثار ما ينبغي إيثاره وإهمال ما ينبغي إهماله.) وقال أيضاً: تزخرفت الشهوات لأعين الطباع فغض عنها الذين يؤمنون بالغيب ووقع تابعوها في بيداء الحسرات..)
وكلمات ابن القيم هذه قد أوضحت بجلاء الفرق بين الذين يخافون من عواقب الأمور لاستخدام آلة تفكيرهم "أي عقلهم" استخداماً صحيحاً (وهم الراسخون في العلم أولوا الألباب الذين ذكرتهم الآية 7 آل عمران)، فلم يستجيبوا لإغواء الشيطان لأنهم يعلمون أن العواقب لا يعلمها إلا الله، وبين الذين زخرف الشيطان لأعينهم تلك الشهوات فجروا وراءها فوقعوا في بيداء الندم والحسرات (وهم الذين في قلوبهم زيغ الذين يتبعون ما تشابه من الأحكام للتكاثر من الزينة التي هي فتنة). هذا ما قاله ابن قيم الجوزية في طلب فتن الدنيا عامة وابتغائها دون العلم بعواقبها وما تجلبه من أحزان..