بسم الله الرحمن الرحيم
مضمون سورة البقرة
أحسب أن مضمون سورة البقرة مبني على معرفة آياتها الأوائل. حيث إنها تحدثت عن الكفار والمنافقين وسردت قصص محددة وأوضحت الأحكام والقوانين . عليه يمكن الوصول لمضمونها من خلال الاجابات عن الأسئلة التالية: لماذا ابتدئت السورة بالحروف المقطعة (الم)؟ لماذا أتى نفي الشك عن الكتاب؟ لماذا كان تنزيل الكتاب هدىً للمتقين فقط؟ لماذا تحدثت السورة عن موقف الكفار والمنافقين بإذهاب وتفصيل؟ لماذا سردت القصص ؟ ولماذا أوضحت الأحكام والقوانين بتفصيل؟
السؤال الأول: لماذا ابتدئت السورة بالحروف المقطعة (الم)؟
إن الاجابة عن السؤال الأول تقتضي توضيح بعض المعلومات. فقد أوضحت الآية
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ) 7 آل عمران أن الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب. وأوضحت الأحاديث النبوية أن سورة الفاتحة هي أم الكتاب. إذاً آيات الفاتحة هن الآيات المحكمات وبالتالي هن اللاتي فصلهن الحكيم الخبير لقوله تعالى: ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) 1 هود وقد جاء التفصيل في سور كما قال السيدة عائشة رضي الله عنها: (إن أول مانزل منه سورة من المفصل ذكر فيها الجنة والنار).
وبالتمعن في سور القرآن نجد أن كل مجموعة من السور قد أنزلت تفصيلاً لآية من آيات الفاتحة المحكمات ولهذا كانت بدايتهن هي إحدى آيات الفاتحة أو ما يدل عليها كالآتي:
السور التي افتتحت "بالحمد لله" وعددها أربع سور، هي السور التي أنزلت لتفصيل آيتي:{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} و{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. والسور التي ابتدأت بأسماء مختلفة ليوم الدين كالانفطار والانشقاق والزلزلة والتغابن هي التي أنزلت لتفصيل الآية:{ماَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. وعددها أربع وعشرون سورة. أما السور التي ابتدأت بلفظ التسبيح وبلفظ تبارك ( وهما لفظا العبادة التي هي توحيد الله المطلق وتنزيهه عن الوالد والصاحبة والشريك والولد) قد أنزلت لتفصيل الآية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وعدد هذه السور ثمانية. كما ابتدأت أربعون سورة "بيا أيها الناس اتقوا ربكم"، و "يا أيها المدثر قم فأنذر"، و"يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة"، و"سورة أنزلناها"...". وهي السور التي ابتدأت بالنداء لفئات مختلفة من الناس لتلفت انتباههم لما سينزل عليهم من الأحكام والتكاليف. فهي إذاً السور التي أنزلت تفصيلاً للآية المحكمة: {اهدِنَا الصِّرَاط المُستَقِيمَ} أي الاهتداء إلى إتباع المنهج الرباني. أما الآية: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فقد جاء تفصيلها في ثماني سور وهي ابتديء بعضها بالمغضوب عليهم والضالين كسورة "المنافقون"، وبعضها بالذين أنعم الله عليهم" كسورة "المؤمنون". كما فصل فيها صراط وجزاء كل من الفئتين "كسورتي المطففين وسورة الفيل". وتبقت تسع وعشرون سورة وهي التي ابتدأت بالحروف المقطعة. بذا استنبط أن السور التي ابتدأت بالحروف المقطعة هي التي أنزلت لتفصيل الآية: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}. ويستنبط من ذلك أن الحروف المقطعة هي أسماء تعضد وتماثل {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في التركيب والمعنى والمدلول، فهي إذاً تتكون من الاسم الوتر "الله" ومن أسماء شفع كالاسم "الرحمن الرحيم".
عليه تكون إدابة السؤال الأول كالآتي: ابتدئت سورة البقرة بالحروف المقطعة لأنها تفصيل لآية البسملة ولأن البداية هي قسم من الله باسم من أسمائه الثلاثية التي على صيغة البسملة لنفي الشك في الكتاب وتوكيد أن الكتاب لا ريب فيه لأنه من عنده.
السؤال الثاني: لماذا نفي الله الشك عن الكتاب؟
أحسب أن استراتيجية تنزيل الكتاب مبنية على الصبر والتأني حيث أنزلت الرسالة في المرحلة الأولى لتعليم الناس علوم الوحدانية أي أن الله هو خالق السماوات والأرض ومالك كل شيئ واسماءه وأفعالهوأن له الرسل والملائكة والكتب و... وبعد أن يأخذ الناس وقتهم وتلين قلوبهم إلى ذكر الله أنزلت لهم الأوامر والنواهي التي جعلها الله أداةً لذكره وفتنة يميز بها الخبيث من الطيب. وذلك لتوعد إبليس ربه بأن يتخذ من عباده (أي الذين آمنوا ) نصيباً مفروضاً. وذلك بناءً على قوله تعالى: (أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) 2-3 العنكبوت وقد كانت الفتنة في هذه المرحلة هي الصلاة والانفاق في سبيل الله لقوله تعالى : (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال) إبراهيم. كما أنزلت في تلك المرحلة أحكام الحلال البين والحرام البين الذي فيها النص الواضح بلفظي "أحل لكم" و"حرم عليكم".
وبعد الهجرة أنزلت علوم الساعة. وهي العلوم التي جعلت الكفار والمنافقين يشكون في الكتاب نتيجة شكهم في مقدرة الله بأنه سيحي الخلق بعد أن يصيروا عظاماً نخرة. فأثر ذلك على الرسول وعلى الذين آمنوا معه.
فإجابة السؤال الثاني هي: إن الله قد أقسم باسم من أسمائه التي توضح أنه أقدر القادرين على إحياء الموتى وأن الكتاب لا ريب فيه تخفيفاً لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كي لا يبتئسوا.
السؤال الثالث: لماذا كان تنزيل الكتاب هدىً للمتقين فقط؟
ومن اجابات السؤالين الأول والثاني نصل إلى أن الله أراد أن يوضح للرسول صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا معه أن الكفار والمنافقين ميئوس منهم ولم يكن الله يعبأ بهم. ولهذا أنزل الكتاب أصلاً ليكون هدىً للمؤمنين المتقين الذين يؤمنون بالله بالغيب ويؤمنون باليوم الآخر. ولذلك لم يكن هنالك وزن لانكار الكفار والمنافقين للكتاب.
السؤال الرابع: لماذا تحدثت السورة عن موقف الكفار والمنافقين بإذهاب وتفصيل؟
لقد أنزل الكتاب هدىً للمتقين. ومن أهم الأشياء التي يهدي بها الله المتقين هو توضيح صراط الكفار والمنافقين لأنهم ضالون عن الصراط الصحيح وهو الصراط المستقيم ولأنهم مغضوب عليهم ومصيرهم إلى النار. ولهذا اوضح الله صراطهم بإذهاب وتفصيل كي يتعظ منه المتقون فيتفادونه ولا يتبعونه.
السؤال الخامس: لماذا سردت القصص ؟
لقد سرد الله في هذه السورة القصص التي تؤكد أنه أقدر القادرين على كل شيء خاصة احياء الموتى وإرجاعهم إليه فيدحض بذلك حجة الكفار والمنافقين التي أنكروا بها الكتاب وفي نفس الوقت كي تطمئن قلوب المتقين فلا يلتفتون لما يدعيه الكفار والمنافقين. فسرد لهم قصة البقرة التي بمجرد ضربة الميت بجزء من لحمها عادت الروح للميت وتحدث بقاتله.كما سرد لهم قصة الذي مر على القرية وهي خاوية وتعجب كيف يحيها الله بعد أن صارت خربة فأماته الله مائة عام ثم أحياه. وكذلك قصة سيدنا إبراهيم واحياء الطير بعد صاروا أشلاءً. أما سرد قصة أبينا آدم وابليس فقد سردها الله ليتقي المؤمنين مكر إبليس
الذي يعمل جاهداً لاغوائهم ولأن يقعد لهم صراطهم المستقيم وأن لا يكونوا شاكرين حتى يكون مصيرهم كمصيره وهو الخروج من الجنة.
السؤال السادس: لماذا أوضحت السورة الأحكام والقوانين بتفصيل؟
إن الأحكام والقوانين هي أيضاً هدىً للمتقين وفي نفس الوقت هي فتنة لتمييز المؤمن
الحق الذي يؤمن بيوم القيامة من الخبيث المنافق الذي أعلن إيمانه بيوم الدين كذباً ورئاءً. فبعد أن أوضح الله للمتقين صراط الكفار والمنافقين ليتفادوا اتباعه أوضح لهم الصراط المستقيم الذي يجب اتباعه وهو العمل بالأوامر والانتهاء عن النواهي. ومن أهم الأوامر التي أنزلت بعد الهجرة هي الصوم والحج المكملان لأركان الإيمان.كما أنزلت معهم جميع التكاليف. ولهذا أوضح الله في هذه السورة جميع التكاليف التي يجب على من ايؤمن باليوم الآخر أن يعمل بها توكيداً لإيمانه باليوم الآخر وما سيحدث فيه لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ) 110الكهف
كما أنزلت في السورة معلومات الأقدار خيرها وشرها ولهذا أوضحت أن القتال في سبيل الله وتوحيده هي من الأقدار التي يعتقد الناس أنها من الأقدار شرها لما يظهر لهم في الوقت الذي جعل الله فيه الخير الباطن . ولهذا أوضحت السورة الأمصائب التي يجب على من يؤممن بالأقدار أن يصبر لينال رضاء الله وجنته. وفي هذه المعلومات هدىً للناس وتعليم لهم كيف يصبر المؤمن عندما يصيبهم من خير ومن شر والله أعلم