نظّمت الجمعية الجهوية للدراسات الثقافية بالكاف (الجمهورية التونسية) بالاشتراك مع المعهد العالي للدراسات التطبيقيّة في الإنسانيات بالكاف يومي الجمعة 26 والسبت 27 أفريل 2012 ندوة علميّة وطنيّة تحت عنوان " الاختيارات الفكرية المطروحة في تونس اليوم" شارك فيها عدد من الأساتذة من جامعتي جندوبة ومنّوبة. وقد كانت هذه الندوة في الحقيقة استجابة لعدد من الأسئلة الكبرى التي شغلت التونسيّين بمختلف شرائحهم مباشرة بعد 14 جانفي 2011 إذ وجد التونسيّون أنفسهم فجأة يصنعون حدثا عالميّا يثير اهتمام الناس في مشارق الأرض ومغاربها. كان الحدث تاريخيّا وكان التونسيّون لحظتها في غمرة الحدث فلم يتسنّ لهم أن يدركوا عظمة ما يصنعون، وكثر الحديث واستفاقت أسئلة شتّى كنّا نحسب أنّها مرّت مع مرور الزمان ولكنّ التاريخ يعيدها من جديد تماما كما طُرحت منذ قرنين تقريبا. جاءت الثورة إذن واستعاد الناس أسئلة طرحها الأجداد قُبيل أن يداهمهم الاستعمار. وبعودة هذه الأسئلة طفت على السطح إشكاليّات كثيرة تداولها الناس في مختلف مجالات التواصل فاحتجبت الأسئلة المباشرة التي تولّدت عنها الثورة مثل سؤال الديمقراطيّة والحرّية وسؤال التنمية وسؤال العدالة وحلّت محلّها أسئلة أخرى مثل سؤال الهويّة وسؤال الحداثة وسؤال الآخر. ولئن كانت الأسئلة الأولى قد شغلت التونسيين طيلة الفترتين البورقيبيّة والنوفمبريّة وتباينت بشأنها الآراء والأفكار، فقد كانت أسئلة الهويّة والحداثة والعلاقة بين النحن والآخرين في نظر الكثير من التونسيّين أسئلة كلاسيكيّة شغلت الجيلين الأوّل والثاني من عصر النهضة، أي من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وانتهت إلى بلورة المشروع الحضاريّ المعروف لدى النخبة الفكريّة والسياسيّة بالمشروع الإصلاحيّ. إلاّ أنّ الاحتجاجات الشعبية التي أدّت إلى انهيار السلطة السياسيّة وانحلال أجزاء كثيرة من مؤسّسة الدولة التونسية دفعت بالتونسيّين إلى اجتياز أسئلة الديمقراطية والحريّة والتنمية والعدالة إلى أسئلة قديمة ولكنّها جوهريّة لأنّها تتّصل في واقع الأمر بالوجود الحضاري خلافا لتلك الأسئلة المتعلّقة بالوجود السياسي والاجتماعي. إن العودة الشاملة إلى أسئلة الوجود الحضاري (سؤال الهوية، وسؤال الحداثة والعلاقة بالآخر) هي في تقديرنا العلامة الأبرز على التحوّل المفصليّ في مسار الثورة التونسية من حركة احتجاج شعبيّ وسياسيّ لا تتعدّى أسئلة الديمقراطيّة والحريّة والتنمية والعدالة إلى حركة تريد لنفسها أن تكون حركة تأسيسيّة بما في التأسيس من هدم لأصول الاجتماع التونسي التي وضعها المشروع الإصلاحي ببعديه الفكريّ والسياسي وإعادة بناء لتلك الأصول على أسس أخرى غير الأسس الإصلاحيّة. ولهذا السبب تحديدا انتقل التونسيّون من التفكير في الآليات الممكنة لبناء نظام سياسيّ جديد يضمن الحرّيات والحقوق والعدالة والتنمية إلى التفكير في اختيار ثقافي بديل يتجاوز الإخلالات الكامنة في الاختيار الثقافي الذي سار فيه المشروع الإصلاحي وهو التأليف بين التراث والحداثة في أنماط العيش والتفكير والسلوك.
ومن اللافت للنظر أنّ النقابيّين والسياسيّين والمثقّفين الذين فاجأتهم حركة الاحتجاج الشعبي فالتحقوا بها وعملوا على توجيهها نحو أفق الديمقراطية والحرّية والتنمية والعدالة، وكان هذا واضحا في الشعارات الموحّدة التي رفعها المتظاهرون في مختلف المدن والجهات وفي السلوك المدنيّ الذي تميّز به هؤلاء المتظاهرون دون اللجوء إلى العنف والتخريب، قد فاجأهم الانتقال التاريخيّ السريع من المطالب السياسية والاجتماعية (الديمقراطية والحرّية والتنمية والعدالة) إلى مطالب الهوية وما يتفرّع عنه من أسئلة حضاريّة كبرى (التراث والحداثة، النحن والآخر، الإسلام والغرب، العلمانية والدين، السلف والخلف...) فانخرطوا في الصراع ولكن بأدوات سياسيّة وإعلاميّة ومن منطلقات حزبيّة. اختلطت الأسئلة إذن وتحوّل الصراع القديم من صراع سياسيّ / ميكانيزمي بين الدولة من ناحية والمجتمعين السياسي والمدني من ناحية أخرى إلى صراع فكري بين اختيارين ثقافيّين متضادّين: اختيار يتوجّه نحو التراث ويستلهم منه رؤى متباينة حول أنماط العيش والتفكير والسلوك، واختيار يتوجّه نحو الحداثة ويستلهم منها رؤى متباينة بدورها حول الأنماط نفسها. وكانت النتيجة أن وجدنا أنفسنا في حلبة صراع متعدّد الأطراف، أنصار التراث يتصارعون في ما بينهم (سلفيون، إخوانيّون، إسلاميّون تقدّميون، قوميّون...) ويصارعون أنصار الحداثة، وهم بدورهم يتصارعون في ما بينهم (ليبراليّون، اشتراكيون، فوضوّيون، ديمقراطيون، وطنيّون...).
انقسام حادّ طال النسيج الاجتماعي والثقافي وكانت ظاهرة الانفجار والانصهار التي ميّزت الأحزاب السياسيّة الكبرى والصغرى والقديمة والجديدة هي العلامة الأبرز على هذا الانقسام. ولئن امتعض التونسيّون من هذه الظاهرة ورأوا فيها علامة على خطر داهم يهدّد المجتمع والدولة في الوقت نفسه، فهي في واقع الأمر الدليل الملموس على أن التونسيّين يعيشون لحظة تاريخيّة فارقة هي لحظة العبور من زمن ثقافي هو زمن النهضة العربيّة ومن مشروع حضاري هو المشروع الإصلاحي إلى زمن ثقافي آخر قد يكون زمن ما قبل النهضة أو زمن الحداثة وما بعدها وإلى مشروع حضاري آخر قد يكون المشروع التراثي وقد يكون المشروع الحداثي. هذا إذا ما كانت الثورة التونسية حركة تاريخيّة، أمّا إذا كانت حركة غير تاريخيّة فسنعود إلى النقطة التي انطلقنا منها وهي زمن التوفيق بين قيم الحداثة وقيم التراث.
ضمن هذا الإطار الواسع تتنزّل أشغال هذه الندوة العلميّة. فقد تعرّض الأستاذ رشيد الزواوي في مداخلة أولى إلى ما يحدث في تونس لا ليتناوله من الناحيتين السياسيّة والإيديولوجيّة بل لينظر في محمولاته الفلسفيّة. فالثورة في تقديره، ومن منظور فلسفيّ، تتعدّى حدود الإطاحة بسلطة سياسيّة وبناء سلطة أخرى مكانها لأنّها في الأصل عمل جماعيّ يهدف إلى إسقاط أسطورة وبناء أسطورة أخرى تحلّ محلّها.
وفي المداخلة الثانية تعرّض الأستاذ مصطفى التواتي إلى الخصوصيّات التي ميّزت الثورة التونسية وهي في تقديره ثورة شبابيّة مدنيّة ذكيّة تجاوزت الأشكال التقليديّة للثورات حين وظّف المحتجّون مهاراتهم التقنيّة واستغنوا عن أشكال التنظّم التقليدية وصنعوا لأنفسهم وسائل مقاومة جديدة مكّنتهم من كسب تعاطف شعبيّ عامّ في الداخل والخارج. وبيّن في هذا السياق أنّ الثورة التونسيّة لم يكن لها لتندلع لو لم يتحوّل الشاب محمّد البوعزيزي بعد أن أضرم النار في جسده إلى قدّيس دنيويّ بفضل الصورة الرمزيّة التي تناقلها المحتجّون على هواتفهم الجوّالة وعلى صفحات الفايسبوك والتويتر قبل أن تنشرها بعض الفضائيّات على نطاق واسع، ولم يكن لهذه الثورة أن تستمرّ بعد فرار ابن عليّ لو لم يتشبّث الشباب بمطالبهم الرئيسيّة وهي الحرّية والكرامة. إنّ هذه الثورة، وفق ما يذهب إليه الأستاذ مصطفى التواتي نتيجة حتميّة لانخرام العقد الضمنيّ بين التونسيين ونظامهم القائم أساسا على مبدأ الرفاه والأمن مقابل التنازل عن الحرّيات السياسيّة والفكريّة. ففي الوقت الذي أخلّت فيه السلطة عن واجبها (تحقيق الرفاه وضمان الأمن) شقّ الشعب عليها عصا الطاعة وأعلن ثورته في وجهها وفي وجه رموزها.
وفي المداخلة الثالثة تناول الأستاذ محمد العادل اللطيف بالنقد والتحليل الخطاب الحداثي في تونس اليوم وما لحق هذا الخطاب من تشويهات وتشوّهات جعلته يبتعد إلى حدّ كبير عن قيم الحداثة الحقيقيّة فألحق بها أضرارا فادحة تجلّت بوضوح في اختيارات عموم التونسيّين. وقد ركّز في هذه المداخلة على ضربين من ضروب التشويه الذي أصاب الحداثة في الخطاب التونسي المعاصر، تشويه يأتيها من المحسوبين عليها وهم في الغالب اليساريّون، وتشويه يأتيها من دائرة أخرى هي الدائرة الإسلامية التي تسعى إلى توظيف الكثير من مقولات الحداثة واستخدامها في سياقات غريبة عنها، والنتيجة أنّ الضحيّة في الحالتين هي الحداثة وقيمها. وفي المداخلة الرابعة تناول الأستاذ مجيد الجمل بالدرس والتحليل التجربة العلمانية/الإسلامية في تركيا منذ الفترة الكمالية إلى اليوم متسائلا عن حظوظ النجاح الممكنة لمثل هذه التجربة في تونس بعد الثورة مشيرا في الوقت نفسه إلى الفوارق الجوهرية بين التجربتين التونسية والتركية في ما يتعلّق بالعلمانية، فقد كانت تركيا منذ الفترة الكمالية وظلّت رغم صعود التيار الإسلامي إلى الحكم أكثر جرأة في علمنة الدولة من تونس، وبيّن بالخصوص كيف توقّف المجلس القومي التأسيسي عند حدود التوفيق أو التلفيق بين قيم الحداثة والعلمانية من جهة وقيم العروبة والإسلام من جهة أخرى ولم تكن له الجرأة التاريخية الكافية لتأسيس دولة علمانية على الطراز الحديث، واستبعد أن تمضي تونس الثورة إلى آفاق أبعد ممّا مضى إليها التونسيّون فجر الاستقلال.
وفي المداخلة الخامسة ناقش الأستاذ الطاهر المناعي إشكالية العلاقة بين العلمانية والدين في الحضارتين الغربيّة والعربية متسائلا إن كانت علاقة صدام أم وئام وبيّن من خلال الشواهد التاريخية الملموسة كيف كانت مسارات العلمنة في أوروبا تحريرا للدّين وانتصارا له بفصله عن السياسة فكفّ عن أن يكون أداة لاضطهاد البشر. وبيّن في المقابل كيف كانت التجربة التاريخية للإسلام في جوهرها تجربة علمانية لما بين مؤسّستي الخلفاء والعلماء من حدود واضحة، إلاّ أن عصور الانحطاط وما تلاها من انحدار شامل في الفكر والمجتمع غيّب تلك التجربة التاريخية ووضع محلّها رؤية دينية غريبة عن قيم الإسلام الأمر الذي جعل الكثير من الحركات الإسلامية اليوم تنفر من العلمانية وتعتبرها مناقضة للدين والواقع خلاف ذلك.
وفي المداخلة السادسة تناول الأستاذ محمد الحبيب الطالبي بالدرس والتحليل مفهوم السلفية في الفكر العربي الحديث والمعاصر وتوقّف بالخصوص عند المعنى المقصود بالسلف والسلفية في كتابات عصر النهضة وهو معنى البعث والإحياء والتجديد في قيم الإسلام والعودة إلى ما يسمّيه محمد أركون بعصر الانفتاح وما أثمره من معارف وعلوم وتجاوز السياج الدوغمائي الذي وضعه ابن تيمية للعقل العربي الإسلامي وسجنه فيه، وقارن ذلك كلّه بالمعاني الرائجة اليوم حول ظاهرة السلفية وكيف أن الخطاب السلفي المعاصر يرتدّ بالفكر العربي الإسلامي إلى مرحلة ما قبل عصر النهضة العربيّة ليتّصل بمرحلة الانحطاط وليعيد العقل إلى السياج الدوغمائي الذي شرع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والحركة الإصلاحية في تفكيكه.
وفي المداخلة السابعة والأخيرة تناول الأستاذ محمد الهادي الطاهري بالدرس والتحليل مكوّنات المشروع الإصلاحي في تونس مميّزا بين لحظتين: لحظة التشكّل وهي التي ولد فيها المشروع الإصلاحي في أذهان النخب الفكرية والسياسية وانتهت باحتكار الدولة الوطنية لهذا المشروع وإقصاء جميع الفاعلين فيه (المثقّفون، السياسيون المعارضون، النقابات، الطلاب)، ولحظة الانهيار وهي التي تعطّل فيها هذا المشروع تماما. وبتعطّله نشأ المسار الثوري فاقتسم المجتمع المشروع الإصلاحي وتفكّكت اللحمة بين طرفيه (التراث والحداثة) وتحوّل العلاقة بين الجماعات السياسية والفكرية في تونس من علاقات تضافر وتعاون على تحقيق المشروع الإصلاحي في جوهره وهو الموازنة بين القيم التراثية والقيم الحداثية إلى علاقات تنازع وصدام تطوّرت شيئا فشيئا لتأخذ شكلا عنيفا. وأكّد في سياق هذا التحليل أنّ الصراع بأشكاله العنيفة والخفيفة يعبّر عن شعور طبيعيّ لدى هذه الجماعات بخطر يهدّد وجودها، وأنّ هذا شرط تاريخي لبناء توازن جديد يعبر من خلاله المشروع الإصلاحي أفق عصر النهضة إلى أفق تاريخي جديد هو أفق زمن الثورة.
د. محمد الهادي الطاهري، جامعة جندوبة.