''المنهج السياقي'' ودوره في ''فهم النص'' و''تحديد دلالات الألفاظ'' (1/2)
نماذج تطبيقية من القرآن الكريم
- النص: من المعلوم أن المراد بمصطلح "النص" في المعرفة اللسانية المعاصرة غير المراد به في تراثنا العربي الإسلامي؛ فالمعاصرون يعرّفونه بأنه مجموعة من الأحداث الكلامية ذات معنى وغرض تواصلي، تبدأ وجودها من مرسل للحدث اللغوي وتنتهي بمتلق له، ومؤهلة لأن تكون خطابا، أي أن توجَّه إلى شخص بعينه(1)، ومن ثَمَّ فهم يشترطون وحدة موضوع النص ووحدة مقصده(2). و"النص"، في تصور كثير من المعاصرين، يتجاوز الكينونة اللغوية المحدودة ولا ينحصر في مقولات اللغة على الرغم من أنه متشكل منها، بل يراعي الواقع الخارجي، ومن ثَمَّ فإن النص هو المعادل اللغوي للواقع الإنساني والكوني.
أما العلماء العرب المسلمون القدامى – ولا سيما الأصوليين- فقد كان لمصطلح النص عندهم مفهوم آخر فتحدثوا في "النص" بعبارات كثيرة أشهرها ما ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) بأنه "هو المستغني بالتنـزيل عن التأويل"(3) أي هو الكلام الذي لا يحتمل تفسيرا أو تأويلا لأن ظاهره يغني عن كل ذلك، وهو الذي أبانه الله لخلقه نصا ظاهرا بينا. ويبدو أن تعريف الشافعي هذا قد لقي قبولا لدى علمائنا القدامى فرددوه من بعده، ولا سيما الإمام الغزالي (ت 505 هـ) وابن حزم (ت 456 هـ) وغيرهما... ولم يخالفوه إلا في بعض الجزئيات(4)... وواضحٌ أننا لا نقصد هنا ما ذهب إليه أسلافنا، وإنما نريد بـ"النص" مفهومه اللساني الحديث كما يطلقه اللسانيون المعاصرون وكما أنضجه لغويو المدرسة الألمانية وغيرها، من أمثال: دراسلر W. Dressler وبتوفي Petôfi ودو بوغراند Robert De Beau grande وفان دايك T.A Van Dijk وغيرهم...
وعليه فإن "لسانيات النص" – Linguistique Textuelle -كما نقول في المغرب الكبير أو /"علم لغة النص"/ كما يقول إخواننا المشارقة- هي علمٌ ناشئٌ وحقلٌ معرفي جديد تكوّن بالتدريج في السبعينيات من القرن العشرين، وبرز بديلا نقديا لنظرية الأدب الكلاسيكية التي توارت في فكر "الحداثة" و"ما بعد الحداثة"، وراح هذا العلم الوليد يطوّر من مناهجه ومقولاته حتى غدا "أهمّ وافدٍ" على ساحة الدراسات اللسانية المعاصرة، وقد نشأ على أنقاض علوم سابقة له كـ"لسانيات الجملة" و"اللسانيات النَّسَـقية" و"الأسلوبية"، ثم انطلق من معطياتها وأسس عليها مقولات جديدة، وهو قريب جدا من صنوه "تحليل الخطاب"، غير أن هذا الفرع الأخير يقوم على أساس التحليل البنيوي، أما فرع "لسانيات النص"- حتى وإن استثمر جميع النظريات اللسانية السابقة عليه- فهو يقوم في الأعم الأغلب على أساس التحليل التداولي، وأهم ملمح في لسانيات النص أنه غني متداخل الاختصاصاتInter-disciplinaire يشكِّل محور ارتكاز عدة علوم، ويتأثر دون شك بالدوافع ووجهات النظر والمناهج والأدوات والمقولات التي تقوم عليها هذه العلوم.
وأما في التراث العربي فقد بحث بعض علمائنا في "النص" ونظّروا له ولم يتوقفوا عند التنظير للجملة كما يحلو لبعضهم أن يردد؛ فمن علمائنا الذين قدموا إسهاما علميا ناضجا (في مجال التنظير والتطبيق النصي) الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) في "نظرية النظم" (كتاب: دلائل الإعجاز)، وتبرز قيمته "النصية" في أنه جمع بين علوم كثيرة كـ"النحو" و"علم المعاني" و"علم البيان" و"التفسير" و"دلالة الألفاظ" و"المعجمية" و"المنطق"... وألّف بين أشتاتها في تناغم عجيب واتخذ منها أدوات معرفية متضافرة على تحقيق هدف واحد هو: خدمة النص القرآني وبيان إعجازه. وقد كانت فكرة "الانسجام النصي" (Cohérence textuelle) واضحة في ذهن عبد القاهر وضوحا متميزا حتى إننا نجده يعبر عنها بقوله: "واعلم أن مَثَلَ واضعِ الكلامِ مَثَلُ من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة فيذيبُ بعضَها في بعض حتى تصير قطعة واحدة..."(5) وهذا يدل على أن بنية النص في تصور عبد القاهر الجرجاني تصل إلى مرتبة "الصهر" الذي هو أعلى درجات "التشكيل".
ومنهم جمهور علماء أصول الفقه، ولا سيما الذين بحثوا منهم في حقليْ "دلالات الألفاظ" و"معاني الأساليب وما يترتب عليها من قواعد وأحكام"(6)، وتعرضوا للثنائيات الدلالية التي وضعوها تحت عناوين: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، والمحكم والمتشابه(7) ... فقد كان السادة الأصوليون جامعين للشروط العلمية والأدوات التحليلية التي تحققت لها "كفاية علمية" ممتازة في البحث النصي. وهذه الثنائيات تشمل الشروط الجوهرية والوظيفية والمعرفية للنص القرآني الكريم... وليس المقام مناسبا لتفصيل الكلام في ذلك. ومنهم صنفٌ آخر، هم المفسرون، والذين قاموا بجهود كبيرة في "تحليل" النص القرآني كلٌّ على طريقته؛ فقد سلكوا إلى فهمه طرائق منهجية شتى أهمها طريقة "السياق" كما سنذكر لاحقا. ولكن المفسرين يتفاوتون في الأدوات المعرفية المعتمدة بين أثرية ولغوية ومنطقية...
وقد أدرج علماؤنا القدامى- ضمن مفاهيم النص- مفهوم "القصد" وهو الغرض الذي يبتغيه المتكلم من الخطاب و"الفائدة" التي يرجو إبلاغها للمخاطَب، فلن يكون هناك "نص" ولا "خطاب" دون "قصد"، وهذا نفسه ما يركز عليه المعاصرون حين يرفعون من شأن "القصدية Intentionnalité" في كلام المتكلم، وخصوصا كما فعل الفيلسوفان المعاصران ج. ل. أوستين Austin وتلميذه ج. سيرل Searle، في "نظرية الأفعال الكلامية" التي هي أهم مفهوم من مفاهيم "التداولية" وأفضل إنجازاتها، وقد استعارا هذا المفهوم من الفيلسوف الظاهراتي إدموند هوسرل E. Husserl.