وقفت أنتظر دوري لأداء ثمن الأشياء التي اشتريتها ، تتقدمني امرأة مع رجل ، كان أكثر ما يشغلني أن لا يطول وقوفي لسبب من الأسباب ، أحيانا قد يقع خلل ما فنضطر زمنا ننتظر المكلف بالقن السري لفتح صندوق النقد لحذف ثمن سلعة أعاد الزبون النظر في شرائها ،لأن ثمنها ليس هو نفس الثمن المعلن عنه هناك على الرف ، إضافة إلى أنني من الذين لا يطيقون الانتظار والتحرك البطئ في الطوابير، وهذا طبع فيَّ لا أنكره وبسببه أُرجئ الكثير من المصالح فلا أقضيها في حينها .
كانت المرأة تقف في الجهة التي أنا فيها أما الرجل فكان في الجهة الأخرى يفصله عنها الشريط المتحرك آليا الذي توضع عليه المشتريات تقرب به العاملة السلع لتمررها عبر الآلة الإلكترونية القارئة للثمن والتي تصدر صوتا عند كل قراءة ( بيب ـ بيب ..) كانت المرأة تضع مشترياتها والعاملة تمرر وصوت بيب يتكرر، أما أنا فغير مُبالٍ لأنني تعودت على مثل هذه الحركات قدْر تعودي على صوت الآلة ، لكن الذي أثار انتباهي هو أن المرأة مدت يدها لتحمل ست قنينات من الماء الشّروب ملفوفة في غشاء بلاستيكي واحد، فلم تستطع رفعها وإذا بيد الرجل تمتد من الجهة الأخرى وترفع المجموعة في يسر وسهولة رغم الوضع الصعب لمثل هذه الحركة لأنه في الجهة الأخرى واليد وحدها ستتحمل الثقل بدون أن يسندها عضو آخر .
عجبت لهذه القوة التي فضل الله بها الرجال على النساء ، وقلت : لاشك أن بفضلها سيبقى الحال على ما هو عليه ،المرأة هي المرأة والرجل هو الرجل ولا يمكن لأحدهما أن ينازع الآخر في خَلقه وخَليقته.ونضمن بذلك التوازن في المجتمع ، والسير الطبيعي الذي نضمن به الاستقرار للكيان البشري.
كان الرجل يروم إلى الطول، قوي البنية ، يميل إلى البدانة بعض الشيء ، يلبس لباسا شبابيا ، تي شورت أسود وسروال جينز أزرق مع حذاء رياضي أبيض، بعد تلك الحركة الموفقة استمر في مساعدة المرأة التي تبين لي أنها في الخمسينات من عمرها لكنها تتصابى بعض الشيء فهي الأخرى تلبس سروال جينز وإن بدا مترهلا عليها قليلا ما ، لكن لا يعيبها مع قميص برتقالي فاتح اللون وحذاء رياضي خفيفٍ برتقالي اللون كذلك ، من يرها على مسافة يظنها في العشرينيات ؛ صفت شعرها على غرار بنات اليوم ، استمر الرجل القوي يحمل عن المرة أثقالها ويضعها على الشريط المتحرك ولا يرفع عينيه لينظر إلى الناس في الطابور ومن جملتهم أنا ، ينظر فقط إلى المشتريات التي لم يبق منها في العربة إلا اليسير.
أعجبت بهذا الرجل وبأخلاقه العالية ، فهو لا يزاحم المرأة،ويحمل عنها ما أثقل عليها ، ولا يرفع عينيه في الناس ما أحوج مجتمعنا إلى مثل هذا الرجل. فلما لم يبق مما اقتنياه شيء ووصلت مرحلة استخلاص الواجب إذا بالمرأة تُخرج حافظة نقودها من حقيبتها اليدوية لتؤدي الثمن ، ليس في الأمر من غرابة لذلك بقيت منشغلا أرتب مشترياتي وأضعها على الشريط ريثما تغادر المرأة والرجل ، لأنني ممن سيليهما مباشرة . فإذا بالرجل قد أحنى رأسه وانسل بطريقة هادئة متجها صوب المرافق الصحية ، لم أر في الأمر ما يريب، لكن الأمر اختلف لما رأيت المرأة تمد يدها لتؤدي الثمن وعيناها مصوبتان على الرجل الذي كان صحبتها وفي نظراتها أكثر من معنى ، علمت من خلالها أنه لم يغادر المكان تلبية لحاجة طبيعية بقدر ما هو شعور بالمهانة قد لحقته جراء امرأة تؤدي الثمن تسحبه من حافظتها المملوءة بالنقود وهو الرجل الذي من المفروض أن يقوم بهذا الفعل باعتباره الرجل صاحب القوامة ،حسب ثقافة المجتمع ، وما توارثه الخلف عن السلف. ليس له القدرة على فعل ذلك ولا هو ممن هم كذلك ! آثر الرجل أن ينسحب في هدوء تلاشت معه كل الرموز التي نسجتُها حوله من قوة وفتوة وقوامة وطول قامة....
قلت ، إنه المال الذي يفعل فعله فيذل الرجال ويصْغُر بهم ويحط من قدرهم فكأنما هم أشباه رجال وتمثلت قوله تعالى: " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم " صدق الله العظيم .
هذا الرجل لم يجد ما ينفقه فغاضت رجولته واضمحلت قوامته وانتكس في خلقه. انسل خجلا نحو المرافق الصحية علّه يتوارى من نفسه من ضآلة نفسه.
سمعت ـ بيب ، بيب ،بيب ـ إنها مشترياتي يُسجل ثمنها ، وضعتها في الأكياس البلاستيكية ، ثم استخرجت حافظة نقودي التي لم تعد في نظري حافظة لنقودي فقط ، بل حافظتي أنا برمَّتي.