( الموت و الحياة )
قصدية نثر طويلة .
انور غني
مقدمة : ربما اصبح من الصعب القول بامكانية تحقق قصيدة طويلة مركبة من اكثر من مقطع شعري يتجاوز وحدة الذاكرة القصيرة في عصرنا الحاضر، حيث ان توهج اللغة و طغيان التجربة المتجلية المستنفرة لنظام كامل من التعبير لا يسمح بتاجيل البوح ، فلا يقبل بتاخير تمام التجلي الى زمن يثلم عملية التجلي الاعظم. ان الوحدة الموضوعية بمعنى ما يدور حوله التوصيل ، بل و البوح التعبيري لم تعد ممكنة في اللغة المتوهجة ، لغة التجلي المحطمة للموضوع و للتصوير .
طبعا في خضم التحطيم و التمرد هناك وحدة ، و في وسط اللانمطية هناك نمطية ، هذا السر في قصيدة النثر العظيمة يجعلنا نعرف اين تكمن الوحدة ، ان وحدة اللغة المتوهجة لا تكمن في الموضوع الصوري انما هي في الموضوع التجلياتي ، فان التجلي و الحضور انما يكون جهويا اي ان التجربة و الذات تطل علينا من زاوية في المقطع الشعري ، و لذلك بامكانها ان تطل من زوايا كثيرة حسب امكانية صاحب التجلي المبدع .فحينما تتجلى ألتجربة الحزينة و الذات المتالمة في مقطع تصويري بصورة معينة فانها يمكن ان تتجلي بصورة اخرى ، بمعنى ان اللغة بمثابة شكل و مظهر للمتجليات و التي بامكامها تغييرها ، بمعنى اخرى و الذي اكدنا عليه مرارا ان اللغة في الشعر المعاصر ما عادت طريقا لايصال التجربة و وصف الذات و معاناتها و انما اصبحت شكلا و مظهرا لهما في تجليهما ، و هذا الامر العظيم الذي يجعل الجماليين شغوفين بقصيدة النثر و مؤمنين بها .اجل ما عادت اللغة اداة و لا تعبيرا و لا طريقا و لا بيانا انها جسد انها شكل انها مظهر لروح متجلية ،التجربة المتجلية و الذات المتجلية . انور غني
( الموت و الحياة )
الجزء الاول : الموت
الجزء الثاني : الارض
الجزء الثالث : الحياة
الجزء الاول : الموت
فصل
اناشيد الشتاء تغرق في الضباب . تترك في ذاكرة الشوارع نشوة لا تنسى . زواياه الباردة تحفل بالصمت ، فأتجمد في حلمي كشجرة غاب قديمة .
الصوت ينحني ، يتلاشى في الفضاء العريض ، ليس للكلمة الا ان تسقط في الوحل . السفن البائسة تخترق اذني . تلك الازاهير تبتعد ، تتقيأ الالم السرمدي . تورثه الاجيال و الحلم .
حكايات الحضارة تغرق في المحيط . قيل حتى مياه البحر ، بما فيها من اساور و تواريخ ، قد التقمها الذباب في لحظة اسارة ، فصارت معدته ينابيع دافئة .
قلب العالم يتقاعد كأرملة . لا مكان لحلم الانسان ، لا دفء و لا نشيد . سنابل القمح تعري ساقيها ، تنحني خجلة فما في رؤوسها سوى الهواء الثقيل . اجل ، للمغيب الف اغنية ، لا يعرف عنها الفلاحون شيئا.
السنين ترتجف ، قد اكل قشرتها الاطفال ، فلم يبق للإنسان فسحة تسع ابتسامته .كلا ، من الكذب جدا اتهام الجسد بآثام الانسانية ، فحب القمر غير محتاج لدم الطبيعة .
ليس لي الا ان احتضر . و ليس للحضارة الغالية الا ان تسأم كل قطرة صفراء في المحيط . للشمس اشراقة تجعل الشجر قصائد ساكنة لا تعرف شيئا عن الخلود . هكذا تكذب الحضارة ، تتكاثر في اوردة غادرتها الاجراس ، تتمدد شارعا قديما ، اثلجه قلة السائرين .
هناك الابتسامة باردة . ترتجف كنعامة تكاثر راسها تحت الارض ، في اذنيها ينبت الشوك و الجياع . الدماء تملا السواقي ، تلتهم عروق الاشجار ، فيتلاشى الحلم كبقرة هزيلة . كلا ، قلب الفلاح لا يعرف الكذب .
المدينة تسعل ، تتقيأ الجمال ، تصنع من لعب الاطفال بنادق واجسادا معتمة . النساء تستطيل ، تنتفخ بالصوت . الحضارة تسعل ، تبتدع تاريخ الدموع ، كلا الجمال شيء اخر .
كل شيء يدور بلا رحمة ، حتى الازهار اصبحت شاحبة ، قد تكاثر الذباب في احشائها . الارصفة تتقيأ الموتى ، خلايا راسها تعفنت ، في احضانها يتفجر الشيطان كقبلة – هناك و ببرود – يقتل الشمس .
فصل
عيناي يملاهما التراب . اذناي تخترقها الحضارة الناعسة . اكاد لا اعرف كيف يتاح هذا الهواء لرئتي .
السيول ما عادت تكفي لتضع حدا لهذا العالم السقيم . جسده شاحب كعصاة لا حراك فيها ، ليس هناك سوى زحف جنوني نحو الظلام الرهيب .
اجل ، لا بد من الموت الجديد . هكذا اخرج من خاتمي شبحا للسلام . اجلد ظهر المجرة بالصوت العتيد .
الوديان تختنق بالنمل ، تنطوي كمائدة للجياع ، تتكدس اجسادهم رملا رخيصا ، يردم شقوق الشيخوخة في وجه الحضارة الغاربة .
اجل ، الفشل ارث هذه المجرة ، لكي لا يقال ان الانسان لا يعرف شيئا عن الخلود ، و لكي لا ادعي ان الحياة قد تقاعدت في موسم البذار ، سأخرج بقرة هزيلة تملا الارض بالنداء ، و لا تدع للمكان فرصة للرحيل ، هكذا تنشطر الكلمة ، كنجمة تسبح في النهر .
العالم يصغر ، عظامه تلتهمها الروائح الكريهة . كلا الروح ابتسامة للجمال ، اما هذه الحضارة فما هي الا مدينة للموت .
العمر جداول قاسية ، تملأها العصافير بالأغنية ، تعلم الانسان الحب و الحياة ، انا لا انكر بهجة المدينة ، و لا انسى الوانها الزاهية على زجاج عدستي ، لكن ما تراه من الدموع ، يكفي لا يصمت الانسان قليلا .
فصل
زنبقة البحر حينما تبزغ اراها ، رغم اني انام على وسادة عمياء .كم قد حدثني القادمون عن الفضاءات البعيدة ، لكني دونما وجع نسيت حكاياتي و جلست في الزاوية كعارف كبير .
السنين ترتجف قد اكل قشرتها الأطفال . لم يبق للإنسان فسحة تسع ابتسامته ، هؤلاء الجاثمون قد جعلوا من الليل فاكهة غارقة في النسيم ، لكنها لا تزال معتمة .
عندما يتخلى التل عن امجاده العظيمة ، و عندما انسى اسئلة لطفولتي ، حينها يمكنك ان تتصور كم هي ضيقة فضاءات رغبتي .
القمح و الزهور رائدان عظيمان ، يصنعان من طرق الموت غابات تسحر العيون .كيف السبيل ؟ و ما هنالك سوى طيور قد تجمدت منذ شتاء بعيد .
هذا هو العالم الجديد ، يطل من النافذة دون مقدمات جيدة .تتبعثر حكاياته السمراء بين اغصان الكرم ، كأجنحة بلا وطن او حنين . عند الساقية هناك تنتظرني ابتسامة ريفية قلبها الداكن لا يعرف العشق . اجل لقد تغيرت الزهور ، و ماء النهر اصبح هزيلا لا يتسع لانتظارات الكادحين .
لمن تقطف الازهار و لمن تشعل الشموع ، الموج حطم كل فراشة تذوب في حنينها الى نسمات الغروب الساحرة . الطرق واهية تدور دونما رجوع . اصابعي و نداءاتي لا تكفي لاجد نقاط بدايتي .
الصمت يتوسع في نسمات بشرتي .يهذي كنوارس بحيرة قص المساء اجنحتها .فلا سماء عالية و لا ساحل حبيب . سأتخلى عن فكرة الخلود و الحياة السعيدة . فهذا العالم لا يبق للبهجة ظلا حينما يتحدث عن رغباته الحبيبة .
بداياتي شاحبة . قد استنزف ثيابها الشتاء . اصابعي تبخرت ، اطاح بها الحطابون كأغصان تختبئ بين وريقاتها كل حضارة ، لا احدث بأسرارها العظيمة .
ان الطبيعة بارعة في اطلاق كل حكاية ممكنة ، وكل حمامة تهمس في اذني ، تخبرني عن ذلك الطوفان الذي سرق اعشاش الطيور ، فلم يبق سوى بشرتي الداكنة ، و عربة سحرية نحو الضياع .
رغم ان الضفادع نقية ، الا انها تعشق المياه الاسنة . و رغم ان هتافاتها تلون وجنتي المساء ، الا انني لا اجد مسامعي تواقة لغنائها العظيم .
سأسقط في البئر ، فلوحاتها تخلو من الاسماك و اللؤلؤ ، اجل اللآلئ رسالة كل موت ، و اغتصاب للحليج .فينام جائعا على رصيفه الذهبي .
تلك المستنقعات المتمددة كعذارى و سط الظهيرة فوق ظهري ، تلك الايدي ذات الاصابع الطويلة جدا ـ تقطفني كأوراق الخريف بكل ود .مرحى ايها الخليج السعيد ، فالغروب ممتلئ بكل رقصة ساحرة .
القدس تتثاءب ، تبرز من بين اضلاعها جماجم الطفولة المسروفة ، مرحى ابتسمي ايتها العواصم الجليدية، ايتها العصور .
الليل يسير على ذراعين من اسفلت ، و انا تلك الحجارة القديمة في رحم الارض ، اتخم شجيراتها بكل سعال مرير . اسناني لوحة للجمال ، و شفتي المتساقطة في واحة الشوق حكاية شيخ مر يوما بقريتي .
اقتربي اقتربي ايتها الاهازيج ، ايتها الاشلاء التي اعرفها ،ها انا اتوقف كالموت . عواصمي يلتهمها الجراد ، و فمي يذيب كل قارب غريب . مرحى مرحى ابتسمي ايتها الحرية .
لقد انهت الظهيرة كل شجيرة ساكنة ، فوق اغصانها تغني الضفادع الهزيلة , هكذا اخرج خريفيا كالشقوق الخشنة فوق ايدي الفلاحين .
فصل
ها انا احيى لأرى العالم الجيد ، ما عدت طفلا . في فضاءات الغروب كل كوكب ينزف بالسلاح . هناك – في العتمة – يعطي البرود احفاده دروسا في اشعال الطبيعة . كل الرياح شاحبة . الاسلحة تخنق ذاكرتي ، تقتحم المكان ، توزعني رسائل عشق ابدي للجياع .
الاقلام لا ترغب بكتابة شيء ، فالجمال هرب خارج المجرة ، يبحث عن عاشقين جدد . العالم يختبئ في قارورة قديمة ، حتى الاعياد ، ما عادت تطلق الهواء الجديد .
انا لا استغرب كل هذا الالم العريض، فقد تعلمت الاسباب الكافية . الرغبة تجعل من الجمال مركبة ، ليس لها الا ان تصطدم بجوانب الطريق فتحيى .هناك لا تجد للأشجار ظلا ، لقد كانت ريانة كما يجب . انت تعرف ، قلب الانسان مدينة من الجليد ، و ذاكرة توقد في اعماقه الرعد و السحاب .
هناك تنكمش الشوارع ، تطفو في سماء الصخب كمرضى تدوسهم الاقدام . الاطفال يتكاثرون في الابار بحثا عن اسطورة قديمة . حينها كنت طفلا ، فالماضي اطلالة عريضة يعلمني التخفي , اذناي ثقيلتان كالجبل ، لا تجد فيهما شيئا من الرحيق .
مواسم الخصب ما عادت تمتلك ثيابا تستقبل بها المطر ، لقد اوصد البرد ابواب افئدتها ، مفاصلها تهذي ، اي خلود تعرف عيون الانسان الوقحة . خير للتاريخ ان يسال الارصفة متاع سيل قد رمى به البرد الى جانب عتيق .
العالم شمس جائعة . كل ما يجيده اشعال الفتيل فيغرق البحر في الدموع . اجل ، ما زال السيل يحمل ذلك المعنى العظيم ، رغم انني اصبحت مقتنعا ان الخرافة تستطيع ان تسكن البيوت المريضة كمركبة حديثة .
كلا ، انت لا يمكنك ان تتصور غربة الارواح التي تتعثر في الطريق . البعد يأسر المكان ، و كما ترى ، ما لهذا الانسان الا الحكايات الشاحبة . انا لا استغرب كل ذلك البرود في وجوه الاشياء . اعضائي تنشطر كحبات الرز ، تختبئ خلف ابتسامة الليل العريضة ، تتمدد كالوهم في الحقول ، انها جذابة و فياضة ، انها مبهرة .
في ذلك الفضاء العريض ، الذي لا انسى ، لا يبقى للإنسان قارب يسع اطفالا يخرجون من الفرات ، جباههم السمر قد رسم النهر عليها كثبانا من الرمل الرفيع ، انني اتذكرها كما يجب .
ليس صعبا ان ينزل الانسان من السماء ، و ليس صعبا ان يقف كشجرة قديمة تنتظر البهجة و الموت . اصوات الليل تثخن شرايين الانسان ، فلا يسري الخجل الى دمه .ها انا ارى الطائف تتكاثر في المكان ، تدمي جبين النور الرفيع ، فتغرق المجرة بالعارفين .
فصل
الغروب يعبث برؤوس الاطفال ، ينثرهم في الحقل فراشات حاملة ، فترتدي الاشجار قبعاتها الناعسة . توقفي توقفي ايتها الاقدام .ايتها التعاويذ الميتة ، فروح الانسان لا تحيى دون صبية يلعبون في الوحل .
لا زالت الاشياء تجرني بنظراتها ، خيمة قاصية انا و مناضل يفتخر بنفسه ، اجل انا الوحيد الذي يعرف معنى الحرب ، لأني اتحدث عنها بصدق .
العاصفة تغير وجه الماء ، و كذلك الحرب ، تصنع من القلب الجبلي عشقا ابديا للعابرين ، فلا يبقى للوديان سوى صدور مهشمة و اصداء .
الحرب لون قاتم للفجر و غناء يسرق قداسة الدموع ، انها حكاية سمراء لا تودع اسرارها الا في كل ساحل مظلم . اجل العيد و الحرب ، كلامهما يعزف لحن طيور مهاجرة ، قد نام بين اجنحتها صوت الشمس الدافئ.
للحرب رقصة جهنمية خبأتها في جبيني منذ عهود ، بين اطلالها سيقان اطفال عارية ، و فوق مياهها كل زورق يبحث عن شراع . انت لم تكن حاضرا بداعة مشهدها الاخير .
لقد عاد الجنود ، لقد عاد الجنود ، و عواصم اغنيتي تطن كبعوضة نحيفة ، تبتلع الضجيج و الاسئلة . لقد عاد الجنود ، مفاصلهم تئن كالثلج ، قبعاتهم تتيه في الطرقات ، كعذارى قبل جباههن الخريف .
ها انا اسمع الاساطير ، التي تنزل من هناك ، هكذا سأعود و شفتاي مدينة غفت على ارصفتها تلال غير ملامحها المساء ، تغوص في رمالها حكايات جنود سعيدة .
هكذا اخرج بين الادغال فجرا جديدا يهدي المجرة كل شيخوخة تعرفها السنين ، هكذا انزل الى النهر بقرة تعشق النذور ، تغرد في راسها الظلال الغاربة .
الجزء الثاني ( الارض )
فصل
يعجبني لون الفجر ، يملا رئتي بانفاس الثائرين ، فاتلاشى في عشق الحرية ، عندها لا يبقى للكلمة الصفراء فسحة على شفتي .
عيناي احملهما فوق ظهري ، و يداي اصنع منهما قاربا يفيض بالعائدين . انتظري ايتها الافياء ، انتظري ايتها الفصول فقلبي لا يزال خفاقا رغم هذا العالم الجريح .
اليك يا سيد الكونين الف سلام من عاشق غريب ، و للفجر اغنية خضراء من يديك ابتساماتها . اليك و شفتاي تذوبان في قلب الزمن الرخامي ، هكذا يذكرني الفجر بكل دفء .
يا صاحب الهم الكبير ، صوتي متحجر وسط مدن تفيض بالنجوم ، تتيه انوارها فوق وجنتي كسنابل ضائعة تبحث عن سائرين .
اليك و انت شاطئ فسيح ، ما عادت تلك القلوب تجيد سفرا اليه . انها الاشراقة التي تنتزع الحدود داخلي ، فلا يبقى مني سوى صوت يتجاوز الحرية و المكان .
يداك اراهما ، تمسح عن جبيني غبار انتظار غريب . ترفعني بداية انتظر امطارها . فتعلن الارض بدابة موسم النماء .
اليك كل فراشة تتمدد فوق ازهار ذاكرتي كلآلئ بحيرة ناعسة . كل ابتسامة تتفجر في السماء و عيناك تحفظ ابتسامتي حينما يكثر الغبار ، ايتها الارض الجحود ، يا عواصم الجليد ، انتظري انتظري النصر .
فصل
سانتهي في عشق هذي الارض كفراشة مبهورة بين الغصون ، فوق راسها تاج من السنن .هكذا اخرج من بين شقوقها حلما ذاب فوق شراعيه صياد قديم ، تصافحني سنابل القمح .
مفاصلي تغفو بين جفون المساء ، الوانها خيمة تجمع حول نارها فتية يضحكون ، تمسح رؤوسهم ايادي الريح و المطر .
هكذا يتمدد المساء فوق رصيف ذاكرتي ، يلثم شفاه الاشجار ، كعاشث عاد قبل عام الى الوطن .
اوزاتي تتجمد كالعنبر في واحات هذي الارض ، اصابع الشمس تعبث بشعري كل صباح ، توزعني رسائل عشق آسرة فينام بين ضحكات سطورها اطفال قريتي .
اجل مقاهي الحلة تكفيني ، تصنع من اطرافي طائرة ورقية يلعب بها صبية في الجامعين ، اجل هكذا اتلاشى باقة وردة لعاشق اسطوري ، في جيبه مدينة من الطيور و الشجر ، ينثرها فوق رؤوس الغابرين ، الوانا من بخور جدتي .
هكذا اخرج فراشة واسعة العينين ، يتناثر فوق جناحيها صبية حالمون ، تهمس في اذانهم عصافير الصباح .: ( ان القمر نزل البارحة عند الفرات ، و قبل جباه الشوارع و الساكنين) ، اجل هكذا يشرق الفرات و سط الظهيرة يخلق السنين ، فتذوب على ضفتيه اصوات الشيوخ النحاسية : ( فرات لم تزل تراتيلنا خضراء في السحر) .
فرات يا سيد الصخور ، تحت ثيابك تختبئ كل طفلة اذهلها ضوء الرعد في المساء ، و صوت امها يذوب : ( ان الفرات سيشرب الرعود ) ، فتغفو الطفلة فيك يا فرات ، و اغفو كعارف يعيش في مغارة في القمر .
فصل
عراق ، قبلة الحرية على جبينك انشودة توفض السائرين ، في كربلاء حزن الخلود و في سامراء كل شمس واعدة ، و على دجلة باب السماء العريض . اجل الارض تجدب دون دم او دموع .
اجل ساذوب في حبك كالاعياد في بلدي ، دونما بطئ او عبارة مؤجلة ، فالحرية لا تعرف الاناشيد الحالمة ،لا بد من يد و ابتداء . لا بد من حسين يحييى العالم الغريق . يشق قلب الزمن الرخامي . يضرب في الصخر حتى يشرق الامل الذي لا انسى تلفتي مبهورا فوق راحتيه .
سانتهي في حب دجلة و الفرات ، فكلاهما يدان طالما تلاشيت في عشقهما الرفيع . هي ذي بدايتي نحو السماوات التي اعرفها ، المليئة بكل دفء ، هي ذي حكاياتي تتساقط كشلال يقبل جباه الثائرين . اجل هكذا اتعلم الانشودة الحمراء ، هكذا تبتسم السماء لعاشقيها ، و تشرق من هناك من يديك .
اجل الارض و الماء و الهواء و السماء لي . من بعداد تشرق السنابل بالف ضوء ، و من كربلاء الف دم الف يفور . ، فاتبعثر في ازقتها حمامة غرقت وسط الظهيرة في الفرات .
يا سيد السحاب و المطر ،و كل حرية حمراء لا تعرف الذبول ، يشق انتظاهرها خجل عريض ، فتنتهي في حنينها اليك كعروس ذاب في احلامها الموت و الزمن .
يا سيد الحرية الحمراء يا حسين ، في جنانك يشرق العاشقون كشجيرات ندية يلثم شفاهها الصباح .و بين كفيك تختفي النجوم و الاساطير كظل جليدي نزل ذات يوم مع المطر .
فصل
في الظل الشفيف تنحني الاغنية ، تقبل الارصفة ، تجعل من افئدة الشيوخ موانئء للذكرى و حروب .
كلماتي تبحر هشة ، تتناثر في المكان ، كساحرة اسطورية ذات مجد بلا حدود ، حينها يمكنك ان تتصور نهاياتها المؤلمة ، رغم كل ما ارى . لا بد اني سامتلك الشروح الكافية . لا بد اني ساخجل كثيرا و اعتذر لكل نخلة و خيمة قاصية .
في المساء اتجمع جيشا اسطوريا لاغرق في المحيط ، عندها سابتسم كراهب يعرف الكثير . ساخرج نزبقة شاحبة لا اهتم بالشمس و الخلود .
ثيابي تتبعثر في المكان ، كبيوت قريبة قديمة .الخيبة تتخلل اغنيتي ، القدس تسقط في غيابة الجب ، يوسف يبحث عن سيارة جدد ، هناك في قرارة البئر سيشرق الجمال .
لقد تركت النجوم اثارا فضيعة على حلمي . لولا اني لا اعرف شيئا عن تاريخ الشعوب ، لولا اني لا افهم الكثير مما يتفجر في راسي ، لكنت حتما و دون تردد ، صخرت برية تنبت بالزهر .
سيناء ترتيل شائكة . ظفائرها نسمة تتيه فيها الاسماك .ابوابها العالية قد سرقها النمل ، فتجمدت سيقانها كالصنوبر في الشمال .
قلب مكة قد ابيضت عينها من الحزن ،فلتاتي الرمال القاسية ، تورث جبيني قطعة حلوى .الحرية لا تعرف الشفاه الباردة ، لا بد من يد و ابتداء .
الايام تختبئ ، و رغم مضلاتها العريضة ، الا ان المطر لامس بشرتي الندية ، فخرجت فوق حقولها طحليا عقيما و اعمى . منذ عصور وانا ابحر في سواقي ذاكرتي ، بقايا ذلك الحطام الرهيب .
الليل حياة مؤجلة ، و وعد اسطوري بالخلود ، تفيض القسوة من اذنيه ، الليل مدينة الحلم ورغم انها شاحبة الا ان فيها زقاقا يسع الجماهير .
الجزء الثالث : (الحياة )
فصل
ساذوب في قصائدي كنعامة بلل احلامها المطر . ساتلاشى في شقوق هذه الارض ، فالحب عالم غريب يتمدد فوق الطرقات ، يسرق رغبتي و ابتسامتي البافعة .
المسافات الواسعة في ذاكرتي قد جمدها نزيف الشوارع و الساكنين . المركبات الباردة لا تعرف شيئا عن الجمال .
انني اعرف اشياء لا افهمها ، اقترب ايها الصوت ، امنحني فرصة كافية . لغتي تنشطر كاوصال شهيد مثخن بالجراح ، الغربة تقتلني ، اشعر اني انتمي الى اجيال قادمة ، فدماي قد خباتهما في متحف قديم ، راسي يخترق صخور الارض ، يتلاشى في سرعة الكلمة ، كعاشق يجر الضوء خلفه فلا يكون .
للكلمة الف جناح يملؤني بالخوف . كيف السبيل لان ارى ؟ حب الارض لا يكفي ، لا بد من المجانية الكاملة . اجل ، حينما يصبح للزمن جناح يرتجف ، و للمكان قدم تمشي ، عندها ساجمع انفاسي ، كباقة ورد تبتسم للغد القريب . هنا تتجمد الكلمة تحتاج الى شعر اخر ، الى اجسد يرتجف .
دمي رسالة باردة . الاشواك تتخللني . جراحي تتكاثر في حقول اللغة كخيمة بدو قاسية . ما زلت احفل بالنقص . اللغة تبحث عن بحارة جدد ، كلا ، الشمس ما عادت تكفي رمزا للحرية . البعد يكبلني ، ما زلت ملتصقا بالارض ، كلماتي تشعر بالبرد ، اطرافي تتجمد كقطارات يقطنها مسافرون من ثلج ، انني حجل جدا .
ها انا اتغذى بكل قسوة ممكنة . ها انا انتظر . فلياتي ، فلياتي الزمن الذي لا انسى . للحب ذاكرة لا تعرف الدموع ، و الموت . ها انا اتعلم رغبة الاشياء . وجه الماء مرآة كل معرفة .
هكذا يفترس جسدي الارض كظل يحطم مملكة نمل عظيمة . وحيد كالحجارة انا ، الحجب تصنع من حنجرتي مركبة لا تصلح لشيء ، لست نقيا كما يجب ، مفاصلي شبكة صيادين في بحيرة قتلها الملح ، صوتي يتكاثر في الرمل كصنم اسطوري يتخلل بشرة الجيل الجديد .
الموج الصعب ساعرف رغبته . بهجة الازاهير ساعرفها ، ساصمت لعلي اتذكر شيئا ، سانتظر كشجرة ارز تفيض بالعائدين .
ركبتاي اثقلهما الصدا . جبيني يلتصق بالارض ، الفرحة تتجاوزني ، كم يخجلني هذا النقص ، انني اتهيء بما امتلك ، امنحني فرصة كاملة . فعلا سيل انا من الاعتذاء و النداء .
ها انا اتعلم الاغنية . عيناي لن تسقط ثانية ، يدي لن تهذي ، هذا عهد و احتفال .
الان اشعر اني اكثر نضجا ، اسيل فوق الظلام كالندى . لا اترك نافذة للشمس ، لغتي تصفع وجه الارض ، كل هذا بحجة اني عاشق للجمال ، و باحث عظيم .
ها انا اتساقط بصمت و غربة كاملة . كلماتي ترقد في اكفان من الرياح ، و ملامح وجهي مؤجلة . لست مضطرا ان ارى القمر كالعاشقين ، فانني لا زلت اسمع اخبارا عن اناس ذابت في احلامهم مدن باسمة . من هنا ، تعلمت كيف ابحر هلال يعلن بداية الشهر الجديد .
فصل (2)
كلمات الرب امل بهيج ، بابه الواسعة لا تفتح الا بالحب . اني اكاد اتلاشى كالنعامة في خجلي . ارى اثار حبك على وجه الزمن ينابيع تفيض بالثائرين ، في اوانيك ينزل القمر كل مساء ، فيلعب به الاطفال حتى تغفو عيونهم ، بعيد كالحجارة انا لا ماء و لا زهور . كلماتك كالاعياد تلبسني الثياب الجديدة .
حينما يتصفحني قربك الحبيب ، ككتاب رث ، امتلئ رعبا ، هكذا تهبني الحياة الصادقة .ـ الامل الوحيد .
شكرا للربيع يعلمني ثورة الحياة في اغصان الجماهير اليابسة ، شعبان شهر المطر يملا الارض بالعهد الجديد ، فيه تفتح الاشراقة جفنيها ، لست وحيدا العالم يصغي ، يصرب في الصخر حد القرار ، يشق بذر انتظاره ضياء في رحم الكون ، فلا ينتهي سرور الارص ، هناك في كربلاء نلقتي بلا دموع .
فصل (3)
الندى يتجول في الشوارع كالباعة و الاطفال . يقص عليهم كل حكاية مفرحة ، كل مساء يخترق اوردتي ، يجعل من ذاكرتي عصافير تردد نشيدها القديم .
لغتي ليلة عيد باردة ، دونما خجل سكنت قلب الشمس ، تساقطت ورقا مصفرا دون عناء ، بتلقائية كاملة هكذا اراني سرابا احمل في جيبي حلوى و وعود .
ساغوص في اعماق الارض عسى ان يجدني هواة ينقبون . ساصمت عسى ان تسمع الفوضى صوتي .هكذا اتعلم كتابة التاريخ الجديد ، حيث لا اعرف الماء الا خلا يجفف دم اوردتي ، يضع الحب في جيبه ككمثرى مظلمة ، شيدت العصافير في ثقوب عظامها اعشاشها الامنة .
انا اخر ما كنت ابحث عنه ، ها قد تعلمت ان استدير بلا حدود ، مدينة انا بلا منار يناطح السماء ، اجلس وسط التل ليس لشيء سوى اعتداء على الطبيعة . مرحى مرحى ايتها الكلمات البائسة .
فصل (4)
لست ظلا لامتلك كل ذلك التاريخ العظيم . اطرافي تدفأ بها الحطابون . اللغة اقفلت دكاكين بهجتي ، جعلت مني شبحا اسطوريا قد غادرته رغبة الحياة .
ها انا ارى اعشاش الطيور ، تحملها مركبات الا تنتهي ، اجل للطيور قلب عامر بكل حكاية حبيبة .
اللغة مسامير صدأ ، لا تعرف شيئا عن الحضارة ، عيونها اوراق من المطر ، تصنع من قلقها عكازا متعبا قدماه غائرتان في الوحل . في احضان هذه البهجة الاسرة اكاد لا اميز وجه الارض عن اجزاء من كتفي اتبجح انها راقية . اجل لا بد اني سامتلك كلمات البحر حينما اتحدث عن الاشراقة داخلي .
فمي يتفلت وسط الكلمات . الحرية تتدفق من اذني كالنمل . انني اتلاشى في سرعة الكلمة كعاشق يجر الضوء خلفه فلا يكون .ما عدت قادرا على ان استحم في الفرات ، ان اجد في دمي مركبة ابحر بها نحو الشمس .
ساذوب في المي كأنشودة فلاح ينبت بين القمح .حقيبتي تفيض بالسائرين ، ليس لي سوى ركبتين اتلمس بهما وجه الارض . ليس لي سوى شوك يلتهم مفاصلي ، ينثني حول حلمي كبائعة لبن بارد قي صباحات الشتاء .
هكذا اكون قد تعلمت الكثير . حينما يصبح الشعر اثرا ، و حينما تنكر الكلمات شاعرها، فاعلم انك تنظر الى ليلة عرس تفيض بالجفاف . اجل انك ترى ما ارى انه احتفال ، انه التلقائية الكاملة . اجل انك ترى ما ارى كل شيء يغني كل شيء يريد .
فصل ( 5)
لست مضطرا ان اهذي كقصبة يصنع الظلام من راسها قبقابا ورديا لزبائن حمامات الحلة القديمة . ها انا اتفجر كينبوع ماء اسن ، القلق يلتهم اصابعي ، يصنع من اغنيتي ازمنة مثقلة بالصدأ ـ هي اخر من يتحدث عن الحرية و الجمال .
صوتي ليس حضاريا كما يجب ، ليس لشيء ، سوى ان كلماتي تتساقط بغرابة كاملة .المساء يفيض من اذني كقطار يخترق حلم الاشياء ، لكي اكون حضاريا كما يجب ، لا بد ان يذوب الظلام في دمي ، و ان اصبح كالثريا بلا الم بلا رجوع . تبا متى تنتهي هذه الفصول، فتبدا الحياة .
فصل (6)
اليك ايتها الانهار النازلة نحو الجنوب ، نحو عالم يغرق بالثلج ، اني لاستغرب لابتسامات الشتاء ، كيف اودعت في حقائبك اسرارها ؟
انتظري انتظري ايتها الفصول ، فاقدام الزمن العريضة تتعثر بكل ابتسامة ناعسة ،و كل وريقة قد احرق نهاياتها المطر ـ انني اراها و اسمع نداءاتها الشفيفة .
ايتها النذور ، ايتها النذور ، الا تعثرين على المي الحزين ، على الجسد الغريب ، فها انا ذا شلال طويل من الحكايات الداكنة ، رسائل الزمن الجديد ، الحرية الجديدة .
اقتربي اقتربي ايتها الاشلاء التي اعرفها ، ما عدت اجيد الغرق في عشق الحرية ، ها انا اتوقف كالثلج ، عواصمي يلتهمها الغبار ، و فمي يغتصبه كل قارب غريب ، مرحى مرحى ابتسمي ايتها الحرية .
فصل (6)
انا ارى هذه الساقية ، لاني رايت ساقية قبلها
انا ابحر بالونا في فضاء هذه الورود ، لاني عظامي تآكلت قبل عام ، و ازدهر الصدأ في احلامها .
انا اسمع هذا الصوت ، لاني سمعت صوتا قبله .
انا اتلمس وجه الشتاء ، لاني صفعت جبين العنف داخلي ، كراهب نزل في سلة مع المطر .
انا ا شم رائحة الحضارة الميتة ، لاني شممت رائحة الحرب قبلها .
انا امتلك عاوصم الجمال ، لان اصابعي تحتضن قلب الارض كجذور سدرة بيتنا القديم .
انت تخرج من لون هذه الكلمة ، لانك دخلت في لون كلمة قبلها .
انت تطارد حنين الفراشات لانك كنت حاضرا بداعة الغروب .
انت تعيش هذا العشق ، لانك ولدت في عشق قبله .
انت تسير في مجرة من الالوان ، وحولك البهجة في ذهول، لان ركبتيك غابتان من قصب ، حملت اليها الرياح فلاحا اسطوريا سقاها بدمعه البريء .
انت حينما تقوم في الصباح ، اكذوبة ناعسة الجفون ، مرايا من القمح بقبعاتها و ثيابها المزخرفة .
انا حجارة صماء ، تشرق في لحظة سحرية ، لبلبل الهزار في حكايات جدتي الشتائية الآسرة .، معانقا همسات اللون و الشوق المتجمد في رئيتي كمقاتل عظيم .
فصل (7)
افق احدب، فوق ظهره اعمدة سوداء صلدة ، امامها اناس جالسون ذوي اقدام واسعة ، تدوس اشلاء مهشمة .
او :
القدس اغنية تغتصب تحت الشمس ، مرحى فلتبتسم الانسانية و ضميرها العظيم .
بناية شاهقة ، امامها رجل اجوف طويل ، احدى قدميه تعلو سلة نفايات قد تجمع فيها ثلثي سكان الارض .
او :
هكذا في العالم البعيد ، ينزل انسان من السماء ، و بقية الارض طحلب رخيص . كلا لا مجال هناك للحب و الجمال .
حقل واسع من الزهور يتجاوز المشهد و الاطار ، في الزاوية البعيدة بئر تغرق في الوحدة ، يتجمع في قعرها المظلم اكوام من العظام و الحلي .
او :
صدور الثائرين جنائن معلقة بالعرش ، تختبئ في فجوات الزمن ، تاركة المكان لكل فناء بهيج .
فضاء فضي ، تخترقه خطوط افقية من اللانهاية ، تتجاوز طرفي المشهد ، لا تترك من المكان الا مربعات حمراء متازحمة في الجانب القريب .
او :
الحرية فراشة ناعسة ، لا تعشق الا كل زهرة باسمة، او كل موت ينثر حياة بلا حدود .
مساحات عريضة سوداء ، تنهض بايدي و ارجل حديدية ، قمتها المربعة صلدة جدا .
او :
الحضارة تنتفخ في الهواء الطلق ، تدنو من شلالات ذات ابتسامات عريضة لا تنجب .
فضاء رملي واسع ، ذو حركة ملفتة ، تغطيه طبقة من الرياح الثقيلة ، هناك في الجانب البعيد ، اشلاء متساقطة ، وهنا اعمدة ذات الوان صافية .
او :
سيكون للاصوات ابتهاج لم تر مثله من قبل ، حينما تحدث خيانة عظمي .
بناية واطئة ، يبزغ من جوانبها نتوءات مستطيلة ، فتبد كتاج رث يتجمع فوق سطحه كثبان من القش .
او :
من المحزن اني اردد اغنيات قديمة ، هكذا هكذا تتوقف الانسانية ، هكذا انا تتجمد .