لقد بلغ التباين الذوقي و التقييمي و الرؤيوي للاعمال الادبية و الفنية عموما حدا ما عاد معه بالامكان العثور على معايير فنية و جمالية موحدة ، و نحن لا نتحدث هنا عن عامة المتلقين و انما نتحدث عن المهتمين و الدارسين للفنون . ان الاجيالية و المدرسية لا تقدم تبريرا جيدا لهذا التشظي ، و الذي بلغ حد الفوضى احيانا .
ان الخطر في هكذا وضع يكمن في حالة عدم تبين المظاهر الجمالية للفنون ، بحيث يحصل خلط و يصير الاعتماد في التقييم على اجتهادات فردية و ميول نفسية قد لا تمت للواقع الجمالي بالصلة ،و قد يحصل اخفاق في تعيين الجميل و الابداعي من غيره .
ان الحل الحقيقي لهكذا معضلة هو ببلوغ النقد درجة من العلمية ، و الكف عن النزول من النظرية الى المصاديق ، و استبدال ذلك بنقد تطبيقي استقرائي ينطلق من الاعمال و المصاديق ، و من خلال ذلك يتم تكوين القواعد و القوانين في عملية ادراك و تشخيص المظاهر الفنية و الجمالية . ان الدعوة الى علم نقد استقرائي لها مبرراتها الكافية و الجوهرية ، كما ان ادخال الاستقرائية في النقد الفني هو ضرورة ملحة في ظل الاتساع الكبير لمجال الابداع ، و حقيقية معيارية الاستقرار لما يبدو ظاهرا ان الفن هو ظاهر انسانية و ليس انجازا تجاوبيا مع الخارج .
ان النقد الاستقرائي يتخلى بالكلية عن فكرة التسليم للعنصر الجمالي المدعى و اعتباره معيارا ، و يكون مستنده الحقيقي معارف استقرائية لا تقبل الخطا والابتعاد عن الواقع .
ان فكرة النقد الاستقرائي تنطلق من الايمان بالمبدع ، فانه يتعامل مع العمل الفني كظاهرة و ليس انجازا يسعى نحو تحقيق غايات ، و يعتامل مع العمل الفني كظاهرة انسانية و ما يتحقق به من جماليانت كظواهر انسانية ، و انجازات مميزة معرفية و تطورية ، لا تتصف بالسكون بل بالتطور ، و لا يكون الدافع نحو مطالب فكرية وانتقادات تجديدية وانما يكون التطور طبيعي ناتج من ذات الاعمال .و انا نلاحظ ان التطورات التاريخية في الفن انما حصلت بانجازات عبقرية تجاوزت الموجود من نظريات و مطالب نقدية ، و ان السبب الحقيقي لتلكؤ الفن هو القيم و معاير فالوقية التي تحضى بالتسليم و عدها العناصر الجمالية من دون استقراء ، فبدل دفع الفن نحو تحقيق مطالب النقد ، و متابعهتا ، فان النقد الاستقرائي دعوة الى اتجاه معاكس ، يكون فيه النقد هو الملاحق و التابع للاعمال الفنية . و مسالة احراز المعرفة الحقائقية و عدم التوهم و التكلف و الادعاء تضمن بالاستقراء الذي يرتكز عليه هكذا نقد .
لا ريب ان الاستقراء هو المحور الحقيقي للمعارف العلمية ، و ان النظريات لا يمكن ان تتصف بالواقعية و المصداقية مال لم يكن لها وجود و تمثيل جزئي جيد في الخارج و مجال النظرية ، فلا يكفي الادعاء في مجال العلوم .
الية النقد الاستقرائي يمكن تحقيقها بصور متعددة ، و حسب ما هو معمول به في العلوم التطبيقية ، الا ان الاساس و الجوهر هو الاعتماد بالكلية على الاستقراء ، و الذي يعني محورية المصاديق و صفاتها و ما يستحصل منها من قواعد .
ان عملية الابداع عملية حرة ، و لا يمكن تكبيلها بفرضيات و نظريات ، تفرض و تعتبر مسلمة و اساسا للتذوق و المعرفة ، رغم انها لم تحظ باثبات و لا دليل غير الفرضية ، بمعنى اخر ان النقد ما لم يعتمد على الاستقراء فان معارفه تبقى معارف فرضية ، و هذا هو السبب الحقيقي في التغيرات السريعة في القيم الجمالية و المتطلبات الابداعية في النقد الفني ، اما لو اعتمد الاستقرار بحيث لا يتم التسليم للفريضة الا باثبات مصداقيتها من خلال الاستقراء ، فانه سيكون لدينا مجال حقائقي يتصف بدرجة عالية من الواقعية .
يكون دائما التعامل مع الاعمال الادبية مهما كان حجمها و عددها بكونها ظواهر ، و العناصر الجمالية تعامل كظواهر لا يتم الاذعان لاي معرفة عنها الا بمصدق استقرائي .