الحكاية الثالثة :
دفتر النفوس
----------------
والأمر الآخر الذي أتذكره وكنت قد نجحت الى الصف الخامس ابتدائي , وفي العطلة الصيفية التي تسبق الدراسة وكنت لا ازال تلميذا في مدرسة القرية لأربع سنين خلن من دراستي الابتدائية مصاحبا لأخي المعلم فيها و كنت قد ولدت أصلا في هذه القرية المشرفة على نهر دجلة او بالأحرى على الفرع الشرقي لانشطار النهر حول جزيرة صغيرة خضراء يغمرها الفيضان في بعض المواسم ، ظلت القرية وبيئتها وناسها صندوقا يمد الاحلام والرؤى بمادة غزيرة تتشكل بألف صورة ورمز ، في تلك العطلة صحبني أخي الى سوق المدينة , وأجلُست على صفيحة معدنية تغطيها نمرقة بالية او أُجلست على كرسي خشبي , وربما علقت الصفيحة بالذاكرة لكثرة ما تواتر في روايتها عندما كان احد ما يذهب لإنجاز معاملة رسمية و يطالب بالصور الشمسية , ثم سحبت الى مكان آخر حيث كان هناك رجل خمسيني ببدلة رسمية يرتدي نظارات سميكة كقعر كأس شاي كما يوصف , والتي ارتديت مثلها عندما أصبح قصر البصر يعوقني عن رؤية ما يكتب في سبورة الصف في الخامس الإعدادي , والتي كسرت زجاجتاها بفعل مزاح متعمد من زميل منافس نبهني لقصديته بعض زملائي , مما جعلني أطلب من مشرف الصف أن يجلسني قريبا من السبورة الى حين تبديل زجاجات نظارتي الطبية في بغداد , اذ لم يكن في المدينة طبيب عيون أو ورشة للنظارات فيها ، ونعود للموظف فقد اثار في مزيجا من الرهبة والخوف في نفسي وكان كثير التدقيق والتمحيص في الأوراق وهو يستعين بعدسة مكبرة و سمعته وهو يلوم أخي على تأخره في تسجيلي وعلمت ان ذلك الرجل هو موظف النفوس حتى ظننت انه سيخيب مسعى أخي لإصدار دفتر النفوس لي و قد راقبت باهتمام خطه الازرق السميك وهو يمسك بقلم أظنه ماركة باركر ليدون اسمي وهو ينطق به ومعلومات اخرى في دفتر النفوس و طولي الذي قدره بنظرة فاحصة لي من قمة رأسي لأخمص قدمي و بعد ان فرض علينا غرامة لتأخر تسجيلي في النفوس و اخترع تاريخ ميلاد لي هو ١\٤\.... وجاء على ما اعتقد مصادفة وليس تحايلا من الرجل باعتبار هذا اليوم يعرف بيوم الكذب العالمي الذي لا اعتقد انه سمع به و ان سمع فهو اذن يتخلص من حرج الكذب والتلفيق للتواريخ والأعمار والتي غالبا غير دقيقة ولا يتذكرها احد بدقة قبل دخول عادة الاحتفال بأعياد الميلاد على مجتمعنا شبه القروي , وكذلك لضبط المواليد لغرض الخدمة العسكرية الالزامية للذكور , وكان والدي رجلا أميا , ولكنه كان لا يقتنع بكثير من الخرافات والحكايات الموضوعة والتي يصدقها كثير ممن يدعي التعلم و الثقافة و التي تعج بها مفاهيم الناس حينئذ من اخبار سحر أو خوارق تنسب لسحرة أو من يُدعون سادة او أولياء غيبوا في القبور وتحذر من الانتقاص منهم او الشك في كراماتهم لانهم سينتقمون وكأنهم قد اكتسبوا قدرة لم تكن لهم خلال حيواتهم بل ان العامة يخشونهم اكثر مما يخشون خالقهم ، كما لم يستعن ابي بأحد اخوتي المتعلمين لتدوين تاريخ ميلادي ولا ورد ذلك في باله ، الا ان أبن عمتي الذي كان يقضي العطل لدينا في القرية قد روى لي بأنه شهد ميلادي في عطلة نصف السنة والتي تصادف اخر أسبوعين من شهر شباط – فبراير , وانه قد شاهدني لفافة وضعت في طبق منسوج من سعف النخيل بجوار والدتي ، و أظنني قد اعترضت في صباي على تلك الرواية الا أنهم أكدوا لي باني وضعت لاحقا في مهد خشبي هزاز وملون وتتدلى فوقي بعض الخرز والاحجار من خيط يعلق في قصبة المهد ، ومما حدثت به أني كنت أصاب بخلجات وانا رضيع عندما ينقل المذياع صيحات هستيرية وتعليقات فجة للعقيد فاضل المهداوي رئيس محكمة الثورة في محاكمات شهيرة للمتهمين بالتآمر على عبدالكريم قاسم الذي تولى الحكم بعد انقلاب 1958 , والذي انقلب على زملائه ونحى منحى مضاد للتيار العروبي والقومي الناصري الجارف وقتها , ولكوني آخر اخوتي ولادة او آخر العنقود كما يسمى لقيت من الدلال والاهتمام أكثر من الذين سبقوني بالولادة الا انه لا يقارن البتة بما وفرناه لأولادنا من أسباب العيش و الرفاهية ، فلكل زمان ترفه و دلاله ، ولما علمت بذلك اي تاريخ الميلاد المزعوم اخترعت يوم ٢٩\٢ يوما لميلادي اذا ما سئلت لغرض غير رسمي , و الذي لا يصادف الا اذا كانت السنة كبيسة كل اربع سنوات ، وربما اقول ٣١\٢ على سبيل المزاح والذي لم يخترعه لا البابليين ولا الفراعنة ولا الإغريق ولا الرومان ولا من تلاهم .