علاقة الفلسفة بالدين والعلم
د. صبري محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه بجامعه الخرطوم
لكل مجال من هذه المجالات مشاكل خاصة يحاول أن يضع لها حلول، ومنهج خاص لحلها. لكن يجب ملاحظة أن يكون لكل مجال مشاكل خاصة لا يعني أنها قائمة بذاتها ومستقلة عن المشاكل التي يطرحها واقع الناس المعين في الزمان والمكان، بل يعني أن هذه المشاكل ما هي إلا محصلة لتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين لكن على مستوى معين (أي منظور إليها من جهة معينة).
(أ) مجال الفلسفة: فالمشاكل الفلسفية مثل (الوجود، أو المعرفة أو القيم) ما هي إلا محصلة تناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، لكن على مستوى كلي مجرد ، أي منظور إليها من جهة معينة هي الأصول الفكرية (الكلية، المجردة) لهذه المشاكل (الجزئية العينية). بالتالي فإن العلاقة بين الكلي (الفلسفة بما هي مفهوم كلي للوجود) الجزئي (العلم بما تناول الوجود النوعي أي بحث في القوانين النوعية التي تضبط حركة النوع المعين) هي علاقة تحديد لا إلغاء إذا الكل يحد الجزء ولا يلغيه ولا يحدث التناقض بينهما ما دامت الفلسفة مقصورة على الكلي قاصرة عن الجزئي أي مادامت لا تستغني بالكل أو العام (الفلسفة ذاتها) عن الجزئي أو الخاص (العلم).
كما أن العلاقة بين المجرد (الفلسفة بما هي تناول للوجود مثل المبادئ السابقة على التجربة التي يستند إليها العلم مثل الموضوعية) والعيني (العلم بما هو بحث في الواقع المعينة زماناً ومكاناً) هي علاقة جدلية، إذ المعرفة الإنسانية هي قائمة على جدل العيني والمجرد أي الانتقال من العيني إلى المجرد ومن المجرد إلى العيني.
ولا يحدث التناقض بينهما مادامت الفلسفة مقصورة على الدراسات الفكرية المجردة مادامت لا تتجاوز محاولة إرساء مقدمات مجردة تمهيداً للاقتراب من الواقع العيني إلى المحاولة اتخاذ مواقف عينية من الواقع.
هذه المشاكل الخاصة تقتضي منهج خاص لتناولها هو المنهج الفلسفي يتصف بخصائص معينة هي العقلانية، المنطقية، الشك المنهجي، والنقدية.
(ب) مجال العلم: المشاكل العلمية ما هي إلا محصلة لتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين لكن على مستوى جزئي عيني، أي منظور إليها من جهة معينة هي البحث في قوانين تحول الطبيعة وتطور الإنسان والتي لابد أن تأتي حلول هذه المشاكل على مقتضاها لتكون صحيحة.
وهذه المشاكل الخاصة تقتضي منهج خاص في تناولها هو المنهج العلمي والذي يتصف بخصائص أو مراحل معينة هي(1) الملاحظة أي مراقبة مفردات الظاهرة ورصدها خلال حركتها (2) الافتراض: أي محاولة افتراض قانون لتلك الحركة من أطوارها على قاعدة واحد في ظروف مماثلة(3) التحقق: إذ الممارسة هي اختبار مستمر لصحة القانون.
(ج) مجال الدين: الدين يتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ولكن على مستوى معين ، اى منظور إليها من جهة معينة هي علاقتها من حيث جزء من الواقع المحدود بالمطلق، فالمطلق لا يلغي المحدود بل يحده، وبه تصبح حركة الإنسان ليس مجرد فعل غائي اي مجرد تطور يتم خلال حل المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، بل تتحول إلى فعل غائي محدود بفعل مطلق (الربوبية) وغاية مطلقة (الالوهية)، أي كدح إلى الله بتعبير القرآن، فيحدد للإنسان نوع المشاكل التي يواجهها ،وطريقة العلم بها ، ويحدد نمط الفكر الذي يصوغ هذه الحلول، كما يحدد أسلوب العمل اللازم لتنفيذها.
ولما كان المستوى الذي يتناول من خلاله الدين ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين هو المستوى المطلق عن قيود الزمان والمكان، وبالتالي لا يخضع للتغير أو التطور في المكان وخلال الزمان، ولما كانت الحواس والعقل لا ينصبان إلا على ما هو محدود المكان وخلال الزمان وبالتالي يخضع للتغير والتطور، فإن وسيلة المعرفة هي الوحي من حيث هو ظهور ذاتي للعلم الإلهي المطلق.
والتسليم بصحة الوحي قائم على الإيمان لكن هذا لا يلغي دور الحواس أو العقل، ومعنى الإيمان لغه التصديق كما في قوله تعالى (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) ومعناه الاصطلاحي هو التسليم بصحة فكرة لا يمكن إثباتها بالتجربة والاختبار العلميين لان موضوعها غير محدود بالزمان والمكان ، ولكن يمكن إثبات صحتها بالاستدلال العقلي بما هو انتقال الذهن من حكم إلى آخر لعلاقة ضرورية بينهما.قال تعالى (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) (البقرة:242).
ولا يمكن أن يحدث تناقض بين الدين والفلسفة والعلم مادام الدين مقصور على المطلق ولا يتجاوزه إلى ما هو محدود (نسبي)، كما حدث في أوربا في العصور الوسطى، حين جعل بعض رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية بعض النظريات العلمية جزء من الدين المسيحي،وحين ثبت خطئها حدث تناقض (زائف) بين العلم والدين. وكما يحدث عند البعض من محاولة جعل القرآن كتاب علم من علوم الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء، والواقع من الأمر أن القرآن قد اكتفى في هذا المجال (كما في سائر المجالات) بما فيه هذى للناس في كل زمان ومكان، وترك لهم أمر الاجتهاد فيما و محدود بالزمان والمكان نسبي فيهما، فاكتفى بأن حرص المسلمين على أن ينتهجوا البحث العلمي إلى المعرفة ، فقرر أن حركة الوجود منضبطة بسنن لا تتبدل ثم دعاهم إلى الاجتهاد في معرفتها والتزامها.قال تعالى (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (آل عمران: 137).
أما الآيات المتضمنة بتفسير بعض الظواهر الطبيعية فهي بمثابة أمثلة مضروبة للناس من أجل حثهم على البحث العلمي في السنن الإلهية التي تضبط الواقع الطبيعي والإنساني لا الاكتفاء بما في القرآن ،فهي أشبه بالأسلوب التعليمي في تدريس العلوم الرياضية، حيث يورد الكتاب القانون أو القاعدة ثم يورد بعض التطبيقات لهذا القانون (الأمثلة) ،ثم يطلب من الباحث الاجتهاد في وضع حلول للمشاكل على هذا القانون.
العلاقة بين المجالات الثلاثة: و يمكن تفسير العلاقة بين كل من العلم و الدين والفلسفة باعتبار أنها محاولات لتفسير ذات الوجود، أي تتناول ذات الوجود، لكن على مستويات متعددة (أي منظور إليه من جهات متعددة).فالدين يتناول الوجود على مستوى ماهوي أي الإجابة على السؤال ما هو الوجود؟ (أي ماهية القوة التي تحرك الوجود، بداية الوجود، نهايته). والعلم يتناول الوجود على مستوى كيفي، أي البحث في ضوابط الحركة في الكون واتجاهاتها.والفلسفة تتناول الوجود على مستوى لماذي (أي الإجابة على السؤال لماذا(اى غايات الوجود الإنسان كالحق والخير والجمال..) .كما يمكن تناول العلاقة بين المجالات الثلاثة من ناحية الوجود بأن كل درجة من درجات الوجود (أو مستوى من مستوياته) هي بالنسبة للدرجة الأدنى بمثابة الكل للجزء يحده فيكمله ويغنيه ولا يلغيه.
وبالتالي فإن العلاقة بين الدين والفلسفة والعلم (الذين اختصوا بتفسير إحدى هذه الدرجات "أو المستويات") هي علاقة تحديد لا إلغاء. فالفلسفة بالنسبة للعلم هي بمثابة الكل للجزء تحده ولا تلغيه، والدين بالنسبة للفلسفة (وبالتالي للعلم) هي علاقة المطلق بالمحدود يحده فيكمله ويغنيه ولا يلغيه.
كما يمكن تناول هذه العلاقة من ناحية المنهج بأن العلم يبحث في المحدود (المتغير)، والدين يبحث في المطلق (الثابت) أما الفلسفة فتبحث في الجامع بين الثبات والتغير، أي المركب الجدلي الذي يتجاوزها (كنقيضين) ويحاول التأليف بينهما.
لزيارة موقع د. صبري محمد خليل اضغط هنا https://sites.google.com/site/sabriymkh/