قصة قصيرة
المروحة
دخل الدكان كعادته وهو يسبح بحمد الله بصوت منخفض ولكنه مسموع، وضع أقفال الباب على جانب المنضدة وقرب منه كرسيه الذي عليه مخذة التي أصبحت مسطحة من كثرة جلوسه عليها ، ما عساه أن يفعل غير هذا ، لاشيء ، تناول سبحته وبدأ في التسبيح كعقارب ساعة تعد الثواني والدقائق ريثما يؤذن أذان الظهر فيغلق دكانه ويقصد المسجد ومن هناك إلى البيت ليأكل ما قسم له وينام ثم يستيقظ مع أذان العصر ثم يقصد الدكان بعد أداء الفريضة ثم يشرع في التسبيح تلك كانت أيامه ، بصباحاتها ومساءاتها ،تتوالى متشابهة نسخة واحدة ليوم واحد ،هجره البيع كما هجره الزباء إلا القليل منهم ، وبين الحين والحين يدخل عليه الدكان أحد أصدقائه القدامى ممن ليس له شغل يشغله أو مكان يقصده فيجلس معه لتجزية بعض الوقت معه ولوم هذا الزمان وأهله.
هذا الصباح كان مكتئبا كثيرا فعيد الأضحى قد اقترب وتزامن هذه السنة مع الدخول المدرسي ، والحاجات كثيرة والمدخول قليل بل أقل من القليل إن لم يكن معدوما .زفر زفرة طويلة وكأن قلبه قد احترق وتحول إلى هباء فهو ينفخه ، استغفر الله العظيم ولعن الشيطان الرجيم ، وهو في صراعه مع النفس والشيطان والإيمان وبين الخوف والرجاء واليأس والأمل ، إذا برجل طاعن في السن يدلف عليه الدكان، رفع إليه رأسه بعد أن رد عليه السلام ، ونظر بعين مستفسرا الشيخ عن أي شيء يود شراءه ، لكن العجوز بادره بما لم يطف بخلده ، قال : أتشتري مني يا سيدي هذه المروحة؟ رد عليه صاحب الدكان ، وما عساي أن أفعل بها فأنت كما تراني ، جالس وسط الفراغ والفراغ صاحبي وأنيسي إن كان فيه ما يؤنس ، لا زباء ولا سلع يعتد بها ، إلا إذا كنت تنوي أن أروح على نفسي من الضائقة الجاثمة على صدري. هو ذاك ، رد الشيخ . يا هذا لا تسخر مني فأنا لست على استعداد لهذه المزحة وليس هذا وقتها ولا مكانها ، ومن الأنسب أن تذهب ، فأنت شيخ ولا يليق بك أن تتصابى وتتحامق . أنا لا أهزأ بك ولا أتحامق فأنا أعني ما أقول ، أتشتري مني هذه المروحة ولك علي أن تروح بالفعل على نفسك وتزول ضائقتك ويتيسر أمرك ويزداد رزقك ويكثر زبونك وتطرق السعادة بيتك ويحلوا عيشك ويهنأ عيالك . إيه ما قولك ؟ أتشتريها أم أني أقصد أحدا غيرك ؟ إن كان ما تقول صحيحا فلم لم تدخرها لنفسك فتكف نفسك عن التنقل من دكان إلى آخر ومن مكان لآخر تعرضها على الناس ولا تجد من يشتريها. أنا لم أعرضها على أحد غيرك ، فأنت أول من قصدته فإذا رفضت عرضي بحثت عن شخص آخر يشتريها . فلربما لم يتيسر أمرك بعد ، أما ما قلت في شأن أن استغني بها عن السعي والكسب فهذا أمر آخر ، وهذه المروحة لم تكتب لي بل كتبت لشخص غيري قد يكون أنت وقد يكون شخصا آخر يجب أن أعثر عليه ، ويكفيني أنني أسعى في فعل الخير وتقديم يد المساعدة للناس الذين هم في ضائقة مالية مثلك . وما أدراك أني أعيش في ضائقة مالية ؟ الحال يغني عن المقال . قال في نفسه صدقت ولكنه لم يبدها له . ومن باب مجاراة الشيخ سأله عن ثمنها ، فرد الشيخ أنا لا أبيعها بثمن معين ، يكفي أن تدخل يدك في صندوقك وتعطيني ما شئت شريطة ألا تعلم يسراك ما قدمت يمينك . حاضر ، أدخل يده في صندوق المتجر وصار يتحسس بيده فهو فارغ كما يعلم ، يمرر يده هنا وهناك ومن هذه الزاوية إلى أخرى عله يجد شيئا لم يكن يعلمه ، فإذا ورقة تعلق بين أصابعه ، لم يدر ما هي ولا يعلم عنها أنها هناك ، قال في نفسه ،قد تكون ورقة نقدية انزوت هنا منذ مدة ولم أدر بها ، أو قد تكون ورقة وصل كراء المحل نسيتها هناك منذ شهور ، ورب المحل على وشك أن يقاضيني من أجل استخلاص ما بذمتي ، يعرك الورقة برفق وعيناه مثبتتان في وجه الشيخ الذي لم يظهر أي ارتسامات . لملمها ولسان حاله يقول : ما أظنها إلا ورقة تافهة سأعطيها لشيخ تافه مخبول فأصرفه عني سواء أخذت المروحة أم لا ولن تضايقني على كل حال فالدكان فارغ ولتحتل أحد زواياه كما هي السلع البوارالتي به ، أخرج يده مضمومة ووضع الورقة في يد الشيخ الذي أخذها بدوره من حيث لم ينظر إليها ، وسلمه المروحة ، واليدان كلاهما ممسكتان بها يد المسلم ويد المسلم إليه ، يد البائع ويد المشتري ، إذا بالشيخ قبل أن يدعها تخرج من قبضته قال لصاحبه ، لي عليك شرطان . وما هما ؟ الشرط الاول ألا تخبر أحدا بالذي جرى مهما يكن هذا الشخص ومهما تكن قرابته منك ، أما الشرط الثاني فهو ألا توقف المروحة إطلاقا مهما كانت الدواعي. لا ليلا ولا نهارا ولا في أوقات الإقفال ولا في فصل الشتاء ولا وقت الإصلاح .. . وإني لك لك ناصح أمين . ثم استدار قاصدا باب الدكان وهو يردد يا فتاح يارزاق وخرج لا يلوي على شيء.
جلس صاحب الدكان يتملى في هذا الذي حدث وكأنه كان في عالم آخر غير الذي هو فيه ، وقد وضع يده اليمنى على اليد اليسرى كوقوفه للصلاة ينظر إلى هذه المروحة البائسة التي تفتقد لأبسط معاير الجمال الذي ألفه في المراوح الحديثة ، هذه تنتمي إلى عالم المراوح البدائية التي كانت تصنع من الحديد لونها لون الحديد الباهت غير المصبوغ ولا تحيط بها شبكة تحميها وتحمي صاحبها من غدر صفائحها بالاضافة إلى ذلك فوزنها ثقيل . عموما لا تسر الناظر إليها ولو كان يعيش جوا حارا جدا.
تنهد تنهيدة طويلة وقال مع نفسه ، لقد أصبحت سخرية للصغير والكبير بالأمس جاءني فتى يود شراء مكنسة بنقود مزيفة تشبه نقدنا لولا أني انتبهت لملمسها ، واليوم جاءني هذا الشيخ ليسلب مني ما في صندوقي بمروحة عتيقة ، علت وجهه ابتسامة وقال: لربما انقلب السحر على الساحر ، ما أعطيته إلا ورقة تافهة لا تساوي إلا الرمي في صندوق القمامة مقابل هذه ، ثم ظهر عليه الوجوم وقال : ما أدراني أنها لا تساوي شيئا ألم يشترط علي ألا أنظر ما حملته يدي ولا تعلم يسراي ما قدمته يمناي ، ولقد فعلت . يالي من غبي ، ويا له من ماكر ، مكر هذا الرجل الأشيب أكبر من مكر ذلك الفتى الغر، هل أصبحت محل نصب للصغير والكبير ؟ يا إلــهي ، ارفق بي يل ربي لطفك من هواني على الناس، هل شخت وكبرت حتى صرت مدرسة يتدرب بها المحتالون .
لا شك أنها معطلة ، فعمرها أكبر من عمري تنتمي إلى العصر الصناعي الأول ما أظنها إلا أول مروحة صنعها الانسان ، ها ها ها يضحك بصورة هستيرية . فلنجرب ولنبرهن. باسم الله وأمسك بمأخذ التيار في عزيمة وحذر وأدخله في القابس فإذا المروحة تستجيب وتشتغل بكل عنفوانها حتى أن ريحها حرك الكثير من الأشياء التي كانت موضوعة قرب المكتب وتطاير الغبار منها هي ومن الأشياء المغبرة التي هي قربها ، عجب صاحب الدكان من قوتها وقوة الريح الذي ترسله . قال وهو ينظر إليها مليا ، لم يغشن الشيخ في هذا إنها تعمل حقيقة ، إذن لا ضير، إن لم أستعملها هنا ، أستعملها في بتي فالحرارة هذه الأيام مرتفعة ومذيع النشرة الجوية أخبر بأن مدينتنا ستشهد المزيد من القيظ خلال منتصف الأسبوع المقبل ، هدأت نفسه قليلا ، سآخذها معي لما أذهب إلى البيت ، ما كاد يستوي على كرسيه حتى دخل رجل وسأل عن بعض ما يحتاجه فناوله البعض مما عنده وأرشده إلى الدكان الذي بجواره كي يكمل حاجاته إلا أن الرجل رجاه أن يفعل هو بدله لأن بينه وبين صاحب الدكان بعض الشنآن ، فخرج وبحد حين أتى بكيس به باقي الحاجات ،ناوله الرجل الثمن وكان عليه أن يرد له بعض ما بقي من النقود ، فرجاه أن ينتظر ليخرج بحثا عن الصرف لكنه بادره بانهفي عجلة ولا داعي إلى ذلك وقفل خارجا ، وضع النقود في الصندوق وهو يبسمل ويحمد الله ، ما كاد يقفل الصندوق حتى بادرته امرأة ببعض الطلبات ، فاستجاب لها واستخلص منها الثمن ، ثم دخلت امراة اخرى واشترت في حدود ما وجدت عنده من حاجاتها وهكذا قضى صبحه يبيع . ارتفعت معنوياته وأحس بالسعادة تملأكيانه.
ياله من صباح مبارك ، إن الله يرزق من يشاء ، سبحان الله ، وهو بباب المتجر والأقفال بيده تذكر المروحة وأن عليه أن يحملها إلى البيت قبل ذهابه لصلاة الظهر فدخل وهم بنزع الآخذ من القابس فإذا به يتوقف ، قال الشيخ بألا أوقفها وإلا لن تعمل مرة أخرى ، وهل أتركها تعمل بدون فائدة ، وضع سبابته على فمه بعد أن جمع يديه إلى صدره ، سمع صوت جاره يعلمه بأذان الظهر ، نعم سآتي سآتي .
في المساء باع وباع حتى اضطر إلى أن يستدين السلعة من جاره ، كان يوما مباركا ، فكر في أن يستجلب سلعا جديدة صباح الغد .
تحسنت حاله واشتهر متجره الذي أصبح مكتظا بالسلع ومزدحما بالزبناء فلا يكاد يجد متسعا من الوقت ليستريح هو والفتيان اللذن أصبحا يشتغلان معه وقد يعينهما ابنه البكر في أوقات فراغه ، والمروحة لازالت على حالها لا تتوقف عن الدوران وريحا يطاير جميع ما يصادفه من الأشياء الخفيفة ، والكثير من الزبناء من يعبر عن ضجره من ريحها وقد يتأفف إذا ما تطايرت الورقة النقدية من على المنضدة عندما يضعها ليؤدي ثمن ما اشترى.
دخل فصل الخريف ثم أعقبه فصل الشتاء والمروحة على حالها لا يأبه صاحبها بتعليقات الناس ولا يلقي بالا للنظرات الساخرة التي يبدونها ، والغمز واللمز وما إلى ذلك ما دام الربح وفير والزبناء تترى ، أصبح يطمع في نشلطات ربحية كثيرة فدخل سوق العقار يشتري ويبيع ، وسوق الجملة في مجال المواد الغذائية ، شيء واحد هو الذي ينغص عليه حياته وهو اللقب الجديد الذي أصبح لصيقا به وهو أن الناس أصبحوا يلقبونه ب
أبو مروحة) ويتندرون به ، ذات يوم جاءه ابنه الوسط وهو في سلك الإعدادي وهو يتميز من الغيظ ، فلما سأله أبوه عن السبب قال له بأن التلاميذ ينادونه بابن أبي مروحة مما يجعله دائم الشجار معهم .
وضعت ابنته المتزوجة وليدة بعد مخاض عسير ففرح أفراد الأسرة بنجاتها ونجاة الجنين ، سمع زغاريدهم الجيران بعد الصلاة على رسول الله وهم ينظرون إلى الوليدة الجميلة ، سألت النفساء أمها ما عساي أن أسميها يا أمي؟، نطقت أختها الصغرى فقالت : نسميها بنت بنت أبي مروحة قالتها مازحة ضجت الحاضرات من الصديقات والجارات بالضحك مما فجر بركان الغضب في نفس الأم التي نهرت ابنتها بشدة حتى أنها خرجت مغضبة متعثرة بإحدى قوائم الطاولة التي رصت بأصناف الحلويات والمرطبات، فإذا الفرح ينقلب إلى ضده ، وتحول المجلس إلى ما يشبه مجلس عزاء والكل قد أطرق وخرست الألسن وأصبح الجو كئيبا مقفرا من البسمة والمرح.
تناهى الخبر إلى مسامع صاحب المروحة مما زاده حنقا على المروحة وعلى من أتى بها وسب اليوم الذي أخذها فيه ووضعها على المنضدة بدكانه.
خرج من داره لا يلوي على شيء ومفاتيح المحل بيده أحكم قبضته عليها ، فتح أبواب الدكان وعمد إلى مأخذ المروحة وفصله عن القابس بقوة حتى تطاير الشرر، فتوقفت عن العمل ،ثم خرج بنفس القوة التي دخل بها المحل وأنزل الباب ذات المزلاج وأعاد الأقفال إلى أماكنها ووقف هنيهة ينفخ النفس المتجمع بصدره ثم استدار وقصد بيته لا يعرّج على شيء وقال لأهل بيته لقد انتهينا من أمر المروحة وما سببته لنا من إزعاج فلتستريحوا من همها ، ثم قصد غرفة نومه وآوى إلى فراشه . فتح دكانه في الصباح ، قصد المروحة وبينما هو يحاول وصلها بالتيار إذا بالشيخ يقف بإزائه يربت على كتفه ويقول :" لا تتعب نفسك فإنها لن تشتغل " مد يده دون أن يستأذنه وحملها ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها مضمومة وقال : خذ . فإذا هي الورقة التي كان قد أعطاها للشيخ مقابل المروحة دون أن يعرف ما هي .
فتح الورقة فإذا مكتوب عليها " ولم نجد له عزما " رفع عينيه ليستفسر الشيخ عن كل ما جرى فإذا به قد انصرف.
ظل صباحه ينتظر مشتريا من ذكر أو انثى فلم يأته أحد . أعياه الانتظار والترقب ، شرع في البحث عن كرسيه ذو المخذة المسطحة ومد يده إلى سبحته التي كان قد علقها على مسمار مثبت في الحائط.