مقال رقم 1 :
جميل حمداوي - المغرب
1ـ القسم النظري:
إذا كان المنهج الاجتماعي الوضعي يعقد ربطا آليا بين مضامين الأدب والمجتمع, باعتبار أن الأديب لا يعكس سوى بيئته ووسطه الاجتماعي, فإن البنيوية التكوينية تعقد تماثلا من نوع آخر ليس بين مضمون الأدب والمجتمع, بل بين الأشكال الأدبية وتطور المجتمع بطريقة غير آلية. ويتم هذا الترابط بواسطة التناظر أو التماثل بين البنى الجمالية أو الفنية والبنى الاجتماعية . ويمكن التمييز كذلك بين بنيوية تكوينية وظيفية يمثلها لوسيان كولدمان , وبنيوية شكلانية غير تكوينية يمثلها كل من جاكبسون وكلود لفي شتراوش ورولان بارت وﮔريماس وألتوسير وفوكو ولاكان .....
هذا، وإن البنيوية التكوينية عبارة عن تصور علمي حول الحياة الإنسانية ضمن بعدها الاجتماعي. وتمتح تصوراتها النفسية من آراء فرويد , ومفاهيمها الإبستيمولوجية من نظريات هيــجل وماركس وجان بياجي . أما على المستوى التاريخي والاجتماعي , فتعود تناصيا إلى آراء هيجل وماركس وكرامشي ولوكاتش والماركسية ذات الطابع اللوكاتشي .
ويستهدف لوسيان كولدمان من وراء بنيويته التكوينية رصد رؤى العالم في الأعمال الأدبية الجيدة عبر عمليتي الفهم والتفسير بعد تحديد البنى الدالة في شكل مقولات ذهنية وفلسفية . ويعد المبدع في النص الأدبي فاعلا جماعيا يعبر عن وعي طبقة اجتماعية ينتمي إليها، وهي تتصارع مع طبقة اجتماعية أخرى لها تصوراتها الخاصة للعالم. أي إن هذا الفاعل الجماعي يترجم آمال وتطلعات الطبقة الاجتماعية التي ترعرع في أحضانها , ويصيغ منظور هذه الطبقة أورؤية العالم التي تعبر عنها بصيغة فنية وجمالية تتناظر مع معادلها الموضوعي "الواقع".
وتنبني منهجية لوسيان ﮔولدمان السوسيولوجية على اعتبار العمل الأدبي أوالفني عملا كليا , أي دراسته كبنية دالة كلية . وهذا يستلزم تحليل النص بطريقة شمولية وذلك بتحليل بنياته الصغرى والكبرى من خلال تحليل عناصره الفونولوجية والتركيبية والدلالية والبلاغية والسردية والسيميولوجية دون أن نضيف ما لا علاقة له بالنص , إذ علينا أن نلتزم بمضامين النص دون تأويله أو التوسع فيه , وبعد ذلك نحدد البنية الدالة وهي مقولة ذهنية وفلسفية تستخلص من كلية العمل الأدبي عبر توارد تيماته المتواترة . ويشكل كل هذا عملية الفهم LA COMPREHENSION. وعندما نحدد البنية الدالة والرؤية للعالم المنبثقة عن الوعي الممكن, نقوم بتفسير تلك الرؤية خارجيا أومايسمى لدى ﮔولدمان EXPLICATION ، وذلك بتحديد العوامل المؤثرة في هذه البنية وكيف تشكلت من خلالها رؤية العالم . ويعني هذا أنه لابد عند إضاءة النص الأدبي وفهمه فهما كليا وحقيقيا من الانتقال إلى خطوة أساسية وهي تفسير النص خارجيا بالتركيز على العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية على الرغم من الطابع الفردي لما هو نفسي . ويعني كل هذا أن البنية الدالة ذات الطابع الفلسفي لا يمكن أن تبقى ساكنة, بل لا بد من إدراجها ضمن بنية أكثر تطورا لمعرفة مولداتها وأسباب تكوينها؛ لذلك سميت بالبنيوية التكوينية (Structuralisme génétique).
وتعتمد البنيوية التكوينية على مصطلحات إجرائــية لا بد من التسلح بها لتحليل النص الأدبي تحليلا سوسيولوجيا للأشكال الأدبية ويمكن حصر هذه المصطلحات فيما يلي :
1 ـ الفهم والتفسير: La compréhension et l’éxplixation
إذا كان الفهم هو التركيز على النص ككل دون أن نضيف إليه شيئا من تأويلنا أو شرحنا, فإن التفسير هو الذي يسمح بفهم البنية بطريقة أكثر انسجاما مع مجموع النص المدروس. ويستلزم التفسير استحضار العوامل الخارجية لإضاءة البنية الدالة1 .
2 ـ الرؤيــة للعالم: La vision du monde:
هي" مجموعة من الأفكار والمعتقدات والتطلعات والمشاعر التي تربط أعضاء جماعة إنسانية (جماعة تتضمن، في معظم الحالات, وجود طبقة اجتماعية) وتضعهم في موقع التعارض في مجموعــات إنسانية أخرى"2. ويعني هذا أن الرؤية للعالم هي تلك الأحلام والتطلعات الممكنة والمستقبلية والأفكار المثالية التي يحلم بتحقيقها مجموعة أفراد مجموعة اجتماعية معينة.
إنها باختصار تلك الفلسفة التي تنظر بها طبقة اجتماعية إلى العالم والوجود والإنسان والقيم . وتكون مخالفة بالطبع لفلسفة أو رؤية طبقة اجتماعية أخرى . فمثلا رؤية الطبقة البرجوازية للعالم تختلف عن رؤية الطبقة البروليتارية ، ورؤية شعراء التيار الإسلامي مختلفة جذريا عن رؤية شعراء التيار الاشتراكي في أدبنا العربي المعاصر .
3ـ التماثــــل Homologie:
إن العلاقة بين الأدب والمجتمع ليست علاقة آلية أوانعكاسية أو علاقة سببية دائما، بل على العكس , فإنها علاقة ذات تفاعل متبادل بين المجتمع والأدب , وبتعبير آخر إن الأشكال الأدبية - وليست محتويات الأدب- تتماثل مع تطور البنيات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية , ويعني هذا أن هناك تناظرا بين البنية الجمالية والبنية الاجتماعية بطريقة غير مباشرة ولا شعورية ، وأي قول بالانعكاس بينهما يجعل الأدب محاكاة واستنساخا وتصويرا جافا للواقع , ويعدم في الأدب روح الإبداع والتـتخييل والاسطيطيقا الفنية . إذاً، " هناك تناظر دائم في كل عمل إبداعي... بين واقعه وموضوعه، بين بنية شكلية ظاهرة، وبنية موضوعية عميقة, بين اللحظة التاريخية والاجتماعية واللحظة الإبداعية, بين سياقية الجدل الروائي، وسياقية الجدل الاجتماعي ".3
4 ـ الوعي القائم والوعي الممكن:La conscience réelle e t la conscience possible
الوعي القائم هو الوعي الواقعي الموجود لدى الشخصية في الحاضر. وهو الوعي الموجود تجريبيا على مستوى السلب . ويعني هذا أن الوعي القائم هو " وعي آني لحظي وفعلي , من الممكن أن يعي مشاكله التي يعيشها , لكنه لايملك لنفسه حلولا في مواجهتها والعمل على تجاوزها".4 أي إنه وعي ظرفي, فكل مجموعة اجتماعية تحاول فهم الواقع وتفسيره انطلاقا من ظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والدينية والتربوية, دون أن يكون لها تصور مستقبلي وإيديولوجيا لاقتراح بديل إيجابي ومثالي لحياتها المعيشية. وإذا كان الوعي القائم هو وعي الحاضر والآني والمرحلي, فإن الوعي الممكن هو وعي إيديولوجي مستقبلي يتجاوز جدلا الوعي القائم والوعي الزائف المغلوط. وإذا كان الوعي القائم هو وعي التكيف والمحافظة على الواقع, فإن الوعي الممكن هو وعي التغيير والتطوير, ويصبح الوعي الممكن في كلية العمل الأدبي المنسجم رؤية للعالم وتصورا فلسفيا وإيديولوجيا للطبقة الاجتماعية.
" وإذا كان الوعي الفعلي يرتبط بالمشكلات التي تعانيها الطبقة أو المجموعة الاجتماعية , من حيث علاقاتها المتعارضة ببقية الطبقات أو المجموعات , فإن هذا الوعي الممكن يرتبط بالحلول الجذرية التي تطرحها الطبقة لتنفي مشكلاتها, وتصل إلى درجة من التوازن في العلاقات مع غيرها من الطبقات أو المجموعات "5 .
5 ـ البنية الدالــــة أو الدلاليةStructure signifiante:
البنية الدالة هي عبارة عن مقولة ذهنية أو تصور فلسفي يتحكم في مجموع العمل الأدبي. وتتحدد من خلال التواتر الدلالي وتكرار بنيات ملحة على نسيج النص الإبداعي, وهي التي تشكل لحمته ومنظوره ونسقه الفكري. وتحمل بنى العالم الإبداعي دلالات وظيفية تعبر عن انسجام هذا العالم وتماسكه دلاليا وتصوريا في التعبير عن الطموحات الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية للجماعة. ويحدد ﮔولدمان الدور المزدوج للبنية الدالة باعتباره مفهوما إجرائيا بالأساس . فهو" من جهة الأداة الأساسية التي تمكننا من فهم طبيعة الأعمال الإبداعية ودلالاتها , ومن جهة أخرى , فهو المعيار الذي يسمح لنا بأن نحكم على قيمتها الفلسفية والأدبية أوالجمالية , فالعمل الإبداعي يكون ذا صلاحية فلسفية أو أدبية أو جمالية بمقدار ما يعبر عن رؤية منسجمة عن العالم إما على مستوى المفاهيم وإما على مستوى الصور الكلامية أو الحسية وإننا لنتمكن من فهم تلك الأعمال وتفسيرها تفسيرا موضوعيا بمقدار ما نستطيع أن نبرز الرؤية التي تعبر عنها ".6 إذاً، فالبنية الدالة هي التي تسعفنا في إضاءة النص الأدبي وفهمه, كما تساعدنا فلسفيا وذهنيا على تحديد رؤية المبدع للعالم ضمن تصور جماعي ومقولاتي.
6ـ البطل الإشكاليLe héro problématique :
ورد هذا المفهوم عند جورج لوكاتش في نظرية الرواية ، وهذا البطل ليس سلبيا ولا إيجابيا , فهو بطل متردد بين عالمي الذات والواقع ، يعيش تمزقا في عالم فض. إذ يحمل البطل قيما أصيلة يفشل في تثبيتها في عالم منحط يطبعه التشيؤ والاستلاب والتبادل الكمي . لذلك يصبح بحثه منحطا بدوره لاجدوى منه . ويصبح هذا البطل مثاليا عندما يكون الواقع أكبر من الذات كرواية دون كيشوط لسيرفانتيس ، كما يكون البطل رومانسيا عندما تكون الذات أكبر من الواقع وخاصة في الروايات الرومانسية ، ويكون كذلك بطلا متصالحا مع الواقع عندما تتكيف الذات مع الواقع ولاسيما في الروايات التعليمية . وهذا التصنيف أساس نظرية الرواية لجورج لوكاتش ، وقد استفاد منه ﮔولدمان كثيرا وخاصة في كتابه
الإبداع الثقافي في المجتمع الحديث) الذي يقول فيه عن هذا البطل:" يتمتع هذا الشكل - رواية البطل الإشكالي ـ بوضع خاص في تاريخ الإبداع الثقافي : إنها حكاية البحث المتدهور لبطل لا يعي القيم التي يبحث عنها داخل مجتمع يجهل القيم ويكاد أن ينسى ذكراها تقريبا . فالرواية، ربما, كانت الأولى بين الأشكال الأدبية الكبيرة المسيطرة في نظام اجتماعي, التي حملت، جوهريا طبيعة نقدية...".7 ويضيف أيضا " من خلال بحثه المضطرب ينتهي البطل إلى وعي استحالة الوصول وإعطاء معنى للحياة ".8
إذاً، فالبطل الإشكالي ليس بطلا إيجابيا مثل البطل الملحمي الذي نجده في الإلياذة أوالأوديسا لدى هوميروس حيث تتحقق الوحدة الكلية بين الذات والموضوع ،بل هو بطل يعيش اضطرابا مأساويا، ومأزقا يجعله يتردد بين الذات والموضوع وبين الفرد والجماعة،ويفشل في تحقيق أهدافه وقيمه الأصيلة في مجتمع لا يعترف بالقيم الكيفية ولا يؤمن سوى بقيم التبادل والسلع والمعايير المادية .
2- القــــــســـم التـــحليـــلــي:
لمعرفة البنيوية التكوينية إجرائيا وتطبيقيا آثرنا أن نحلل دراسات نجيب العوفي الأدبية والنقدية حول القصة القصيرة المغربية الحديثة ؛9 إذ تتمظهرفيها البنيوية التكوينية نظريا وتطبيقيا، وهي بنيوية ذات أساس مادي جدلي .
ينطلق الناقد المغربي والأستاذ الجامعي نجيب العوفي في كتابه" مقاربة الواقع في القصة القصيرة" أو في مقاله" القصة القصيرة والأسئلة الكبيرة" من التصور البنيوي التكويني .إذ يصرح الباحث قائلا :
" وبموازاة هذا التفكيك أو ضمنه كنا نقوم بتفكيك البنى الذهنية ذاتها الثاوية في طيات البنى السردية والمنتجة لها . كنا نقرأ الأسئلة المضمرة من خلال الأسئلة المظهرة . نقرأ واقعية النصوص من خلال قصصيتها وقصصيتها من خلال واقعيتها . كنا نقرأ بعبارة , واقع القصة المغربية وقصة الواقع المغربي .
يمكن أن نعتبر العملية الأولى( تفكيك البنى السردية) حسب المصطلح الـﮔولدماني فهما ... كما يمكن أن نعتبر العملية الثانية (تفكيك البنى الذهنية) وحسب المصطلح الكولدماني أنها (تفسيرا)".10
يقسم نجيب العوفي رسالته الجامعية إلى بابين : الباب الأول خاص بالبحث عن الهوية (التأسيس)، والباب الثاني متعلق بإثبات الهوية (التجنيس). ويركز نجيب العوفي في بحثه على أهمية القصة القصيرة في عصرنا، ويعتبر هذا الجنس على الرغم من قصر حجمه يطرح أسئلة وقضايا كبرى . وينتقل بعد ذلك ليحدد مراحل القصة المغربية في مرحلتين أساسيتين:
1ـ القصة القصيرة بين التأسيس والبحث عن الهوية والهم الوطني.
2ـ القصة القصيرة بين التجنيس وإثبات الهوية والهم الاجتماعي .
إذاً، يحدد نجيب العوفي نشأة القصة القصيرة بالمغرب ويبرز مراحلها وتطوراتها على غرار أحمد اليابوري وأحمد المديني في رسالتيهما الجامعيتين حول نفس الجنس بالمغرب .
وتمتاز القصة المغربية القصيرة حسب نجيب العوفي بميزتين أساسيتين :
أ ـ التأسيس.
ب- التجنيس.
في مرحلة الحماية، كان الصراع حادا بين المغاربة والمستعمر في إطار ثنائية " نحن ـ الآخر "، وامتدت هذه الفترة ما بين 1940ـ1956. وكان سؤال القصة القصيرة آنذاك هو سؤال الوطن والبحث عن الهوية، وأصبحت الوطنية طابعا مميزا لتلك القصة . وكان البطل بالضرورة وطنيا . ولا يعني هذا أن السؤال الاجتماعي مغيب , بل كان ثانويا بالمقارنة مع السؤال الوطني . ولم يتبلور مفهوم الطبقة الاجتماعية بشكل جلي؛ لأن الأمة هي المبتغى والرهان الأساس. ويعني هذا أن القصة الغالبة في مرحلة الحماية كانت قصة وطنية أكثر مما هي قصة اجتماعية؛ لأنها انتقدت الاستعمار ونددت بكل أشكال الظلم الاستعماري حتى الاجتماعي منه. وكان أبطال القصة يحلمون بالحرية ويعملون على تحقيقها , لذلك كان الوعي عند الشخصيات وطنيا والرؤية للعالم رؤية وطنية قوامها الكفاح والتحرر من الاستعمار . أما البطل فكان بطلا بروميثيوسا يقارع الاستعمار ويحاول مجابهته قصد تحقيق الحرية لأبناء وطنه .
ويتجلى الهاجس الوطني من خلال فعل الدفاع عن الهوية ( البطل البرومثيوسي الوطني )، وفعل الهجوم على الهوية ( البطل الاستعماري المضاد). وقد نتج عن هذا الصراع الوطني صدع اجتماعي كان يؤجج الصراع الداخلي لطرد المستعمر من البلاد. ويمكن تفسير هذا المتن القصصي بما كانت تقوم به الحركة الوطنية من دفاع عن الهوية الوطنية ونشر الوعي الوطني بين أبناء هذا الوطن وتأطير الطبقة الاجتماعية الكادحة لتنسيق المواقف لمواجهة المستعمر . لذلك كان الوعي الوطني ـ في طابعه السلمي والعسكري ـ مهيمنا على هذه المرحلة .
ويمثل هذه المرحلة كل من عبد المجيد بن جلون و عبد الرحمن الفاسي وأحمد بناني وعبد الكريم غلاب و أحمد بناني وأحمد عبد السلام البقالي ومحمد الخضير الريسوني .
إذاً، انطلق نجيب العوفي من عملية التفسير ليحدد العوامل التي أفرزت القصة القصيرة الوطنية إبان المرحلة الاستعمارية , وحصرها في عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية , وبين أن الهاجس الغالب على هذه المرحلة هو الهاجس الوطني الذي يتمثل في البحث عن الاستقلال وبناء مغرب جديد متحرر ومستقل . وهذا يتماثل مع مكونات عملية الفهم إذ استخلص بنية دالة ألا وهي البحث عن الهوية والشروع في تأسيسها . وأبرز بعد ذلك نمط الوعي لدى الشخصيات الذي يكمن في الوعي الوطني كما أن رؤية الشخصيات إلى العالم رؤية وطنية محضة .
إذا كانت الدلالة القصصية مبنية على تيمة الوطن /الهوية، فإن البنية الشكلية تتسم بالحفاظ على البنية التقليدية الموبسانية ( البداية و الوسط و النهاية)، وعدم الاهتمام باللغة القصصية , وغلبة أسئلة المضمون على الشكل تماثلا مع هيمنة السياسي على الثقافي من حيث التـفسير .
وتبتدئ المرحلة الثانية من أعقاب الاستقلال إلى غاية 1970، وسيمتاز الظرف التاريخي بالصراع الاجتماعي والطبقي(نحن ــ نحن )، ويمثل هذه المرحلة مجموعة من القصاصين المغاربة أمثال محمد إبراهيم بوعلو , ومحمد بيدي , ومبارك ربيع , وعبد الجبار السحيمي , ورفيقة الطبيعة , ومحمد زفزاف , وإدريس الخوري , ومحمد شكري , والأمين الخمليشي، ومحمد زنيبر، ومحمد برادة، ومحمد القطيب التناني , ومحمد عزيز الحبابي، وخناتة بنونة، ومحمد أحمد شماعو، وحميد البلغيثي، ومحمد التازي، ومحمد الصباغ .
وفي هذه المرحلة، أصبح السؤال الاجتماعي يطرح نفسه بإلحاح بعد تغير مغرب الاستقلال تاريخيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا, وحلت الطبقة محل الأمة، واتخذ الصراع طابعا طبقيا واجتماعيا بين المغاربة أنفسهم، بين الطبقة الكادحة والطبقة المسيطرة, على وسائل الإنتاج والثراء المادي.
أما عن شخصيات القصة فهي عادية، يمكن حصرها في شخصية الكادح من فلاح وعامل وشخصية المثقف اللتين تعانيان من القــهر الاجتماعي والقهر الروحي , ومن سمات شخصيات هذه القصة الاجتماعية أنها كائنات إشكالية مهمشة تعبر عن مجتمع مشتت .
هذا، وإن العوفي بدأ هذه المرحلة الثانية بعملية التفسير إذ حدد العوامل التي تحكمت في متن التجنيس وجعلها في ما هو تاريخي وسياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي . وإذا كان الواقع يعج بالصراع الطبقي والاجتماعي ,فإن هذا يتناظر مع ذلك الصراع الذي نجده في المتن القصصي , إذ تهيمن تيمة المجتمع / الهوية التي تتمثل في السعي الجاد نحو إثبات الهوية الاجتماعية وتأسيس المغرب الاجتماعي . ويعني هذا أن تطور القصة القصيرة المغربية متواشج ومتفاعل مع تطور البرجوازية الصغيرة وتطور الأحداث المرجعية أي إن القصة المغربية في بعديها : الوطني والاجتماعي كانت مرآة عاكسة للواقع المغربي بطريقة غير مباشرة أو غير آلية. فبعد القصة الوطنية والبحث عن الهوية الوطنية ننتقل إلى القصة الاجتماعية والبحث عن الهوية الاجتماعية , وبعد البطل الوطني البرومثيوسي، نجد البطل الكادح والمثقف الإشكالي ، كما ننتقل من وعي وطني إلى وعي اجتماعي، ومن رؤية وطنية إلى رؤية اجتماعية . وإذا كانت دلالة القصة في المرحلة الثانية دلالة اجتماعية , فإن بنية الشكل ترتكز على بطولة هامشية مقهورة، وعلى اختلاف في المنظورات الواقعية لدى القصاصين , والمحافظة إلى حد كبير على بنية السرد الكلاسيكي مع تنويع البنى والأغاريض السردية , واستخدام مكثف للمنولوج والميل نحو الاقتصاد في توظيف الشخوص والفضاءات واللغة القصصية.
ومن مآخذنا على هذه الدراسات الأدبية والنقدية التي قام بها نجيب العـــوفي :
1ـ التلفيق المنهجي: إذ يجمع العوفي بين الواقعية التجريبية والبنيوية التكوينية والبنيوية الشكلانية السردية والسيميائيات. فكيف يمكن الجمع بين مناهج متعددة ومتعارضة إبستيمولوجيا وفلسفيا ؟!
2ـ ترجيح كفة الواقعية المباشرة على كفة البنيوية التكوينية والسقوط في الانعكاس والافتراض الآلي المسبق.
3ـ ضعف الإحالات الببليوغرافية التي تحدد التصور النظري والمنهجي للبنيوية التكوينية لدى لوسيان ﮔولدمان .
4ـ تمييع المصطلح النقدي وعدم احترام مفاهيم كل جنس أدبي، إذ يقارب القصة القصيرة بمفاهيم الشعر على غرار الدكتور أحمد المديني الذي عاب عليه كثيرا في كتابه" جدل القراءة"11 لغته البيانية والإنشائية في رسالته حول القصة القصيرة المغربية.
5ـ توظيف لغة بيانية إنشائية يغلب عليها التسيب بدل الإتقان والتحكم في الحقل الاصطلاحي؛ إذ تصبح لغته ذاتية تنقصها الموضوعية والطابع الوصفي العلمي.
6ـ التضحية بالنص لحساب المرجع الواقعي وإديولوجية الرؤى والطبقات الاجتماعية وتصورات المبدعين .
7ـ كيف يمكن الحديث عن تجنيس القصة القصيرة المغربية وتأسيسها من خلال مقاييس القصة الغربية الموباسانية( نسبة إلى غي دي موباسان الكاتب الفرنسي المشهور في مجال القصة القصيرة) , مع العلم أن التجنيس القصصي بدأ مع السرد العربي القديم ( كليلة ودمنة , المقامات ....)، وأن أهم مرحلة قصصية يمكن اعتبارها هي مرحلة التأصيل التي نجدها عند مجموعة من القصاصين العرب والمغاربة( كجمال الغيطاني مثلا ....).
8 ـ عدم دقة مفهوم التأسيس والتجنيس لأن معناهما واحد، فالتجنيس هو إرساء قواعد جنس معين وتأسيس النصوص اعتمادا على هذه المعايير الفنية .
وعلى الرغم من هذه الملاحظات , فتبقى دراسة نجيب العوفي المنهجية والتطبيقية دراسة جادة , ولا سيما أنه يطرق موضوعا بكرا متشعبا ألا وهو موضوع القصة القصيرة ومحاولة تحقيبها تاريخيا وفنيا . لذلك تعد دراسات نجيب العوفي الـــبداية الحقيقية والفتح الأول لعالم القصة القصيرة في المغرب إلى جانب أعمال عبد الرحيم مودن12 . أما أعمال أحمد اليابوري13 وأحمد المديني14 فلم تكن إلا دراسات انطباعية ومحاولات جنينية فرضتها ظرفية تاريخية معينة.
المقال رقم 2 :
بنيوية"لوسيان غولدمان" التكوينية تأصيلُ النصّ..
تأصيل النقد بنيوياً
نجم الدين سمان
بدايةً، سأعترف بأني قرأتُ، ما أطلقَ عليه مركز الإنماء الحضاري بحلب "دراسات في المنهج" من آخرها، أَيْ.. من الصفحة(79)، وتحديداً ممَّا ترجمه د. محمد نديم خشفة، من آخر حوارٍ مع الفيلسوف والناقد"لوسيان غولدمان" [1913- 1970]، والذي تُعتبر إنجازاته النقدية امتداداً فكرياً لأعمال"جورج لوكاتش"، حيث تميَّزت أعمال غولدمان بتركيزها على علم اجتماع المعرفة، وعلى علم اجتماع الأدب، وجدّدتْ كتاباته النقد الماركسي المعاصر، لتُضيف إليه قيمةً معاصرةً تتجاوز إطاره الدوغمائي، وتنفتح على أحدث تيارات النقد الأدبي، ثم إعادة إنتاج أفضل ما فيها في إطار رؤيته السوسيولوجية الجدلية للأدب، وقد أَهَّل إطلاع لوسيان غولدمان الواسع على الفلسفة الألمانية لابتكار منهجية جديدة في الدراسة الأدبية، أسماها"البنيوية التكوينية".
* مُحَاوَرَةُ لوسيان غولدمان *
في الحوار، الذي أَثْبَتَهُ المترجم في آخر كتابه، غير مُشيرٍ إلى اسم المُحَاوِر، أو إلى اسم المجلة التي نشرته، وكذا.. تاريخ النشر!، تتبدَّى خلاصة رؤيا غولدمان، وتتكثّف مُجمل انتقاداته للمفكر الماركسي"ألتوسير" ولمدرسته في مفهوم"القطيعة المعرفية"، المُنْتَسِبَةِ إلى الفيلسوف الفرنسي"باشلار"، كما يعرض فيه للمعنى الحقيقي لمفهوم"التشيُّؤ" ولظروفه التاريخية انطلاقاً من تفسير"لوكاتش" له، ويشرح فيه غولدمان مفهومه عن ارتباط الذات بالموضوع، بشكلٍ يتجاوز به مفهوم"دوركايم" عن"الذات الجماعية" فيدعوه"الذات المُتَجَاوِزة للفردية".
وسأقتطف ها هنا، للقارئ، مقطعاً من الحوار، يُكثف جوهر نظرته للأدب، فيما هو يُقارنها بنظرة البنيويين، يقول غولدمان:
"أنا متفقٌ مع البنيويين، في أن كل فعل إنساني لا يُمكن معرفته ودراسته بعيداً عن البنية الشاملة التي هو جزءٌ منها، لكن البنية الشاملة بالنسبة لي، هي نفسها، جزء من بُنيةٍ"ستاتيكية" أشمل، وعند هذا الحد يتوقف التشابه بين البنيوية، وبين نظريتي في البنيوية التكوينية.
لأن مفهوم البنية، وأسبقيةَ هذه الطرائق السكونية يختلفان. فبالنسبة للفكر الجدليّ يصبح التأصُّل أو"التكوُّن"، والذات المُحَرِّكة له، ضروريان، معاً لكل دراسة علمية، على حين أن البنيوية-غير التكوينية- قد أخذتها من العلوم.
وأخيراً، فإن مفهوم البنية ذاته، مختلف جذرياً بين المدرستين.. فالبنيوية تقتفي أثر الألسنية، فتتجاهل وتُلغي المعني، بل.. إنها لا تدرس في السلوك البشري سوى نظام الوسائل، على حين تعترف البنيوية التكوينية بأهمية دراسة الوسائل، وكذلك بوجود بُنياتٍ غير دلالية تنظم هذه الوسائل.
والبنيوية التكوينية، على عكس البنيويات الأخرى، ترى من داخل الفعل البشري وظيفة تلك الوسائل، قائمةً على الدوام في إمكانياتها على خلق بنيات دلالية".
هكذا، حسب غولدمان، تعزل البنيوية النصَّ عن الفعل الإنساني، بل.. إنها تراهُ متحققاً في نسق علاماته اللغوية والدلالية فحسب!.
على العكس من هذا، يحاول مذهب غولدمان"البنيوية التكوينية" البحث عن العلاقات الرابطة بين الأثر الأدبي وسياقه الاجتماعي- الاقتصادي، الذي سبق تكوينه، ويعتبر تلك العلاقات اندماجاً بين سلسلة من الجُمَل أو الكُلِّيات النِسْبية، حيث الأثر الأدبي مُتَشَكِّلٌ من جُمل أو كُلِّياتٍ يُمكن فهم أجزائها انطلاقاً من الأجزاء الأخرى، ثم تُفهم على أحسن وجهٍ انطلاقاً من بنية المجموعة كلها، من بنية النصّ.
ولا يعتبر غولدمان الأثر الأدبي انعكاساً للوعي الجماعي، رافضاً كلمة"الانعكاس"، مُفضلاً عليها تعبير" الرابطة الوظيفية" التي تُبرز تساوقاً، أو ترادفاً بين الآثار الأدبية وبين توجهات الوعي الجماعي للفئات الاجتماعية.
* انتقادات البنيويين لنظرية غولدمان *
يحشد المترجم د. خشفة جملةً من الانتقادات المعرفية والفنية التي جُوبهت بها نظرية غولدمان، عارضاً في مقدمة الكتاب إلى أبرزها..
ومنها، ما كتبه"جاك لينهارت":
"بينما ارتكز غولدمان في كتابه"الإله الخفي" على كتاب"الفرضيات حول فورباخ" لماركس، نراه في كتابه"من أجل سوسيولوجيا الرواية" يُطوِّر بُرهاناً مشتقاً من مصادرة ماركس عن عملية تشيُّؤ الوعي، المقتصر على المجتمعات المنتجة للسوق، وصولاً إلى زوال هذه المجتمعات.
والتناقض لدى غولد مان- يتابع جاك لينهارت أنه يستقي يأسه الثوريّ الخاص به، من النبع ذاته، الذي نَهَلَ"لوكاتش" منه الأمل في الرسالة التاريخية والثورية للبروليتاريا في كتابه الشهير"التاريخ والوعي الطبقي".
والفارق بين ظروف عام 1923، لدى ظهور كتاب لوكاتش، وبين عام 1963، لدى ظهور نظرية غولدمان.. يُوَضِّحُ التناقض في هذين الاستعمالين، المؤسسين على"تشيؤ الوعي" الماركسية، كما يوضِّح الانتقال من القراءة الديالكتيكية بتوجُّهٍ هيغلي، كما هي عند لوكاتش، إلى القراءة الستاتيكية لدى غولدمان".
ويورد المترجم أيضاً، ما كتبه"سيرج دوبروفسكي" في مؤلفهِ"لماذا النقد الجديد؟" المنشور عام 1966، كأعنفِ انتقادٍ لنظرية غولدمان، يقول دوبروفسكي:
(يتفق غولدمان مع"رولان بارت" في دراسة البنية الداخلية للنص أولاً، ويتفق مع"مورون" في ضرورة دراسة الحياة الانفعالية للمُؤلِّف، لكنه يتجاوزهما بالتأكيد على إدماج الأثر الأدبي ومؤلفه في بنيةٍ أوسع، هي البنية الاجتماعية مع الذهنية الثقافية، اللتين يمثلهما المؤلف أو ينتمي إليهما..
ويرى غولدمان أن موضوع الإبداع الثقافي الحقيقي هي الفئات الاجتماعية وليس الفرد، المتوحِّد، المعزول.. والكاتب في رأي غولدمان وسيطٌ بين الأثر الأدبي وبين الفئة الاجتماعية التي عبر عن أفعالها وتحولاتها وأفكارها هذا الأثر”.
يتساءل دوبروفسكي:
"ولكن ما هو دور الكاتب كوسيط؟!..
ها هنا، يتردَّد غولدمان قبل إعلانه أن الفرد المتميز، أو الاستثنائي، هو القادر على التعبير بالرؤية الكونية عن أقصى وعيٍ مُمْكِنٍ لطبقته، بينما يسخر"رولان بارت" من هذا الرأي بقوله: -إن المذهب الوضعيّ هو الوحيد الذي ما يزال يعتقد بوجود ربَّات الشعر وشياطينه!.
واعتماداً على توصيف بارت، فإن ما فعله غولدمان هو إعادة الاعتبار إلى علم النفس التحليلي، ليقوم مع علم الاجتماع بعملية تبادل للرهائن:
- أعطني الفرد فأعطيك المجتمع..
لكن علم النفس التحليلي يُعيد الرؤية الكونية-كما يتبنَّاها غولدمان كأقصى وعيٍ لدى الفنان- إلى حظيرة اللاشعور، فلا يجد غولدمان الحَلَّ سوى في البنيوية.. وهكذا تُسارع البنيوية إلى نجدة الماركسية!.".
* في متن الكتاب.. وفي تسميته *
يرتكز متن كتاب"تأصيل النص.. المنهج البنيوي لدى لوسيان غولدمان" على ترجمةٍ لثلاثة أبحاثٍ، يظنُّها المترجم تُمثِّل منهج غولدمان النقدي!.. أولها: مقدمة كتاب غولدمان"الإله الخفي"، والثاني: أحد فصول كتابه"من أجل سوسيولوجيا الرواية"، والثالث: الحوار، الذي سبق أن أشرتُ بدايةً إليه، وهو آخر حوارٍ أُجْرِيَ مع غولدمان.
هكذا، يُعتبر الكتاب ترجمةً، ومقدمة الكتاب مقدمة ترجمةٍ، بينما لا يُشير الغلاف الخارجي إلى تلك الكلمة"ترجمة: ...."، بينما يُشير الغلاف الداخلي إلى عبارة"دراسات في المنهج" لِيُوحِيَ بأكثر من دلالة كلمة"ترجمة"، وكأنَّ ذلك خطأ غير مقصودٍ من الناشر، لا يسعى به إلى تجاوز القارئ والمترجم معاً!، رغم الجهد الذي بذله المترجم والقارئ معاً للوصول إلى جوهر نظرية غولدمان في"البنيوية التكوينية"!.
المقال 3 :
(لوسيان غولدمان) (1913-1970) مفكر وناقد فرنسي من أصل روماني. ولد في بوخارست، وانتقل عام 1934 إلى باريس حيث هيأ رسالة دكتوراه في الاقتصاد السياسي. وفي عام 1940 هرب من الاحتلال الألماني لفرنسا إلى سويسرا حيث بقي في أحد معسكرات اللاجئين إلى سنة 1943 حيث توسط الفيلسوف (جان بياجيه) في تحريره وإعطائه منحة دراسية لرسالة الدكتوراه، ثم عيّنه مساعداً لـه في جامعة جنيف، حيث تأثر بأعماله حول البنيوية التكوينية.
وبعد تحرير فرنسا عاد (غولدمان) إلى باريس، وحصل على عمل كباحث في المركز الوطني للبحث العلمي، وهيّأ رسالة دكتوراه في الأدب بعنوان (الإله المختفي: دراسة للرؤيا المأساوية لأفكار باسكال ومسرح راسين) عام 1956، فأثار بها ضجّة كبيرة في النقد الحديث في فرنسا.
ثم وضع كتابه (أبحاث جدلية) عام 1959. وكان قد نشر كتابه (العلوم الإنسانية والفلسفية) عام 1952. وفي عام 1964 أصبح مديراً لقسم علم الاجتماع الأدبي بمؤسسة علم الاجتماع بجامعة بروكسل الحرة، فأصدر كتابه (من أجل علم اجتماع للرواية) عام 1964، ثم وضع (البنيات الذهنية والإبداع الثقافي) عام 1967، و (الماركسية والعلوم الإنسانية) عام 1970.
وكل هذه الأنشطة جعلته معروفاً كأحد ممثلي الفكر الماركسي، فترجمت أعماله إلى أكثر من عشر لغات عالمية، وشاعت تصوراته وأفكاره. والحق إن موقفه لا يخلو من مفارقة؛ فعلى الرغم من أنه يعلن نفسه تلميذاً لماركس ولوكاش الشاب، فإن معالجته للأدب جعلت بعض الماركسيين "الأرثوذوكسيين" يصفونه بـ (التحريفية)، ويصمون منهجه النقدي بأنه (نزعة اجتماعية مبتذلة)، على الرغم من أنه استطاع أن يتجاوز مأزق البنيوية الشكلية إلى النص المفتوح على مرجعيته، من خلال أبحاثه السوسيولوجية التي جعلها الخطوة التالية للمنهج البنيوي، والتي شكلت منهجه النقدي الذي تفرّد به وأسس له.
والواقع إنه ليس من السهل تقديم وصف شامل لنشاط شخصية دينامية انطفأت –مع الأسف- وهي في أوج نشاطها النقدي، ذلك أن منهجه في تطبيق المادية الجدلية على دراسة الأدب قد حقق هدفين في وقت واحد: فقد أنقذ البنيوية الشكلية من انغلاقها على النص المنقود وحده، كما أنقذ المنهج الاجتماعي من إيديولوجيته التي كانت تُقيّم الأدب من وجهة نظرها هي فحسب. فجاء (المنهج البنيوي التكويني) منهجاً علمياً موضوعياً يؤكد على العلاقات القائمة بين النتاج والمجموعة الاجتماعية التي ولد النتاج في أحضانها. وهذه العلاقات لا تتعلق بمضمون الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي، وإنما بالبنيات الذهنية التي هي ظواهر اجتماعية، لا فردية. وهذه البنيات الذهنية ليست بنيات شعورية أو لا شعورية، وإنما هي بنيات عمليات غير واعية. ومن هنا فإن إدراكها لا يمكن أن يتحقق بوساطة دراسة النوايا الشعورية للمبدع، ولا بوساطة تحليل محايث، وإنما بوساطة بحث بنيوي، ذلك أن الفرد الذي يعبّر عن الطبقة الاجتماعية، وعن رؤيتها للعالم، إنما يتصرّف انطلاقاً من هذه البنيات الذهنية التي تسود المجموعة التي يعبّر عنها.
وبهذا فإن غولدمان يميّز بين البنيوية التكوينية وسوسيولوجيا المضامين والأشكال: ففي حين ترى سوسيولوجيا المضامين والأشكال في النتاج الأدبي مجرد انعكاس للوعي الجماعي، فإن البنيوية التكوينية، ترى فيه إحدى العناصر المكوّنة للوعي الجماعي.
إن التفسير السوسيولوجي هو أحد العناصر الأكثر أهمية، في تحليل العمل الأدبي، والمادية التاريخية تسمح بفهم أفضل لمجموع السيرورات التاريخية والاجتماعية لفترة ما، وباستخلاص العلاقات بين هذه السيرورات والأعمال الأدبية التي خضعت لتأثيرها. ولكن التحليل السوسيولوجي لا يستنفد كل جوانب العمل الأدبي، وأحياناً لا يتوصّل إلى ملامسته، فيظل خطوة أولى لا بد منها للوصول إلى العمل الأدبي. والمهمّ هو العثور على الطريق التي من خلالها يعبّر الواقع التاريخي والاجتماعي عن نفسه عبر الحساسية الفردية للمبدع داخل العمل الأدبي.
ويشكل مفهوم (البنية الدلالية) الأداة الرئيسية للبحث عند غولدمان يفترض فيه وحدة الأجزاء ضمن (كلّية)، والعلاقة الداخلية بين العناصر، والانتقال من رؤية سكونية إلى رؤية دينامية مضمرة داخل المجموعات يتجه نحوها فكر ووجدان وسلوك الأفراد، ولكنهم لا يصلونها إلا لماماً، وفي حالات متميّزة يتطابق فيها موقفهم مع موقف طبقتهم الاجتماعية أو مجموعتهم. وتظهر هذه الحالات في مجالات الإبداع.
وأما (رؤية العالم) عند غولدمان فهي الكيفية التي ينظر فيها إلى واقع معين، أو هي النسق الفكري الذي يسبق عملية تحقق النتاج. وليس المقصود بها نوايا المؤلف، بل الدلالة الموضوعية التي يكتسبها النتاج، بمعزل عن رغبات المبدع، وأحياناً ضدها. وهذه الرؤية ليست واقعة فردية، بل هي واقعة اجتماعية تنتمي إلى طبقة اجتماعية أو مجموعة اجتماعية، فهي –بالتالي- وجهة نظر متناسقة لمجموعة من الأفراد. وقد بلور غولدمان منهجه البنيوي التكويني على مفاهيم (الكلية)، و (البنية الدالة)، و (رؤية العالم). وطبقها في كتابه (الإله الخفي) على أفكار باسكال ومسرحيات راسين وهما اللذان تجمع بينهما رؤيا مأساوية واحدة هي المطالبة بكل شيء أو بلا شيء، ورفض كل ما يقيّد الإنسان، تحت مراقبة إله حاضر- غائب في آن. والوعي المأساوي نابع من وضع الطائفة الجانسينية(1) التي تطابق فكرها مع إيديولوجية نبلاء الرداء الذين كانوا موزّعين في عصر لويس الرابع عشر بين ولائهم للملكية، ومعارضتهم للملك الذي كان يسعى إلى إضعافهم. وقد اكتشف غولدمان الفكر الخاص بمجموعة (الجانسنية) التي استقّى منها باسكال (2) وراسين(3) أفكارهما الإبداعية.
في كتابه (المنهجية في علم الاجتماع الأدبي)(4) يضع غولدمان منطلقات (المنهج البنيوي التكويني) في خمس:
1-إن على عالم اجتماع الثقافة أن يفهم الأدب انطلاقاً من المجتمع، وأن يفهم المجتمع انطلاقاً من الأدب. والعلاقة الجوهرية بين الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي لا تهمّ مضمون هذين القطاعين، وإنما تهمّ البنى الذهنية أو المقولات التي تنظم الوعي التجريبي لفئة اجتماعية معينة والكون التخييلي الذي يبدعه الكاتب.
2-إن تجربة الفرد الواحد هي أكثر إيجازاً من أن تقدر على خلق بنية ذهنية من هذا النوع، ولا يمكن لها أن تنتج إلا عن النشاط المشترك لعدد من الأفراد الموجودين في وضعية متماثلة والذين يشكلون فئة اجتماعية ذات امتياز، والذين عاشوا لوقت طويل وبطريقة مكثفة مجموعة من المشاكل وجدّوا في البحث عن حلّ ذي دلالة لها. أي أن البنى الذهنية (أو المقولاتية) ذات الدلالة ليست ظواهر فردية، وإنما هي ظواهر اجتماعية.
3-إن العلاقة بين الوعي الخاص بفئة اجتماعية ما والبنية التي تنتظم كون العمل الأدبي تكون ملائمة للباحث، متماثلة تماثلاً دقيقاً، إلا أنها غالباً ما تشكل مجرد علاقة ذات دلالة.
4-إن البنى الذهنية (المقولاتية) هي ما يمنح العمل الأدبي وحدته.
5-إن البنى الذهنية التي تنتظم الوعي الجمعي والتي يتم نقلها إلى الكون التخييلي للمبدع من طرف الفنان، ليست واعية وليست لا واعية بالمعنى الفرويدي، ذلك المعنى الذي يفترض كبتاً ما، ولكنها سيرورات غير واعية مماثلة لتلك التي تنتظم عمل البنى العضلية والعصبية، لهذا فإن الكشف عن هذه البنى أمر متعذر على الدراسة الأدبية المحايثة وعلى الدراسة المتجهة نحو النيّات الواعية للكاتب أو في علم نفس الأعماق، ولا يمكن أن يبلغه سوى بحث من النمط البنيوي والسوسيولوجي.
وينجم عن هذه المقدمات أن الدراسة البنيوية التكوينية تسعى إلى تقطيع الموضوع الذي تدرسه إلى حد يتبدّى معه هذا الموضوع مجموعة من التصرفات ذات الدلالة، ثم يكتشف الباحث (البنية) التي تكاد تشمل (كليّة) النص، ولا يضيف إلى النص شيئاً من عنده.
وهكذا يبدو الفرق واضحاً بين (المنهج البنيوي التكويني) والمناهج النقدية التقليدية، كما يشترك علم الاجتماع التكويني مع التحليل النفسي. أما الفرق بين المنهج البنيوي التكويني والمناهج النقدية التقليدية فيتجلّى في النقاط التالية:
1-عدم إيلاء أهمية خاصة في فهم العمل الأدبي للنيّات الواعية للأفراد، وللنيّات الواعية للمبدعين، لأن الوعي لا يشكل سوى عنصر جزئي للسلوك البشري. فعلى علم اجتماع الأدب أن يعامل النوايا الواعية للكاتب على أنها مجرد علامة من بين علامات عديدة، وعلى أنها نوع من التأمل في العمل الأدبي. وعليه أن يُصدر حكمه على ضوء النص دون أن يعطيه أدنى امتياز.
2-عدم المبالغة في أهمية الفرد حين القيام بالتفسير الذي هو بحث عن الذات الفردية أو الجماعية التي اتخذت البنية الذهنية المنتظمة للعمل الأدبي بفضلها طابعاً وظيفياً ذا دلالة. فالعمل الأدبي يكاد يمتلك وظيفة فردية ذات دلالة بالنسبة لكاتبه، إلا أن هذه الوظيفة الفردية غالباً ما تكون غير مرتبطة بالبنية الذهنية التي تنتظم الطابع الأدبي الخالص للعمل. فالمسرحيات التي كتبها (راسين) تكتسب دلالة ما انطلاقاً من شبابه الذي قضاه في (بور رويال) ومن علاقاته اللاحقة مع رجال البلاط والمسرح والجماعة الجانسينية وفكرها، إلا أن وجود هذه الرؤية المأساوية كان من المعطيات المكونة للأوضاع التي توّصل (راسين) منها إلى كتابة مسرحياته والتي جاءت كرد فعل وظيفي ذي دلالة للنبالة المثقفة على وضع تاريخي محدد.
3-إن ما نسميه (تأثيرات) لا يمتلك أية قيمة تفسيرية. ولكن على الباحث أن يفسرها، فهنالك تأثيرات تمارس فعلها على الكاتب. وما ينبغي تفسيره هو: لماذا لا يمارس تأثيره سوى عدد قليل منها.
إن (الفهم) يتعلق بالتماسك الباطني للنص، وهو يفترض أن نتناول النص حرفياً. ولا شيء غير النص. وأن نبحث داخله عن بنية شاملة ذات دلالة. أما (التفسير) فمسالة تتعلق بالبحث في الذات الفردية أو الجماعية التي تمتلك البنية الذهنية المنتظمة للعمل الأدبي. وهكذا يبدو الفهم والتفسير غير متعارضين، ذلك أن (الفهم) يكمن في الوصف الدقيق لبنية ذات دلالة، أو هو الكشف عن بنية دالة محايثة للموضوع المدروس. أما (التفسير) فهو إدراج هذه البنية، من حيث هي عنصر مكوِّن ووظيفي، في بنية شاملة مباشرة لا يسبرها الباحث بطريقة مفصّلة، وإنما بالقدر الضروري لجعل تكوين العمل الذي يدرسه مفهوماً، وعلى سبيل المثال نذكر كيف أن فهم (خواطر) باسكال و (مآسي) راسين هو نفسه الكشف عن الرؤية المأساوية المكوّنة للبنية الدالة المنتظمة.
أما عن علاقة المنهج البنيوي التكويني بالتفسيرات السيكولوجية، فعلى الرغم من أنهما يشتركان في التأكيد على أن كل سلوك بشري يشكل جزءاً من بنية واحدة ذات دلالة، وأنه لفهم هذا السلوك ينبغي إدراجه في هذه البنية التي ينبغي على الباحث اكتشافها، ولا يمكن فهمها إلا إذا أُحيط بها في تكوينها الفردي والتاريخي. نقول على الرغم من اشتراك المنهجين في بعض الأمور فإن التفسيرات السيكولوجية تطرح اعتراضات حاسمة منها أننا لا نملك سوى معرفة جد ضئيلة عن نفسية كاتب لم يسبق لنا أن عرفناه، بحيث تصبح أغلب التفسيرات المزعومة مجرد إنشاءات ذكية لنفسية وهمية يتمّ خلقها استناداً للشهادات المكتوبة. وإن التفسيرات السيكولوجية لم تنجح قط في الإحاطة بجزء يستحق الذكر من النص، وتلك الإحاطة لا تشمل سوى بعض العناصر الجزئية أو بعض الملامح العامة. بالإضافة إلى أن التفسيرات السيكولوجية إذا كانت تحيط ببعض أوجه العمل الأدبي، فإن ذلك يظل محصوراً في أوجه لا تمتلك أي طابع أدبي، فأفضل التفسيرات النفسية لعمل ما سوف لن تتمكن قط إطلاعنا على ما يميز هذا العمل عن كتابة أنجزها معتوه ما.
ذا كانت البنيوية نشأت أولا في حقل الدراسات اللغوية كرد فعل على عجز علم اللغة المقارن عن دراسة اللغات الهندية والإفريقية والأوروبية... بلحاظ المقارنة؛ فاضطر التفكير اللغوي أمام اختلاف الأنظمة الصوتية والنحوية والدلالية للغات إلى بحث كل لغة مستقلة بذاتها، كبنية لها قوانينها الداخلية الخاصة بها؛ فإن البنيوية التكوينية نتجت عن اختلال المنهج البنيوي بسبب تشدده ومبالغته في فصل النتاج الأدبي/الفني عن محيطه المجتمعي.
وفي سبيل تصحيح ذلك تأسس المنهج البنيوي التكويني كتركيب توفيقي- أو بالأحرى تركيب تلفيقي- بين منهجيتين اثنتين هما المنهج الاجتماعي الماركسي والمنهج البنيوي. وقد أسسه مجموعة من الباحثين الماركسيين الذين اقتنعوا بوجوب تجاوز ما وقع فيه المنهج البنيوي من إغراق في الشكلانية بمقاربة الظاهرة الفنية معزولة عن سياقها السوسيو- ثقافي، كما قصدوا ضمنيا إلى سد النقص الظاهر في النقد الماركسي، الذي أهمل النتاج الإبداعي، وانصرف إلى درس الواقع الاجتماعي الذي اكتنف ظهوره. وهذا التجاوز المزدوج لا نراه فقط محاولة تركيب بين المنهجين (البنيوي والماركسي)، بل هو في تقديري تعبير عن أزمة ومأزق هذين المنهجين معا، واحتياجهما إلى المعالجة والتصويب.
فهل نجحت البنيوية التكوينية في ذلك؟
لا نحتاج إلى القول بأن المنهج البنيوي التكويني لم يعد اليوم من مستجدات الفكر النقدي، بسبب كثرة ما كتب عنه وكتب به من مقالات ومقاربات نقدية. غير أن هدفنا من هذه السطور ليس تطبيق هذا المنهج ولا تأويله، وإنما تقديمه انطلاقا مما كتبه عنه أحد أهم منظريه، أعني لوسيان غولدمان. ففي كتابه «مقدمات في سوسيولوجيا الرواية» نجد فصلا كاملا مخصصا لتحديد ماهية هذا المنهج النقدي والمشكلات التي تعترضه. لذا نعتقد أن هذا الفصل المعنون بـ«المنهج البنيوي التكويني في تاريخ الأدب» نص كلاسيكي ثمين في أدبيات هذا المنهج، لا بد من العودة إليه إذا أردنا تأسيس فهم دقيق لماهية هذا المنظور النقدي كما يتصوره مؤسسوه.
يحدد غولدمان الهدف من دراسته هذه في قصدين اثنين هما:
1 - عرض مبادئ البنيوية التكوينية، «كما هي مطبقة على العلوم الإنسانية بصورة عامة، وعلى النقد الأدبي بصورة خاصة» (لوسيان غولدمان، في سوسيولوجية الرواية، ترجمة بدر الدين عرودكي، الطبعة 1، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، ص229).
2 - تقديم بعض الملاحظات «المتعلقة بالتماثل والتعارض بين مدرستين كبيرتين متكاملتين في النقد الأدبي ترتبطان بهذا المنهج» (المرجع السابق، ص 229) ويعني بهما الماركسية والتحليل النفسي.
لكن في بداية كلامه عن منهجه لا بد أن نلاحظ نغمة أحادية بل وثوقية، وهذا ليس بالأمر المستغرب؛ فشأنه في ذلك شأن كثير من مبدعي المناهج ودعاتها، إذ يقول بلغة استعلائية: «ليس التحليل البنيوي التكويني في تاريخ الأدب إلا تطبيقا على هذا المجال الخاص لمنهج عام نعتقد أنه المنهج الوحيد المقبول في العلوم الإنسانية «(ص 229).
وهكذا لا يجعل غولدمان المنهج البنيوي التكويني أحد مناهج التحليل الممكن انتهاجها لدرس الظاهرة الإنسانية، بل يذهب إلى حد الدعاية له بكونه المنهج الوحيد المقبول في تناول الموضوع الإنساني عامة!
وإذا غضضنا الطرف عن هذه النغمة الواثقة، والمختلة في آن واحد، وتابعنا قراءة تقديمه لمنهجه، سنلاحظ أنه خلال عرض مقدماته ومبادئه، يحرص على ربط الأدب بباقي أنماط الإنتاج البشري، حيث يؤكد أن النشاط الأدبي يخضع لذات القوانين التي يخضع لها غيره من أوجه وقطاعات السلوك الإنساني.
فلماذا هذا الحرص على وصل الأدب بغيره من النشاطات البشرية؟ أليس للإبداع الفني والأدبي خصوصيته وتميزه؟
رغم قول غولدمان بخصوصية النتاج الأدبي فإنه يدعو إلى النظر إليه بذات المنظار الذي تُرَى به الظاهرة السوسيولوجية في عمومها، لاعتقاده –كما أسلفنا القول– بخضوع هذا النتاج للقوانين ذاتها التي تخضع لها الظاهرة المجتمعية. ولذا ليست البنيوية التكوينية، في نظره، مجرد منهجية لقراءة الظاهرة الجمالية، بل هي أيضا المنهج -الوحيد- الذي ينبغي اعتماده لقراءة الظاهرة الإنسانية في مختلف مناحيها وتعدد أنماطها وسياقاتها.
فما ملامح هذا المنهج؟
يحدد غولدمان المنطلق الفرضي للبنيوية التكوينية في أن «كل سلوك إنساني هو محاولة إعطاء جواب دلالي على موقف خاص ينزع به إلى إيجاد توازن بين فاعل الفعل والموضوع الذي يتناوله، أي العالم المحيط». لكن هذا التوازن لا يستقر بل هو دائم الحراك؛ لأن «كل توازن... بين البنى العقلية للفاعل والعالم الخارجي يؤدي إلى وضع يحول داخله سلوك الإنسان العالم ويجعل فيه هذا التحول من التوازن القديم غير كاف بحيث يولد نزعة نحو موازنة جديدة سيتم تجاوزها بدورها فيما بعد».
إذن فالجدل الذي يميز الوجود البشري هو جدل قائم بين البنية العقلية والبنية الواقعية. والفعل الإنساني يسعى دوما نحو بناء التوازن بين هذين البنيتين، ثم مع صيرورة التطور يختل هذا التوازن فيتم تفكيكه لبناء توازن جديد.
وهذا الجدل هو ما يجعل الواقع البشري يتجلى بحراك مزدوج: حراك يفكك البنيات القديمة لتركيب أخرى جديدة تكون قادرة على إيجاد ضروب من التوازن تستجيب للمتطلبات الجديدة للجماعة.
هذه هي الفكرة الرئيسة التي ينطلق منها غولدمان لقراءة الظاهرة الإنسانية، ومن ضمنها الظاهرة الجمالية كما تتبدى في الفن الروائي خاصة. حيث يقول: «ضمن هذا المنظور، تقتضي درا