مرايا أخيرة
في نقدات عبد الجبار عباس الأدبية
محمود كريم الموسوي
في الثالث من كانون أول من العام الثاني للعقد الأخير من القرن العشرين ، هوى نجم من سماء العراق الأدبية ، فرحل فتى النقد الأدبي الحلي عبد الجبار عباس جسدا ، ليبقى روحا شامخة في كتابات تحصنت بالاندفاع المقتدر والجرأة الفاعلة ، والمحافظة على مستويات نقداتها الأدبية في تقادم الزمن ، وعدم زحزحتها إلى الانزواء أو النسيان 0
انه الناقد عبد الجبار عباس ، الفتى الشاب ، النابغة ، ذو الموهبة النقدية الرائعة ، الذي قال فيه شيخ النقاد المرحوم الدكتور علي جواد الطاهر : ( كان ذا موهبة نادرة ، رعاها كمن عرف قدرها ، وأحسها في نفسه ، واكتشفها في ذاته ، فانصرف إليها بالقراءة الواسعة العميقة ، وبالنظر والتأمل والمحاكمة والموازنة ، فهي وجوده ، وما عداها عداها )
وكما انصرف إلى هواياته الأدبية مبكرا ، ليعلن عن رؤى عصرية في الإبداع النقدي ، رحل مبكرا عن مسرح الحياة بنوبة قلبية في مستشفى مرجان في الحلة ، فاجأت أساتذته ، وأحبائه ، وفجعت الساحة الأدبية بفقده ناقدا أدبيا ( جريئا حرا في عدم قبول الآراء المتداولة التي يرددها الدارسون ) معه عندما كان يطرح موضوعا ، أو يتصدى لرأي من الآراء التي يراها لا تتناسب ، أو لا تنسجم مع رؤيته إلى الأدب والنقد الأدبي 0
وكانت الكلمة عند الراحل الناقد عبد الجبار عباس تحسسا لصدق ، وتجسيدا لصراحة ، ومنبرا لإبداع ، وكان النقد عنده مواجهة جريئة لوضع الحقيقة في إطارها الصحيح بلا تزويق أو رتوش ، فكان حلّي النشأة ، عراقي الانتماء ، عربي الانتشار 0
وإذا ما أردنا بيان معاناته التي كان يعيشها استندنا إلى ما وصف به نفسه حين قال : (ويطوي شوارع المدينة الفقيرة ، يشد مجلة أو كتابا ، يحاذر أن يلمحه العابرون ، فتحرجه كلمة إنكار ، أو بسمة سخرية 00 يغرق بين سطوره فينسى ضجيج الثرثرة والمذياع والدومينو في المقهى ، حتى اذا أقبل الليل ، ترقب هزيعه الأخير ليهدأ الزقاق ، وينام الأطفال ، فيقبع في زاوية من البيت ويقتبس ويلخص ، ويخط رأيا هنا أو ملاحظة هناك ) 0
ويصفه الباحث باسم عبد الحميد حمودي وهو في العقد الثالث من عمره فيقول : (كان صوتاً يتمتع بذائقة جمالية عالية، تحلل المنجز الإبداعي نثراً وشعراً دون اهتمام بمسلمات مسبقة) 0
ترك من الآثار المطبوعة : ( مجموعة شعرية بعنوان أشواك الوردة الزرقاء / 1970م، ومرايا على الطريق / 1970 ، والسياب / 1972 ، وفي النقد القصصي / 1980 ، ومرايا جديدة / 1981) ، ومجموعة من مقالات نشرها في جريدة الراصد بعنوان ( مرايا أخيرة ) أعدها بكتاب نقدي ولكن لم يوفق بنشرها عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد لموقف مديرها العام السلبي من الناقد في حينها 0
وإذ يقول الدكتور الراحل علي جواد الطاهر : ( رحل عنا فتى النقد الأدبي النابغة ، وعلينا أن نلمس عزاء بآثاره ونطبع ما لم يطبع ونعيد ما طبع ، ففي ذلك بعض من وفاء لأنفسنا)
جسد الشاعر هادي الربيعي وفاءه لصديقه الناقد الراحل فجمع مقالاته ( مرايا أخيرة ) من صحيفة الراصد لعدم حصوله على ما جمعه الناقد نفسه في حينها بين ما ترك من آثار غير مطبوعة لدى أسرته ، وأصدرها بالعنوان نفسه عن دار الشؤون الثقافية العامة التي رفضتها قبل أكثر من عقد ويبدو إن الشاعر الربيعي لم يقف على جميعها 0
تسعة عشر موضوعا للمدة من 17 / 1 / 1982م الى 6 / 7 / 1986م هي التي استطاع الشاعر الربيعي أن يجمعها بكتابه ( مرايا أخيرة ) وستبقى مرايا عبد الجبار عباس شاخصة لا تنثلم ، ولا يصيبها خدش ، مادام هنالك من يرى النقد الأدبي بمنظار الحقيقة والواقعية ، وليس بمنظار الزيف والتجريح ، كونه فن من فنون الإبداع 0
ومن قصائد مجموعته (أشواك الوردة الزرقاء ) التي رسمت لنا معاناته بريشة مرتعشة طغت فيها سوداوية اللون حتى وصل إلى استجداء اللاعودة :
ضباب . ضباب
ويعصر قلبي اكتئاب
خطى في الطريق
ويرتج باب
مياه. مياه بصدري تجول
وفكرت ماذا لو أني
هنا الآن
في لحظة مثل هذي أموت
نتمنى أن تلتفت الجهات الثقافية لطبع نتاجات الناقد المبدع دفعة واحدة بعنوان الأعمال الكاملة وفاء للأدب والأدباء ، والنقد والنقاد ، وتلبية لحاجة المكتبة الأدبية والنقدية العراقية والعربية