تأليف محمد محمد يونس علي
3،1 ، 1، 3- المفهوم
يقسم قرايس المفهوم إلى نوعين مفهوم وضعي conventional implicature ومفهوم تخاطبي conversational implicature
يقصد بالمفهوم التخاطبي conversational implicature كل ما يستنتج من قولة ما –علاوة على النسبة الخارجية التي تشير إليها- بالاعتماد على أصول التخاطب، وليس بالرجوع إلى المعاني الوضعية أو الاستنتاجات المنطقية. ويقوم المفهوم التخاطبي على افتراض مفاده أن إسهامات المتخاطبين مترابطة بعضها ببعض ومحكومة بما يعرف بأسس التعاون maxims of cooperation التي تقتضي أن كلا من المتكلم وسامعه يسعيان إلى بلوغ تخاطب ناجح، ولتحقيق ذلك يؤدي كل منهما مهمته وفقا لتلك الأسس. وقد صاغ الفيلسوف اللساني بول قرايس تلك الأسس على النحو الآتي:
1- مبدأ الكمّ maxim of quantity:
(أ) تكلّم على قدر الحاجة فقط (القدر الذي يضمن تحقيق الغرض من التخاطب).
(ب) لا تتجاوز بإفادتك القدر المطلوب.
2- مبدأ الكيف maxim of quality:
(أ) لا تقل ما تعتقد كذبه.
(ب) لا تقل ما يعوزك فيه دليل بيّن.
3- : مبدأ الأسلوب maxim of manner
(أ) تجنب إبهام التعبير.
(ب) تجنب اللبس
(ت) أوجز كلامك (تجنب الإطناب الزائد).
(ث) ليكن كلامك مرتبا.
4-مبدأ المناسبة maxim of relation:
ليكن كلامك مناسبا لسياق الحال (be relevant).[19]
وتبدو أهمية هذه الأسس في أن المتلقي يفترض أن المتكلم يتبعها، ولذا فإن استنتاجاته مبنية على هذا الافتراض. فإذا قال المتكلم القولة (34) فسيستنتج المخاطب –بناء على مبدأ الكم- أن ليلى لم تأكل كل الخبيز. وذلك لأنه لو كان المقصود هو أن ليلى أكلت كل الخبيز لصرح المتكلم بذلك لأنه ملزم –بحكم مبدأ الكم- أن يتكلم على قدر الحاجة التي تفي بالغرض من المحادثة.
(34) أكلت ليلى بعض الخبيز.
(35) لم تأكل ليلى كل الخبيز.
وهكذا فإن المفهوم التخاطبي (35) لم يفهم من المعاني الوضعية للجملة (34)؛ إذ ليس في هذه الجملة من المعاني المعجمية أو القواعدية أو التركيبية والأسلوبية ما يمكن أن يعزى إليه ذلك المفهوم، كما أنه ليس استنتاجا منطقيا من (34) لأنه ليس تضمنا أو افتراضا تشتمل عليه، بل هو استنتاج مستمد من مبادئ التعاون التي تحكم عملية التخاطب، وعلى وجه التحديد فهو قضية يستلزمها اتباع مبدأ الكم.
وكما نلحظ هنا فإن المفهوم الوضعي (وكذلك المعنى الوضعي) يختلف بوضوح عن المفهوم التخاطبي في كون الأول اعتباطيا ( أي أن العلاقة فيه بين اللفظ والمعنى ليست ذاتية ولا منطقية بل هي عشوائية لا تخضع إلا للمواضعات اللغوية التي تعارف عليها أهل اللغة)، في حين أن استنباط الثاني من القولة إنما يكون بالقيام بعمليات عقلية.[20]
وعلى الرغم مما سبق تبقى الحدود واضحة إلى حد كبير بين المفهوم التخاطبي والمعنى المنطقي، والمعنى الوضعي، وقد ذكر تشومسكي مثالا جمع فيه بين الافتراض والمفهوم التخاطبي والمعنى الوضعي، وهو القولة (36) حيث يفترض قائلها أن لديه خمسة أطفال، وتدل بمفهومها على أن ثلاثة من أطفاله ليسوا في المدرسة الابتدائية، وتدل بمعناها الوضعي على أن اثنين من أطفاله الخمسة في المرحلة الابتدائية:
(36) اثنان من أطفالي الخمسة في المدرسة الابتدائية.[21]
،1 ، 1، 3، 2، 1- المفهوم التخاطبي العام والمفهوم التخاطبي الخاص
إن الفرق الأساسي بين المفهوم التخاطبي العام generalized conversational implicature والمفهوم التخاطبي الخاص particularized conversational implicature أن الأول يستنبط بمعزل عن السياق في حين لا يستنبط الثاني إلا بالاستعانة بالسياق. وخلافا للمفهوم التخاطبي الخاص الذي تُعدُّ كل أمثلة المفهوم التخاطبي المذكورة سابقا أمثلة له، فإنه من الصعب -كما يذكر قرايس- العثور على أمثلة ليست محل نزاع للمفهوم التخاطبي العام، وذلك لالتباسه بالمفهوم الوضعي. ومن الأمثلة القليلة التي ذكرها قرايس للمفهوم التخاطبي العام ما جاء في (37)؛ إذ كل من يستخدم هذه الجملة يفهم منه عادة أن المرأة التي قوبلت إنما هي امرأة أخرى أجنبية عنه، أي أنها ليست زوجته، ولا أمه، ولا أخته إلخ. وكذا فإن من يستمع إلى (38) يتبادر إلى ذهنه أن المنزل ليس منزله. وينبغي ألا نقفز هنا إلى استنتاج أن الأمر يرتبط بقواعد وضعية كأن يقال إن التفريق بين التنكير والتعريف على أساس أن الأول يفيد العموم والثاني يفيد الخصوص قد يكون حاسما في تحديد المراد، وذلك لأن ثمة أمثلة أخرى عكسية، كما في مثال قرايس المذكور في القولة (39) التي تدل عادة على أن الإصبع التي كسرها إنما هي إصبعه، وربما كان من الأوضح لو وضعنا كلمة ‘سنا’ بدلا من ‘إصبعا’.
(37) سعيد يقابل امرأة هذا المساء.
(38) سالم دخل منـزلا فوجد سلحفاة في الباب الأمامي.
(39) كسرت إصبعا أمس.[22]
وختاما للحديث عن التفريق بين المنطوق والمفهوم بأنواعه المختلفة يجدر بنا أن نشير إلى أن هذا التفريق محل نظر بين اللسانيين وفلاسفة اللغة، ولم يحظ بالتسليم المطلق وإن وجد قبولا لدى معظم المهتمين بهذا المجال. ومن أشهر المعارضين لهذا التفريق سبيربر Sperber وويلسون Wilson اللذان صرحا بأن تفريق قرايس بين ما ينطق what is said وما يفهم what is implicated تفريق غير سليم.[23] ومن الانتقادات التي وجهها سبيربر وويلسون لهذا التفريق حكمها على كل جوانب المعنى التي تخرج عن تحديد المراجع reference assignment (التي تحيل عليها ألفاظ الإشارة والضمائر والظروف المكانية والزمانية ونحوها من التعبيرات الإشارية) وعن الترجيح السياقي contextual disambiguation بأنها من قبيل المفهوم، وذهبا إلى القول بأن بعض مما عده قرايس من المفهوم هو في الواقع من قبيل المعنى غير الصريح، وأطلقا عليه مصطلح ‘المنطوق غير الصريح’ explicature الذي قصراه على ما كان ناشئا عن صيغة منطقية ضمن تركيبة القولة.[24] ويريان أنه بدلا من التفريق بين المنطوق الصريح والمفهوم الضمني –كما فعل قرايس- فالأولى أن يميز –بين القضية التي يجمع فيها المتكلم بين التعبير الصريح والتعبير غير الصريح، والاستنباطات المختلفة المستنتجة منها.[25] وقد آل هذا عند أتباع نظرية المناسبة إلى التفريق بين ما عرف بـ المنطوق غير الصريح explicature والمفهوم implicature.[26]
والظاهر أن هذا التفريق أقرب إلى طريقة ابن الحاجب الذي ضيق معنى المفهوم وأخرج المنطوق غير الصريح منه على نحو يتسم بالدقة والوضوح ويتميز فيه المفهوم من غيره من المعاني كما سنوضح في المبحث الآتي.