منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة
تسجيلك في هذا المنتدى يأخذ منك لحظات ولكنه يعطيك امتيازات خاصة كالنسخ والتحميل والتعليق
وإضافة موضوع جديد والتخاطب مع الأعضاء ومناقشتهم
فإن لم تكن مسجلا من قبل فيرجى التسجيل، وإن كنت قد سجّلت فتفضّل
بإدخال اسم العضوية

يمكنك الدخول باستخدام حسابك في الفيس بوك



ستحتاج إلى تفعيل حسابك من بريدك الإلكتروني بعد تسجيلك هنا
التسجيل بالأسماء الحقيقية ثنائية أو ثلاثية وباللغة العربيّة فقط
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة
تسجيلك في هذا المنتدى يأخذ منك لحظات ولكنه يعطيك امتيازات خاصة كالنسخ والتحميل والتعليق
وإضافة موضوع جديد والتخاطب مع الأعضاء ومناقشتهم
فإن لم تكن مسجلا من قبل فيرجى التسجيل، وإن كنت قد سجّلت فتفضّل
بإدخال اسم العضوية

يمكنك الدخول باستخدام حسابك في الفيس بوك



ستحتاج إلى تفعيل حسابك من بريدك الإلكتروني بعد تسجيلك هنا
التسجيل بالأسماء الحقيقية ثنائية أو ثلاثية وباللغة العربيّة فقط
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين

تهتم بـ الفلسفة والثقافة والإبداع والفكر والنقد واللغة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
تعلن إدارة المنتديات عن تعيين الأستاذ بلال موقاي نائباً للمدير .... نبارك له هذه الترقية ونرجو من الله أن يوفقه ويعينه على أعبائه الجديدة وهو أهل لها إن شاء الله تعالى
للاطلاع على فهرس الموقع اضغط على منتديات تخاطب ثم انزل أسفله
» هات يدك القراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-12-13, 15:27 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» بين «بياجيه» و «تشومسكي» مقـاربة حـول كيفيـة اكتسـاب اللغـةالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-12-03, 20:02 من طرف سدار محمد عابد» نشيد الفجرالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-30, 14:48 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» الرذ والديناصورالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-02, 18:04 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سلاما على غزةالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-01, 18:42 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سلاما على غزةالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-01, 18:40 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» شهد الخلودالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-01, 18:35 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تهجيرالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-01, 18:23 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تقرير من غزة القراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-01, 18:18 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» القدس لناالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-01, 17:51 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» يوم في غزة القراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-01, 17:45 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» شعب عجبالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-11-01, 17:41 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سمكة تحت التخديرالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-10-07, 15:34 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تجربة حبالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-09-16, 23:25 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» زلزال و اعصارالقراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2023-09-14, 05:44 من طرف عبدالحكيم ال سنبل

شاطر
 

 القراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
يوسف تغزاوي
عضو نشيط


القيمة الأصلية

البلد :
المغرب

عدد المساهمات :
24

نقاط :
72

تاريخ التسجيل :
02/12/2011


القراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً Empty
مُساهمةموضوع: القراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً   القراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً I_icon_minitime2014-03-11, 21:44

تـمــهــيـد :
لقد ظل الشعر العربي ولا يزال ديوان العرب المسجل لأيامهم والمعبر عن أحاسيسهم، والمصور لأمالهم وطموحاتهم، فلا غر وبعد هذا أن نلقاه يتبوأ المنزلة العليا في النفوس، وما اختيارهم في الجاهلية قصائد طوال جياء، واتخاذها معلقات شكلت محط أنظار القدامى وموطن اهتمامهم، ينكبون عليها يشرحونها ويدرسونها، لدليل على ذلك التبجيل والتقدير. وما من شك في أن الشعر الحديث أو المعاصر هو رافد من هذا النهر العظيم – الشعر العربي- له مكانته ورواده أو فحوله، ومواضيعه كما للشعر القديم، ما خلا أمراً يبدو رئيساً يمكن في بنية القصيدة الحديثة بمعنى أن الشعر الحديث لا يخالف القديم أو العمودي في خروجه عن نظام الشطرين، أو بتخليه عن إلزامية القافية، أو بتحديه لقانون الإيقاع، وحسب، وإنما يظهر التباين جلياً في ما توسلت به اللغة الشعرية من إشارات غير لغوية بالأساس، مما يوضح أن الشاعر لم يعد ذلك الفحل الذي يمتلك رصيداً لغوياً هاماً، أو الذي يحترم ما جرت به العادة الشعرية، بل أصبح مبدعاً يضفي على القصيدة جزءا من كيانه، وكأنه مصور أو رسام أداته الخط والبياض والهوامش والعناوين وغيرها.
فهاجس الغوص في هذه الأدوات واكتناه مدلولاتها الخفية وتجلياتها المختلفة داخل التجربة الحديثة، هو ما حدا بنا إلى تبني محاولة فرز نسبي لقراءة بصرية لقصيدة الحديثة.
I – أهم التغيرات الهيكلية في القصيدة العربية :
1- تصور العرب للكتابة :
إن الحديث عن تصور العرب للكتابة، يشوبه الكثير من الإشارة إلى ميادين اهتماماتهم الإبداعية. فلقد بحث البلاغيون القدامى في القيم التعبيرية للحروف وقسموها إلى مهموسة ومجهورة هادفين تحقيق المتعة الموسيقية للأذن، لذا اشترطوا أن تكون الكلمة فصيحة خالية من تنافر الحروف، فلم يدعوا نواة من نويات القول إلا وساءلوها، كما حاولوا قراء حركات النص، فسعوا إل أن يجدوا لها تبريراً منطقياً، يقول القلقشندي في صبح الأعشى : «.. أما السكون فلأنه الأصل وأما الحركات الثلاث فقد قيل إنها مشاكلة للحركات الطبيعية، فالرفع مشاكل لحركة الفلك لارتفاعها، والجر مشاكل لحركة الأرض والماء لانخفاضهما، والنصب مشاكل لحركة النار والهواء لتوسطها، ومن ثم لم يكن في اللغة العربية أكثر من ثلاثة أحرف بعدها ساكن، إلا ما كان معدولا..» كما يربط القلقشندي بين اتجاه الكتابة العربية من اليمين إلى اليسار، وبين سير الأفلاك من اليمين إلى اليسار، أي من المشرق إلى المغرب.
أما إخوان الصفافيرون في الحروف تمثيلاً عدديا وهيئياً للعالم، وهم يميزون فيها بين الحرف السامي والوضيع، وبين العلوي والسفلي، شأنهم في ذلك شأن المتصوفة وعلى رأسهم ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية .
ومن ناحية أخرى نجد العرب وقد شغفوا بالهيئة التمثيلية لتجسيد اللغة على الجلود وأعساف النخيل في البداية، ثم على الورق وجدران العمران من بعد، في شكل آيات تلخص المضمون الأخلاقي والعقائدي للدعوة الإسلامية ومن ثم كان الخط الكوفي، وهو أصل الخط العربي، ويدعى كذلك خط الجزم وهو في أصله يعود إلى ثوابت الخط الحميري، كما يتخذ تسميته انطلاقاً من نشأته بالكوفة ، ويضم أشكالاً هندسية كالمثلث والمسدس والمثمن والمستدير، كما يشمل رسوماً تحاكي في طبيعتها صوراً للطبيعة ويعرف تداخلاً بين حروف الكلمة المتباعدة. أما الخط النسخي فجاء تالياً على نظيره الكوفي، ويستعمل في كتابة النصوص القرآنية والدواوين، بعده ظهر بإيران في القرن 13 خط التعليق وهو خط مدور . وفي جو من الاحتفال بالزخرفة والنقش، ظهر خطاطون بارعون كابن مقلة (886-960) وابن البواب (ت.1022م) وياقوت المستعصمي (ج13) جعلوا من أناملهم رواة للحضارة العربية عبر صيغ وأشكال فنية، تسربلت بكل إتقان وافتنان.
بقيت الإشارة إلى أن قواعد تحسين الخط، وضبط قوانين الإملاء، والإمساك بمقتضيات الكتابة، كانت الحافز الأول وراء اهتمام العرب بموضوع الكتاب، يرى محمد الماكري أن معالجة هذا الموضوع في التراث لم تتجاوز في موضوعها حدود قواعد تحسين الكتابة، أو معالجة الأدلة الخطية من منظورات صوفية .
بعد هذا العرض الوجيز – عبر ما تيسر من قليل الإشارة وضئيل التلميح – لأهم التصورات العربية في مجال الكتابة، نلقي بعض الضوء على الخصوصية الشكلية من حيث المظهر الفيزيقي للقصيدة العربية القديمة، ومن وجبت الإشارة إلى الحيز المكاني الذي شغلته القصيد العربية وظلت تحافظ عليه.
من البديهي أن الشعر ارتبط لفترات طويلة بالإنشاد، الأمر الذي جعل منه أداء لغوياً أداته الإيقاع والموسيقى، بسبب ما يحتويه من غنائية يطبعها الانسجام والتوافق، يقول إبراهيم أنيس : «لما في الشعر من انسجام المقاطع وتواليها، بحيث تخضع لنظام خاص في هذا التوالي، ومتى دربت الآذان على هذا النظام الخاص ألفته وتوقعته في أثناء سماعها» . ومع انتشار الكتابة اتخذ الشعر صورة تنتظم فيها الأبيات بشكل عمودي خاصيته التوازي، أما الأشطر فتتقابل في شكل أفقي تفصل بينها جداول من الفراغ / المساحة أو الحيز الذي يحتله البناء القالبي للقصيدة وهو في القصيدة الكلاسيكية، ينجم عن الأشطر المتساوية، يوزعها البحر على محورين هما (الصدر والعجز)، وفي القصيدة التي من هذا البناء يبدو نهر من الفراغ أو البياض بين المحورين، وكان ذلك الفراغ في القصيدة الكلاسيكية العلامة الفارقة بين الشعر والنثر .
في هذا السياق يصبح من واجبنا إثارة أكثر من تساؤل يخص حوافز هذا الاختيار الجمالي، وكذا خلفياته الدلالية، فهل ما يحكم القصيدة هو ذلك الملمح العرضي أو الصدفوي؟ وهل يمكننا التحدث بوثوق عن سبب خفي شكل المحفز الأول للشاعر في اختيار شكله الأول؟ نعمد إلى التأكيد في بادئ الأمر على أن البحث في الأسباب الكامنة وراء هذا الاصطفاء أو الانتقاء الجمالي لم يعرف طرقه إلى المؤلفات العربية التي غنت بديوان العرب - الشعر - إلا نادراً جداً، في وقت كان البحث في اللغة وفي الأشكال التعبيرية يستحوذ على القسط الوافر منها. نجد جواب وإن كان يبدو في مجمله لا يمس مساميعها صلب الإشكالية، «نرجح إذن النسخ بهذه الكيفية، تم في فترة متأخرة زمنياً على إنتاج أغلب النصوص النموذجية، وهكذا يصبح الاشتغال الفضائي من اجتهاد الناسخين والكتبة، وتبعاً لذلك فهو خلو من أية قصدية أو أي بعد دلالي خاص» .
أما بنيس فقد اكتفى بالوقوف عند محاولة تقديكم وصف لعمل الشعراء يقول : «كانوا يعرفون مسبقاً حدود المكان عند كتابة النص، فيمارسون لعبة الكتابة داخل إطار مقفل» ، ثم نرى هذا التبني يعزى إلى ذلك التوافق المنشود بين الأذن والعين،م فالفضاء في النص في تنظيم عناصره عبر تواز وترتيب مشاكل فني، يشد الناظر إلى النص، ويجعله يوافق بين لذة العين ولذة الأذن .
وحول هذا التوازي الهندسي يقول حازم القرطاجني : «... وكلما وردت أنواع الشيء وضروبه مرتبة على نظام متشاكل، وتأليف متناسب، كان ذلك أدعى لتعجب النفس وإيلاعها بالاستماع من الشيء، ووقع فيها الموقع الذي ترتاح له» ، مهما يكن من أمر فإن النقد العربي تعامل مع القصيدة تعاملاً تشييئياً، فشبهها مرة بالخباء، وأخرى بدورة الشمس النهارية، أو الباب، يقول حازم القرطاجني : «قصدوا أن يحاكوا البيوت التي كانت أكنان العرب ومساكنها، وهي بيوت الشعر» ، في حين يتلفت ابن رشيق القيرواني في كتابه «العمدة» إلى أمر آخر يقول : «واشتقاق التصريع من مصراعي الباب، ولذلك فيل لنصف البيت مصراع، كأنه باب القصيدة ومدخلها، وقيل بل هو من الصرعين، وهما طرفا النهار، قال أبو إسحاق الزجاج : الأول من طلوع الشمس إلى استواء النهار، والآخر من ميل الشمس عند كبد السماء إلى وقت غروبها...» .
هكذا أصبحت القصيدة في انتقالها من العهد الشفوي إلى الكتابي تلبس ردائين : الأول رداء الصوت والثاني رداء الحرف (رمز الصوت)، ينتجان أمام الناظر صورة مرسومة على هيئة معينة، ما لبثت أن تطورت أمام ظهور أنماط هندسية جديدة لمثول القصيدة على الورقة بتأطير تام من عنصر الإيقاع، ومنها الأراجيز والبيت المنهوك والمشطور، والبند، ثم الموشح في العصر الأندلسي، ففي هذا الأخير لا نجد البيت ينطلق دوماً من أول الصفحة، كما لم يعد محترماً العمود الفاصل بين الصدور والأعجاز، وهي تغييرات إيقاعية أولا ثم فضائية ثانياً تتوخى إحداث نوع من الطرب لدى السامع والمتلقي.
ولعل أوضح نموذج لاستقلال الفضاء عند الشعراء الأقدمين هو ما يرد تحت اسم «التختيم» والذي ينهض على أساس «استغلال وتطويع الأشطر والأبيات، لتتشابك على بياض الصفحة من أجل تكوين شكل بصري متناسق هو في هذه الحالة شكل الخاتم» .
نخلص إلى القول بأن الشاعر القديم كان يرى إليه كقناة شفوية لعرض المنتوج الشعري يقول الجاحظ : «وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضياً موافقاً، كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة» ، وإن كانت مختلف المصادر تضن بتقديم كل خبر عن الطرق المتبعة في الإنشاد أو الإلقاء مما يسهم في ثراء القصيدة الشفوية، وبالتالي تصير روايتها هي عملية بعث وخلق جديدين.
2- تعلـق الرسـم بالقصيدة :
يرتبط الرسم بالشعر، ارتباطاً أو تعالقاً يجسد حقيقة جوهرية، مفادها أن الفنانين والشعراء كانوا يتبادلون «الآراء ومحاولات البحث عن الصيغ الفنية الجديدة الشعرية والتشكيلية، واشترك الفنانون مع الشعراء في تأسيس المدارس الفنية الكبيرة، ودافعوا عن أهدافها، حتى إننا نجد شعراً تكعيبياً وشعراً ميتافيزيقياً وتعبيرياً ودادائياً وتجريدياً...» .
والمتصفح لدواوين الشعر الحديث يجد قسطاً من القصائد، وقد ازدادت بالرسوم والأشكال الهندسية، وعلى هذا فإن رهطاً كبيراً من الشعراء وكأنهم خشوا ألا يكونوا قد أدوا المهمة على حسن وجه، فراحوا يخلون السبيل أمام اللوحة لتنخرط في سلالة القصيدة وتشكل بعضاً من شيعتها، بهدف تأسيس فص ناجح يقوم على الجدل المتوازن بين التلميح والتصريع. هذا ويحدثنا عبد الغفار المكاوي عن قصة هذا التفاعل المثير، وهو يجهد في القبض على الجذور الأولية لهذه الظاهرة، يقول : «قصة هذا التأثير المتبادل بين الفنون – خصوصاً فن الشعر وفن الرسم – قصة طويلة يقدر عمرها بثلاثة آلاف سنة في تاريخ الأدب والفن في الغرب والشرق» .
وواضح ما في هذه الكلمة من معنى يثير إلى تلاحم الفنين منذ أقدم العصور، وينبؤنا المكاوي في جانب آخر بأقدم نص في تاريخ الأدب والنقد الغربيين، يبرز ما بين الشعر والفنون التشكيلية من تواصل، حيث يقول «سيمونيدس الكيوسي» (وهو يوناني الأصل عاش حوالي 468 إلى غاية 556 قبل الميلاد) : «إن الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق، وأن الرسم أو التصوير شعر صامت» .
ويظل ضرورياً التأكيد على أن جل الدارسين يرجعون أصل الارتباط ومنبعه إلى المواصفات الجمالية للكتابة الشعرية الحديثة بالغرب، والتي تقصدت الاستسعاف بالرسم إعطاء خلقة متراكبة للنص الشعري من الجائز اعتبارها كتابة ثانية لهذا النص ، ولا أن الغرب جسد المغذي الأول لحل الأشكال التعبيرية العربية الحديثة، حيث أنه كلما أنجبت التحولات الفكرية والثقافية وغيرها – به – حركات أدبية وفنية بعد مخاض إلا وتلقفتها الذهنية العربية التابعة، دونما تبصر ومراعاة للخصوصية الشرقية المختلفة كل الاختلاف عن نظيرتها الغربية، يقول بنعيسى بوحمالة مشيراً إلى تلك التبعية : «نزع الشعراء العرب المعاصرون إلى اصطناع نفس الجمالية، فوجدنا قصائدهم مصحوبة، غالباً برسومات وتشكيلات تتراوح في مرجعيتها المدرسية بين الفطري والكلاسيكي والانطباعي والتجريدي...» .
وأمام غياب أو انعدام التأريخ لهذا الصنف من الكتابة / الرسم من جهة، وضياع قسط وافر وغير مستهان به من التراث العربي من جهة أخرى، تبقى عملية الحسم في أصل التجاور هذا في صلب التجربة العربية مجازفة غير مأمونة العواقب، إلا أن رسم المعاني والأخيلة بالكلمات، كان الهاجس الأكبر للشعراء الأقدمين أمثال أبي نواس والبحتري، وأبي تمام وبشار بن برد وغيرهم، فالوصف عند هؤلاء كان لوناً من أـلوان التصوير، وفنا من فنون تجسيد المشاعر والأحاسيس والأفكار في لوحات معبرة، ومن يستشير مؤلف «الصورة الفنية» لمؤلفه «جابر عصفور» يلقى السند المتين والدعم القوي للتوسع في ما نثيره.
ويكفي القول إن من أوائل أشكال التجاور بين هذين الفنين، تلك التي ظهرت منذ عهد قديم، غير أنها لم تتضح بصفة محددة إلا مع الشاعر العربي الأصيل (أحمد زكي أبو شادي) مؤسس مجلة أبولو ورائد جماعتها، وقد نشرت المجلة بين الفترة الممتدة ما بين شتنبر 1932 وأكتوبر 1934م قصائد موشحة بمختلف الرسوم، في باب خاص سماه الشاعر «شعر التصوير».
لقد انتقلت الرسوم من موضعها الطبيعي كاللوحة والأبنية وغيرها من مجمعات الرسوم وقاعات العرض وجدران المنازل والمرافق المختلفة، فاقتحمت مجالاً غريباً يتعلق الحال بفن من فنون القول (الشعر). هذا الاختلاف يرجع حسب النظرة الأولى إلى طبيعة ثقافة الشعر الحديث، فقد أصبح بفضل ما راكمه عصره من منجزات علمية وتقنية وفنية، يدرك أيما إدراك أنه بات بحاجة إلى الاستفادة من كل ما يراه ملائماً لتحقيق هدفه في إنتاج الأبيات وإعطاء الدفقة الشعورية حجمها اللائق. وإذا كان الفنان «يبحث عن عالم جديد، فلا يجد معبراً عنه إلا اللون، وهكذا يعكس الأحاسيس متداخلة مع الألوان» ، فإن الشاعر يحدو حدوه في التكثيف من حضور الألوان المعبرة بشكل تسعفه في صوره الدالة وشحنها يشتى الإيحاءات. يقول الشاعر «نزيه أبو عفش» في قصيدته «واسمحي لي إذن بقليل» :
«إنه الــدم
يهبــط
يهبــط
يهبــط
يغتسل الحجر المتوحش بالدم
بالــدم
بالــدم
بالــدم
يا للبلاد الجميلة كم هي فاسدة وتعذب
كم يتشابه في أرضها الماء والدم
تمتد حمراء شاسعة» .
ففي قصيدة «حماقة» نزار قباني رسم هلال وزهرة معلقين في الفضاء دون لون، وهما يحتلان الجزء العلوي من الصفحة بنفس الحيز تقريباً الذي احتلته الأبيات، أما العنوان فيختزل أوسع دلالة فحوى الخطاب، حيث تغيب كلا علاقة منطقية بين كائن أرضي (زهرة) وآخر سماوي (هلال)، والاختيار لم يكن اعتباطياً، إذا ما علمنا بأن نزار يصدر عن نفس ممزق وواقع مشرد، يطبعه البعد عن الوطن الذي يوفر الأمن وجل أسباب الاستقرار، وقد سلب حقه الطبيعي أو لنقل النقل البشري في العودة إليه، كذا لكم الزهرة وهي تعاني الحرمان من جميع السبل، التي من شأنها تمكينها من العثور على بغيتها المنشودة، والمتمثلة في الاتصال بموطنها – الأرض – والالتحام به، يقول نزار قباني :
«حماقـة
وما كنت أعلـم..
حين سطبتك من دفتر الذكريات..
بأني سأشطب نصف حياتي..».
أما رقيق شرف في قصيدته «رثاء عربي في عرس فتح» فقد وضع تحت عنوان «نصوص ورسوم» رسماً يوحي بمآذن متكسرة، وأحصنة منهارة في جو يحيل على الرثاء، ومما يدل على ذلك، اللون الأسود الذي انتشر على مساحة الرسم بشكل مكثف، وأحكم قبضته على مجموع أرضية اللوحة. الأمر الذي يفيد أن الشاعر – الرسام خط إحساساته رسما وترجمها شعراً، وفيها يظهر أنه يتحدث عن حركة «فتح» والتي كانت إفرازاً طبيعياً واختياراً ثورياً تبلور على إثر هزيمة 1967، وهو من هذا الحديث يعبر إلى وصف تجليات النكسة وتمظهراتها المختلفة، إن على المستوى الجمعي للأكمة أم على المستوى الفردي للمواطن الفلسطيني. فـ«فتح» باتت البيت الذي يأوي كل رافض للاستيطان، ويحتضن كل ثائر في وجه الذل والهوان، فهي الجسد وهي الروح، يقول «غاستون باشلار» : «بدون البيت يصبح الإنسان كائنا مفتتاً، إنه البيت يحفظه عبر عواصف السماء وأهوال الأرض، البيت جسد وروح» ، لم يقف الشاعر / الرسام عند حد تقديم اللوحة عن القصيدة، وجعلها بمثابة المطلع أو الافتتاحية المساعدة على مباشرة النص، واقتحام تخومه في عملية قلب الأدوار فجعل من القصيدة بوابة لزم عبورها للوصول إلى الرسم، ولنا في هذا السياق أمثلة عدة منها على سبيل المثال قصيدة «الموت في الحب» للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي والتي انتشرت في سبع صفحات من مساحة المجموعة، في وقت اكتفى الرسام آدم حنين بصفح واحدة لعمله أقفل النص ككل أو لنقل اكتفى بوضعها في رتبة الخاتمة. فالرسام جمع في لوحته بين ثلاثة عناصر : امرأة يدها اليمنى مبتورة واليسرى منغرسة في البطن، ثم نخلة مكتملة عالية، وكذلك الشكل الدائري الذي يحتل جزءاً هاماً من المساحة، وفي علوه يوازي علو كل من المرأة والنخلة، واللوحة هنا عرفت هيمنة واسعة للون الأسود مع حضور طفيف للون الأبيض في شكل المرأة، وهي بهذا تشير إلى الدور الاجتماعي الذي تلعبه المرأة في حياة الإنسان، كما تنبه القارئ إلى ذلك، أثناء مروره بأبيات النص. في هذا الإطار يجسد الرسم لغة ثانية توازي اللغة الشعرية وتطعمها بامتيازات تخييلية طالما حدت منها القوانين، التي تفرضها شعرية النص القائمة على تداخل المكونات المتعلقة بالتركيب والدلالة والمعجم، في حين تتأسس شعرية اللوحة على التفاعل المنشود بين اللون والمساحة والشكل والضوء، ذلك «إننا في الرسم نمر تصاعدياً، وعلى درجات، من التجسيم إلى التجريد» ، أما الشاعر «أحمد مطر» وبحكم انشغاله بما يطبع الحياة العربية من طوابع البؤس والحرمان والتسلط والقمع، يغذيها غياب الحريات الأساسية في هذا الوطن، الذي لا تنتج حكوماته غير التنكيل بكل علا صوته طلباً للحق، تحت مباركة هائلة من شعاراتها الزائفة، التي تغطيها أقنعة عدة، منها المعتقد والقانون والنظام وأخرى غيرها، يقول في قصيدة «التهمة» من ديوان «لافتات» :
«كنت أسير مفرداً
أحمل أفكاري معي
ومنطقي ومسمعي
فازدحمــت
من حوالي الوجوه
قال لهم زعيمهم : خذوه
سألتهم :
ما تهمتي
فقيل لي : تجمع مشبوه».
وهو في قصيدته «لن أنافق» من ديوانه المشار إليه (لافتات) يختم الأبيات برسم لإنسان كبلت رجلاه في إطار مسيج (في الأعلى) لون بالأسود، وفي الأسفل رأس مفرولة عن جسدها (الغائب) وقد لون هذا الجزء بالأبيض دونما إطار. واللوحة هنا تنخرط تتميماً لدلالة القصيدة، فالخط الذي تبناه الشاعر بتجنبه النفاق ومعانقته الصراحة، يجلب عليه ويلات تهدد شخصيته في صميم مصيرها، فقد يعتقل وقد يشنق كما هو موضح في الرسم. هذا وقد استغلت إمكانات أخرى، تثري علاقة التساكن والتجاور هاته، وتعمل على إغنائها وحسبنا أن نذكر تجربتين متميزتين أوردهما «شربل داغر» في كتابه «الشعرية العربية تحليل نصي» لعبد القادر أرناؤوط بالاشتراك مع نذير تبعه حيث أنتجا نصاً لغوياً جنب آخر تشكيلي، يقفان متجاورين، فالمرأة وهي تعكس وجه الفتاة التي تنظر إليها، قد احتلت ركناً تقابل فيه مقابلة تامة مجموع النص الذي وجه إليها كل طاقاته الدلالية، كأنه يحدثها. أما النص الثاني فهو تحت عنوان "الموت طفل أعمى" على عكس الأول الذي تخليا فيه عن العنونة، والرسم هنا يقدم أشجار تخيل وأشكالاً هندسية (مربعة وسوداء) وكذا أطفال لا يلعبون، ... تمتد إلى الوردة، ونصفا علوياً من طفل في صورة مكبرة يحيط بالنص من فوقه ومن جنبه. ويمكن القول والحالة هذه، إن اللوحة ترجع إلى شرح النص والتعليق عيه، فلا يترك لمخيلة القارئ مجالاً للتلذذ بأي شيء غامض أو طارئ، مما يمكنه من أن يحد من متعة الترقب، ويكبح جماح الخيال. ولا شك أن القارئ غير اليقظ سيحس بكثير من الملل والضجر، وخوفاً من الإصابة بعلة التسطيح والتبسيط، جاء العمل أوفر رمزاً وأعمق إيحاء، والعلة في ذلك لا تقود إلى تداخل الفنين وإحكام بنائهما وحسب، بل إلى التصور الذي يمتلكه الشاعر / الرسام حول الحدود الفنية بين الإبداعين، عبر تغييب ما زاد من الشروح والتعليلات الإضافي.
3- التنويعـات الخطيـة في القصيـدة الحديثـة :
لقد ظل البحث في مجال الشعر سارياً إيجاد صوت متميز، يمتلك الدلالة المؤشر ويرجع إلى الأصالة مقترناً بالاستفادة المتواصلة غير البيضاوية مع الآداب الأجنبية الحية، مما وفر إمكانات ضخمة للغوص وبكل عمق في صميم التجارب الإنسانية. كما اتضح بما لا يدع مجالاً للشك عبر ظروف النضج والاختصار التي مر بهما الشعر الحديث، وعبر ما بسطه من نتاج، أن الشاعر بات في مقدوره استقطاب كل التجارب الفنية الحديثة منها والقديمة، والاستعانة بأشكالها المختلفة، في أفق انبثاق شعر عربي معاصر، يحمل الهوية العربية ويبرز انتماءه إلى ثقافة عربية معاصرة. هكذا ظل المبدع يبحث وينقب في التراث العربي عن النماذج الفنية والجمالية التي تمكنه من الإمساك بيغيته وتسنده حتى تحقيق هدفه. فالتنويعات الخطية ذات المصدر العربي وغير العربي، منحت التجارب الشعرية خصوصية، كما عمقت أنماط التعبير بالعديد من الصيغ، بدأنا نراها تنتشر خصوصاً في المغرب مع «عبد الله راجع» في ديوانه «سلاما وليشربوا البحار»، و«أحمد بلبداوي» «حينما أكتب القصيدة بخط يدي، فإني لا أنقل إلى القارئ معاناتي فحسب، بل أنقل إليه نبضي مباشرة، وأدعو عينه للاحتفال بحركة جسدي على الورق، ويصبح للمواد الذي يرتعش على البياض، كما لو كان ينبع من أصابعي مباشرة لا من القلم، ويفدو للنص إيقاع آخر يدرك بالعين مضافاً إلى إيقاع الكلمات المدرك بالأذن...» .
ومحمد بنيس في ديوانه «في اتجاه صوتك العمودي» وأيضاً الشاعر منصف المزغني بتونس وديوانه «قوس الرياح» وعادل فاخوري بلبنان والذي «يرى أن نضع الشعر هو إثارة الأحاسيس والصور بأية أداة جمالية، حتى لو جاءت هذه الأداة الجمالية – القصيدة – أشبه بنكتة مثيرة للضحك، فالضحك هو أيضاً من باب الأحاسيس الإنسانية» ، وغيرهم ممن أدركوا دور المعطيات البصرية، والإمكانات الخطية في بناء هيكل القصيدة فدافعوا بالحرف إلى أن يغادر موقعه الطبيعي ومحله الشرعي، كأداة لفظية لتركيب كلمات ذات مدلول خاص أو حدس معين، ليلج عالماً مغايراً تقنته نظم لا واقعية من مجال التعبير الشكلي، خدمة لهدف أسمى يتمثل في فرز أشكال تعبير موروثة ما تزال فاعلة في الوقت ذاته في صياغة التقاليد الثقافية، وحضورها المثمر في إنتاج وظيفة شعر متميزة. ومعنى القول بالاستفادة من الأشكال التعبيرية الغربية، ذلك التأثير الذي خلفته حركات أدبية كحركة (الدادائية) و(السريالية)، حيث الهدم أساس البناء، والثورة على أساليب القول المعروفة شعار لبلورة نمط جديد من الكتابة، تكتفي فيه الكلمة أو اللغة الأداة بدور ثانوي، وتخلي السبيل أمام معطيات أخرى كي تجرب حظها في دورة التبليغ، فتصبح لكل قراءة متاعها ومتعتها وغايتها .
ولنا في تجربة أبولينير (G. Appolinaire) في ديوانه «الخطيات» (Calligramme) خير مثال، إذ فيه ينضد الكلمات في قوالب تبدو أكثر ملاءمة وتصويراً عما يتحدث عنه أي أنه يرسم بألفاظ منتقاة المعنى الذي يتوخاه، كقصيدة "مطر" (il pleut) وفيها تتخذ السطور الشعرية شكل الانحدار من أعلى إل أسفل، وهي بهذا تجسد حركة الأمطار في هطولها باتجاهها المعروف من السماء إلى الأرض، يقول أبولينير : «أما عن الخطيات فهي أمثلة للشعر الحر، وتدقيق طباعي في المرحلة التي أنهت فيها الطباعة مأموريتها بنجاح، مع فجر الوسائل الجديدة لإعادة الإنتاج، والتي هي السينما والفوتوغراف...» ، هذا ونصادف إضافة لدى «طراد الكبيسي» من شأنها أن تبرز بجلاء التوجه الذي رسمه أبولينير، وسار على نهجه شعراء من بعده، يقول : «كان يطمح في أن يتحرر من النطاق اللغوي للشعر، فوجد في الرسم وسيلة تعبيرية تقنية في عملية الشعر، فراح ينضد حروف الكثير من قصائده ويرسمها على هيئة أشكال موحية» .
ومفهوم عندئذ كيف أضحت الأبيات تكتب بطريقة غير مستقيمية، تتراوح بين أنماط دائرية وأخرى سلمية أو متعرجة أو متموجة، وكأن الورقة أصبحت مجالاً جغرافياً، تلتقي فيه كل الأشكال التضاريسية من التواءات، ونتوءات وانحدارات وارتفاعات وغيرها، فالشاعر لم يعد يكفيه استغلال مقتضيات التعبير لخلق صوره وتصوراته، وإنما أصبح يسعى إلى جعل القصيدة (حياة) أو (دنيا) تمتزج فيها العادات بالقوانين والأفكار بالأنظمة. ويطلق بنيس في مرحل من مراحل دراسته في كتابه «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» مصطلحي الأسود، والأبيض على الخط، فالأبيض منه ما كان رقيقاً، أما الأسود فما كان سميكاً، ويؤكد على أن طبع النصوص بالأبيض دليل على مرتبة لا تصل الجودة العالية، أما طبعها بالأسود فينم عن تقدير فائق من لدن الناشر، يؤشر بالضرورة على تقدير القارئ لهذه الأعمال، وقد يمزح هذا الناشر بين المستويين دونما تخل عن قصيدته السابقة .
وما دمنا قد ربطنا الاتصال ببنيس من خلال مؤلفه المذكور، فلنعرج على إحدى نماذجه الخطية الزاخرة باستغلال خط مغربي أصيل، إغناء للتحليل وخدمة تتجه صوب التعليل، تلكم قصيدة «والأيام مشتعلة أبداً» وليكن المقطع الثاني من القصيدة، ويضم جزئين يبدآن بالسطر الشعري نفسه وهو : أصبحت هذه الطرقات والجزءان موزعان على دائرتين : الأولى منها أوسع من الثانية، ويتمم هذه الأخيرة بقوله :
كتبــي
ودائــرتي المشتعلة.
في وقت تستغني الدائرة الأولى في نهايتها عن أي سطر بل تكتفي بالبياض. وبهدف توضيح الرؤية أكثر نورد قراءة قدمها الناقد التونسي «محمد المهدي المقدود» في مجلة الوحدة في عددها (التأصيل والتحديث في الشعر العربي) حاول فيها هذا الأخير إخراج أبيات بنيس من الدائرة ووضعها في شكل شعري عادي يبسط عملية القراءة ويجعلها ممكنة، يقول الناقد : «هكذا يكون المقطع مقروءاً على النحو التالي (وبكثير من التشويه) :
أصبحت هذي الطرقات
كـل الطرقــات
نقالات الموتى / صفارات الإنذار / جرحى /
عمالاً / سجناء / طلبة / أحياء
ملغومــة / ووكـالات
الأخبــــار
أصبحت هذي الطرقات
كـل الطـرقــات
غضبا / جوعـا / عصيانا / باروداً / سرطاناً /
طاعـوناً / ومتاريس الفقراء
كـتــبـي
ودواتـي المشتعلـة» .
كما نصادف تجربة أخرى جديرة بكامل اهتمام، تلك محاولة الشاعر محمد الغزي في ديوانه «كتاب الماء كتاب الجمر» ، إذ الشاعر رتل المجموعة بخط يدوي، ذي لون بني، يماثل بكبير المماثلة لون الصفحة القريب من الصفرة.
نخلص إلى القول إن تقنية الخط كما تعرضت لها التجارب الشعرية الحديثة، والتي أشرنا إلى بعضها، وما أغفلناه كثير تصير ركيزة يستند إليها النص في بناء جسده، والشاعر بهذا يسائل التراث، فيلتقط مواد بناء مشروعه من هذا الخزان ليبني عالماً جديداً فيه حضور متميز للذات المبدعة، التي تنتقي مادتها من الموروث بغية تلميحه بكل رؤية حديثة.
- شكل القصيدة في ديوان «أبجدية ثانية» لأدونيس :
الديوان الذي نباشره بالقراءة والتفسير، هو للشاعر علي أحمد سعيد بعنوان «أبجدية ثانية»، ولا يخفى على أحدج ما لأدونيس من حضور فعال في الساحة الأدبية العربية إن على مستوى التنظير أو الإبداع، وهو حضور واع يحركه هاجس البحث عن لؤلؤ المعاصرة، وتقننه نظم وقوانين خطاب الذاكرة التراثية من أجل نسج رداء الهوية والأصالة. هكذا يظهر أدونيس ناقداً مبدعاً بتقنياته النقدية التي بها يفحص تاريخ الشعر العربي، بعدما اكتسب أدونيس وعياً هاماً وحساً ثقافياً في الممارسة في نظم القصيدة الحديثة، ومهارته في هذه الصفة تغنيها معرفته الواسعة بمستلزمات القضية الشعرية ينضاف إليها خبرته المتميزة والذكية في هذا الحقل. الأمر الذي يدفعنا إلى القول دون أدنى تحفظ، بأن أدونيس استطاع أن يكون معاصراً بالفهم الذي نريده لهذه الكلمة، وهو هضم ثقافات العصر قيمها وحديثها، مضافاً إلى ذلك وعيه بالظرف التاريخي الذي يعيشه المبدع، فلا يخشى في الجهة بالرأي لومة لائم أو جزاء معاقب.
1- العنــوان : إن القارئ يشده أول ما يشده العنوان، فهو الكلمة المفتاح أو العتبة الرئيسة لاقتحام دواخل النص، وهو في الشعر كالهامة في البدن، أو كالمفتاح في الباب، وهو في الوقت ذاته الإشارة التي تنير طريق القارئ في تعامله مع النصوص، والتي قد لا تكفي في عملية مد= العنوان الجسور المعنوية مع نصه، وبه كذلك يتم التعرف على فحوى النص بأكمله، وعلى شخصية قائله، بل وحتى الظروف المحيطة بهذا النتاج، من عصر وبيئة وثقافة أحياناً. وقديماً كانت القصائد تعرف بآخر حرف في قافيتها أو برويها، كسينية البحتري، وبائية أبي تمام، كما كانت تعرف باسم صاحبها كالمعلقات. هذا ويحدثنا الدكتور «عز الدين إسماعيل» عن جانب آخر من جوانب كان يبرزها العنوان، يقول «فقد بدأ الشعراء يركزون عملهم في القصيدة حول غرض واحد، وظهر أثر ذلك في أن الشعراء راحوا يضعون العناوين المختلفة لقصائدهم ليدلوا على موضوعها، بعد أن كانوا يسمون القصيدة بحسب حرف الروي في قافيتها فيقولون السينية أو النونية» .
ويتمركز العنوان التقليدي في صدارة الصفحة، وهو شكل امتد احترامه إلى اليوم، ولم تَشُبْهُ إلا محاولات قليلة توخت إحداث تغيير جمالي في إقامة هيكل القصيدة، كقصيدة «هذا قبر المرحوم» للشاعر «صادق الصانع» والتي نشرت بمجلة مواقف في عددها التاسع (ص : 11)، كذلك بعض القصائد من تجربة بنيس كـ«فاتح ماي» من ديوانه «في اتجاه صوتك العمودي» وقد جعل الشاعر كلمة «فاتح» في أول الصفحة وختم القصيدة بكلمة «ماي» فكان بهذا أن توسطت القصيدة العنوان.
أما «شربل داغر» فيحيلنا على تقنية لازال مفعولها سارياً حتى الآن، وهي تقنية اختلاف القصيدة وعنوانها في النسخ والطبع، بمعنى أن العناوين قد تكون منسوخة، في حين يكون النص مطبوعاً : «قد نجد تفسيراً لهذه الظاهرة – وهي ظاهرة حقاً – في تعلق – ولو بعيد – بأصول الخط العربي، التي تتراجع كثيراً في الكتابة العربية، لصالح التنفيذ الصناعي منها» ، وقد جرت العادة على أن تأخذ إحدى القصائد، أو لنقل تشارك الديوان في العنوان نفسه، كما نجد ذلك مثلاً في «الناس في بلادي» لصلاح عبد الصبور، إذ تتفق القصيدة الخامسة والديوان في العنوان ذاته، في حين نجد ما يشبه ذلك عند أدونيس في هذه المحاولة، فالقصيدة الأخيرة سماها «في حضن أبجدية ثانية» وفي هذا دليل على اقتدائه بالنهج السالف الذكر. والشاعر انتقى لفظ (أبجدية) دونما تخصيص أو تعريف، وأضاف إليها نعت «ثانية»، مما يخرج به عن إطار التنكير، فالشاعر اهتم برتبة (أبجدية)، ولم يعن بالزمن والمكان اللذين يلغان الأبجدية، وهي جملة اسمية تزخر بما يشير إلى التجدد والديمومة. في هذا الإطار يسعى العنوان إلى إثارة المحتوى أو المدلول العريض للمجموعة، فتصير رسالة شعرية يرسلها الشاعر فيتلقفها المتلقون ليروا أو يكتشفوا ما يربطهم به من وشائج وصلات.
هذا وتجمع المحاولة بين دفتيها إحدى عشرة قصيدة، افتتحت بـ«أحلم وأطيع آية الشمس» وختمت بـ«في حضن أبجدية ثانية» ولكن كان في مقدورنا إقامة إطلالة ولو بسيطة على ما تختزنه هذه القصائد من مضامين شعرية حية، ومدلولات عظيمة أو ثرية، تؤطرها رؤيا شعورية نابعة من شحنة شعورية متأججة ونفس وجودي خالص، لكان أفيد وأفضل لكل من تحدوه رغبة جامعة، وفية طامحة إلى استطلاع خبايا وكنوز ذخيرة الشعر الحديث، لكن الأمر يخرج عن استطاعتنا، خاصة وأننا بصدد دراسة المعطيات البصرية في المجموعة.
إن الشاعر هاهنا، يعمد إلى وسيلة من شأنها أن تربط القارئ أكثر فأكثر بالجو العام الذي تدور حوله القصيدة، كما أنه بمقدورها أن تشده إلى فحواها، وهو يمر بتلك المقاطع التي تجمع بين الغنائية والسردية في آن، مما قد يجعله لا يلتفت إلى العنوان، ويتيه في سراديب القصيدة، يتعلق الأمر – هنا – بتكرار عنوان القصيدة كما هو الشأن بالنسبة للقصيدة الأولى، إذ تكررت الجملة «أحلم وأطيع أية الشمس» في مطلع المقطع العاشر وختمته، ثم في القصيدة الأخيرة، أعاد أدونيس جملة «في حضن أبجدية» بتحوير طفيف عن الأهل : «في حضن أبجدية تحضن الأرض، يسهر قاسيون وأستيقظ» .
تجدر الإشارة في ختام هذا الحديث إلى أن توظيف العنوان في هذا الديوان، كان توظيفاً واعياً ومؤسساً، وهو وليد شكل جديد أقامه أدونيس وأحكم هندسة بنائه إحكاماً حديثاً بحق.
2- الهـوامـش والإهـداء : لا مراء في أن نشأة الشعر العربي، ارتبطت في الغالب بالمناسبات والأحداث الكبرى التي من شأنها تغيير مسار الحياة لفرد العربي، هذه الحياة التي حاول جاهداً أن يخضع مقتضياتها لصالحه، ومن ثمة نجده ومنذ الجاهلية يثبت قيماً ترسخت في نفسه عبر الفطرة كالكرم والصدق والشجاعة والبطولة وما إلى ذلك، مما هو مدعاة للفخر وأساس كل اعتزاز. والشعر كما هو معروف ديوان العرب، أو بالأحرى صحافتهم اليومية، ومن أجل أن يؤدي هذا العمل الصحفي مهمته على أحسن وجه، وأقوم سبيل ... الرسالة أوسع الجماهير أصبح الشاعر يركز كبير غايته على الهوامش، لتوضيح مناسبة القصيدة، فهي «تؤطر المعنى أو توجهه سلفاً» ، وذلك ما نجده بكثرة في القصائد الوطنية حيث تتعدد وجوه وصف المعارك ومنح القواد والحكام، بل وحتى الشعوب وهو اتجاه ترعرع وتقوت ركائزه إبان عصر النهضة العربية.
ولما اختلت موازين الشعر التقليدي أو العمودي وتداعت أسسه، نهض الشعر الحديث بمهمة جديدة، وأهم ما قام به هو توشيح القصيدة بحاشية تبرز زمن قولها ومكانه، وكأنه بهذا يخش عليها تقلبات الزمن وتغيرات المكان، فهل الشاعر يعيد إلى الأذهان حاشية المناسبة ولو بشكل مغاير؟ أم يربط شعره بوطنه وتاريخيته، فيسعى به إلى أن يكشف عن خصائص ومميزات قطرية لا غير لينحى به عن أن ينخرط في الإطار القومي أولاً، ثم في الإنساني الكلي ثانياً وأخيراً؟
هذا ويورد شربل داغر، أمثلة لحواشي من نوع آخر بالمجلات التي انكب عليها بالدرس والتحليل في كتابه «الشعرية العربية تحليل نصي»، تقدم لنا نماذج لشخصيات وأسماء وأماكن، ومنها على الخصوص «كانت الغرقى تئن في أعماق دجلة الكاسح، ومن بعيد تطل القصور في خيلاء المتكبر» في قصيدة للشاعر العراقي علي الحلي تحت عنوان «الطوفان» ، وفي جانب آخر، تزخر الهوامش في النموذج التقليدي والعمودي بشروحات، وتفسيرات لغريب اللفظ وغائر الكلم، عبر استخدام المعجم، لتقديم دلالة ولو نسبية لما تخيره الشاعر من لغة ومفردات، وهذا ما نعثر له على ند فريد ومثال وحيد في الديوان . وإذا كان أدونيس قد ساير الشعراء الرواد كالسياب وصلاح عبد الصبور ونازك وغيرهم في الاهتمام بالرموز والأساطير، وجهد وجهدوا في استحضارها على مستوى التجربة الشعرية، عبر جعلها البؤرة التي تتعلق بها ميكانيزمات النص، واللب الذي يشد إليه باقي الأدوات، نجد ذلك واضحاً من خلال عمل هؤلاء جميعاً على جعل الهامش أو الحاشية أرضية معرفية تبرز فيها الرمز والأسطورة حاملين كل تفسير وشرح. ففي قصيدة «جيكور والمدينة» لبدر شاكر السياب نصادف الحاشية التالية : «تموز " إله الخصب عند البابليين صرعه خنزير يرى في الشهر المسمى باسمه، ويتجدد موته وبعثه كل عام. وعشتار حبيبته في العالم الأرضي، وهي آلهة الحب والتناسل، وتبدو أحياناً وكأنها أمه، وخاصة في مراثيها لها. أما لاة فحبيبته في عالم الموت» . إلا أن الشاعر في هذه المحاولة أهمل إن لم نقل تخلى عن إدراج المفاهيم المتعلقة بكل أو ببعض ما أثبته في عمله من أسطورة ورمز، لسبب يعود إلى كون نصوصه جاءت جامعة مانعة في هذا الشأن، ذلاك أنه يورد أمثلة أسطورية ونماذج رمزية لا تكاد بأبعادها الاجتماعية والنفسية والسياسية والفكرية تغيب عن ذهن كل قارئ يقظ، أو تسقط من حسبان كل من يظل من وقت لآخر على ما خلفه أسلافه من تراث وارث، وخاصة وأن المحاولة هاته جاءت في وقت – نعني به السبعينات – أضحت فيه الثقافة ملكاً مشاعاً بين الجميع.
من اللازم القول إن الإهداء تقليد أدبي دأب عليه الشعراء والأدباء والمؤرخون، وهم يرون فيه حلية أو تكملة لا يكتمل العمل إلا بها، وسنداً لا تقوم للعمل قائمة إلا عبره، ففي بداية الإنتاجات الشعرية نجده منتصباً كعلامة وواقفاً كرقيب. والشاعر القديم كان يهدي قصيدته إلى الملوك، والأمراء وكذا ذوي الجاه والسلطان أو الذين يلقي في حضرتهم وينشد في مجلسهم، وكان ذلك يغطيه رداء التسلق والتقرب، بل وفي أحيان غالبة التكسب. أما وقد تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال لن ينفك الشاعر الحديث عن هذه العادة، بل أقرها دأبا يسير على منواله، ونهجاً ينسج على أشكاله، وبهذا ظل مشدودا إليها بأوثق وصال، إذ أضحت القصيدة تزخر بأسماء المهداة إليهم، وإن كان هذا الشاعر قد استحدث شعراً جديداً في هذا المضمار، فرحنا نراه يقصد قوماً مغمورين، وأناساً بسطاء.
ربما أمكن القول أن اختياره هذا لم يأت عفوياً وإنما جاء مبنياً على توجهات شعرية مقصودة، نقصد بعد أن اهتم بالشخوص، والعقليات العربية التي صنعت تاريخ الأمة الحديث أو المعاصر، من مناضلين وقادة ومفكرين، فاتخذوها كرموز قطرية أولاً، ثم قومية ثانياً . يقول شربل داغر : «إلا أن الشعراء هنا على خلاف الشعراء القدامى يهدون القصيدة إلى هذا الأمير أو ذاك طلباً للتكسب بل لأشخاص مجهولين ومغمورين غالباً أو لموضوعات نضالية واجتماعية أو وطنية» . وهذا وتجدر الإشارة إلى أن أدونيس في عمله هذا يكاد يخالف مخالفة تامة ما درج عليه المحدثون، من إهداء القصيدة أو الديوان إلى الشخوص من مناضلين وشعراء أو إلى أفراد عائلاتهم. وإذا كانت بعض التجارب في الإهداء لا تقصد ما ذكرناه وتتوجه إلى ذات الشاعر، كما هو واضح عند «حسن نجمي» في ديوانه «حياة صغيرة» حيث يهدي القصيدة الأولى إلى نفسه ، فإن أدونيس لم يهد الديوان ككل إلى أحد أي أنه تخطى مبدأ ظل متعارفاً عليه ردحاً من الزمن، كما أنه لم يثبت هذه التقنية إلا في قصيدة واحدة «وردة الأسئلة» وهي موجهة بالصيغة التالية :
«إلى أ.ق
الأكثر بهاء بين صديقات الشعر».
فمن تكون أ.ق؟ وما تأثير حضورها في ذهن الشاعر؟ وتأثير هذا الأخير بمثولها في ذاكرة خياله الشعري؟ وهاته أسئلة بسيطة في الظاهر، مركبة صعبة في العمق الذي يختزن الإجابة وبأسرها. وإذا تجاوزنا الحرفين اللذين ربما يشيران إلى كائن بشري، وهو أنثى بلا شك، أو إلى كائن لغوي يكون القصيدة بلا ريب، نصادف وصفاً لهذه المقصودة، إنها الأكثر بهاء بين صديقات الشعر، فمن هن صديقات الشعر؟ هل النساء اللواتي يستمعن بسماع فن القول، ومنه شعر النسيب والتشبيب، أو الغزل، مما يستفيض في وصف مواطن جمالهن، ومواضع فتنتهن، فتكون في هذه الحال أمام أدونيس العصر الجاهلي أو الأموي أو بالأحرى العباسي، وهي عصور كان فيها الشعر عبد الطلل وأسير الدن والراحلة، وإذا ما خالفنا هذا الاعتقاد نكون أمام شاعر يتغزل غزل القرن العشرين، وهو ما لا يستصيغه ذهن من يقرأ الديوان ولا يتقبل عقل من له بعض الدراية بشعر الشاعر ومنه هذا الذي بين أيدينا.
هندسة القصيدة :
يقول رامبو «أيا نفسي لا تصغي القصيدة بهذه الحروف التي أغرسها كالمسامير، بل بما تبقى من البياض على الورق» .
من المؤكد أن الشعر الحديث في تجاوزه لشقيقه القديم، لم يكتف بتقويض أسس هذا الأخير، الإيقاعية في البداية، ثم التركيبية واللغوية، ومنها إلى الوظيفية، بل امتدت يد الشاعر لتبعثر بنيانه وشكله، ومن هنا بدأنا نرى القصيدة وقد استعاضت بالكيف النوعي عن الكم اللغوي، بتبنيها النأي عن اللفظية الموغلة، التي طالما ولدت أو أنتجت خطابية أكثر رنيناً وأقل تجاوباً وإتقاناً وفنية.
أول ظاهرة تشكيلية تشدنا إليها في الديوان، إفراد الشاعر للعناوين صفحات خاصة، حيث يفرض العنوان سلطته على الصفحة ولا يني عن طرد كل ما عداه، منم كتابة من شأنها أن تشوش على الوظيفة الإرسالية، وتحد من التواصل المنشود.
هذا ويستقر العنوان أسفل الصفحة البيضاء ويحدها، في محاولة منه لحراستها والانتباه إلى ما قد يحل بها، فتكون أقرب إليه من أي أمر آخر حتى من القصيدة نفسها، هكذا أصبح يرتبط بها أكثر من ارتباطه بالقصيدة، أو بالأحرى يجعل العناية هنا صفة والاهتمام متوازناً.
وإذا كان الشعراء الرواد، قد وقفوا بالكاد عند حد تكسير سلطة العمود الشعري، وتجاوزا الصفة السيميترية للنص، فاكتفوا بالاحتفاظ بالسطر الشعري، مستحدثين جملاً شعرية يحكمها مبدأ الجريان وتتوزع على مجموعة أبيات قد تطول أو تقصر حسب المقام، فإن أدونيس قد تجاوز ذلك كله، وظهر لنا بصفة أو صفات جديدة كل الجدة، ومنها على الخصوص إعادة الشكل التناظري إلى الحسبان، وكأنه يعود بالشعر إلى فترات ما قبل الحداثة، ولكن في ثوب جديد يحمل في ثناياه دلالة أو معنى جديد، «فهل جاء التعانق الدلالي بهذا النسق العجيب قصداً أم مصادفة؟» . يقول أدونيس :
«المقيل – حلقـة 1 المقيل – حلقة 2.
- لا شرقية لا غربية - يتحدث مع النسيان،
بل نكهة مستقبل في فم النبوة وها هو يلتقي في بيت الذاكرة.
الشرق الشمس سافرة - قلما تتسع شجرة الذاكرة.
والغرب الشمس محجبة إلا لطيور المـوت
الشمس سرير في الشرق - ألا يعلمنا الشعر أن نعطي
سريرة في الغــرب تجاعيدنا للريح،
شرقنا لا يحب المرأة إلا ووجوهنا للأفق؟.
من وراء حجاب - - الخمرة العجوز ليسد عجوزا» .
واضح أن هذا النموذج هو واحد من نماذج عدة، تزخر بها المجموعة، وهي تكاد تختلف فيما بينها اختلافاً، وقد اخترنا هذه الأبيات لسببين، فلأنها موحدة من حيث سمك الخط الذي كتبت به أولاً، وثانياً تحوي إشارة هامة «المقيل – الحلقة3، والمقيل – حلقة 2» تفيد في توجيه القراءة، فيغدو من السهل البداية بالعمود الأيمن، وفي هذا كبير الشبه وعظيم المماثلة بشكل القصيدة العمودية، فهل هو نزوع وجداني أو مزاجي؟ مما قد يخفي إدراكاً قوياً للتربية الجمالية والتركيب النفسي للإنسان العربي، الذي يشتاق من وقت لآخر إلى هذا النوع من الخطاب التناظري الأصل. وإغناء لمبدإ التحليل وسعياً وراء تقديم بعض التعليل، ندرج نظائر هذا الشكل وهي كثيرة في المجموعة، ومن أمثلتها :
«وها هي الأزفة والحقول تسهر كمثلا الكتب التي تختصر الطبيعة سيؤون تريـم شيبام» .
وكقولــه :
«برج إيفل نوترادام اللوثر
(هل أحلم؟ لم يعد برج إيقل في مكانه.
وها هو اللوغر يزحف نحو الشاطئ الشرقي من المتوسط» .
ثم : «نوتردام جامع الحي الخامس
أبكي يا ملائكة الجحيم» .
إن التقابل بين هذه الألفاظ وغيرها يعكس رغبة جديرة من لدن الشاعر في تطوير شكل القصيدة الحديثة، عبر تقديم مساهمة شعرية تنخرط بصفة شرعية في مسار تحديد العلاقة الجدلية بين التغيير والإبداع... هنا يفتح المنعطف الذي يقودنا إليه سياق القصيدة، أفق التغيير، الإبداع والتغيير هو تكسير المسبقات والإقامة داخل التحول، هكذا ينتمي السياق إلى تفجرات الواقع العربي إلى احتمالات ثورته ، هذا ويطالعنا الشاعر بنموذج آخر للتقابل بين الأبيات، حيث تصعب القراءة ويحار القارئ من أي العمودين يبدأ – منذ الصفحة الأولى من الديوان في قصيدته «أحلم وأطيع آية الشمس» فالعمود الأول كتب بخط رقيق، بينما كتب الثاني بخط سميك، وذلك لم يأت اعتباطاً، إنما قصد بها أدونيس قلب الأدوار فيما يخص البداية المعتادة من اليمين أولاً، محاولاً بذلك إعطاء مشروع قراءة بديل ونمط ترتيب جديد، يقول :
«أحلم وأطيع آية الشمس آتيا في سديم الإشارات
من أين لذلك الهرم حدائق النحاس
أن يحمل القمر على شمـس تتــدلى
كـتــفـيـه؟ ثديا للرغبة وثديا للحزن
ولم يجلس خان الخليلي فـيـض يــنـزل
على مقعد واحـد من دفــاتـر إمـلاء
مــع الـعلــم؟ ملأى بشعر يكتبه جنون الأرجل
وما لـسـقوف الخشب في نسيان أكثر بهاء من التذكر» .
في شارع الجمالية وشارع
الدرب الأحمــــر
يعاد أن يغلبـها النعاس؟
أما في قصيدته «شهوة تتقدم في خرائط المادة» فيقلب الآية رأساً على عقب، بجعله الأيمن من العمودين سميكاً والأيسر نحيفاً.
[كيف أزين للغزالي أن (ب)
ينـور عقلـه بضـوء (في أورلي)
نيــتـشــه يبدو العالم الثالث فيلا أعرج
مع ذلك، سأذكره يهبط من وظلة تبت ما يشبه
منـذ النشــأة هذا الكلام : «باريس تعقد أحلافا
تسـافر إلى العـالم جديدة مع الكواكـب،
ولم تــصل بعد)] وتتعلم ثـــورة الشمس».
ثم يتحول الفيل، بقدرة ما،
إلى جدول من الــدم
يتشرد في البيوت والحوانيت .
إن استحضار نموذج القصيدة القديمة، تحكمه رغبة ملحة من الانفتاح على عوالم أخرى، يحددها المستقبل عبر احتمالاته الإبداعية، فيتولد عنها كل تنوع وخلق، يقول أدونيس : «هذا يعني أن الماضي لم يعد يهم الشاعر العربي الجديد كقدسية مطلقة نهائية وإنما يهمه بقدر ما يدعوه إلى الحوار معه، فالشاعر يأخذ من أصوات الماضي بتلك التي تعانق المستقبل» .
ولا مناص من أن تكون القصيدة في صراعها بين الكتابة والفراغ انعكاساً لما بداخل النفس البشرية من حيرة واندهاش، أمام اختلال موازين القيم، ومعايير المثل في زمن شعاره الأول والأخير : ضياع الإنسان مبدع العلاقات ومقننها في أحضان ما ابتكره من ارتباط والتزام. ومن ثمة يتم تشييد خيط واصل، يمثل جسراً بين الذات والقصيدة، عن طريق إقامة خصائص ربط عضوية بين مظهري النص الشعري: الخارجي والداخلي، يقول محمد بنيس : «إن الشاع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

القراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الدراسات اللسانية العربية من الجذور إلى عصر اللسانيات الحديثة ج 1
» الدراسات اللسانية العربية من الجذور إلى عصر اللسانيات الحديثة ج 2
» عوائق الدرس اللساني في الثقافة العربية الحديثة
» أصول النظرية السياقية الحديثة عند علماء العربية : د.محمد سالم صالح...
» القراءة للأطفال

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين  ::  التعارف والتهاني والتعازي فقط-
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية reddit      

قم بحفض و مشاطرة الرابط منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين على موقع حفض الصفحات
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم


القراءة البصرية للقصيدة العربية الحديثة "أبجدية ثانية" لأدونيس أنموذجاً 561574572

فانضموا إليها

Computer Hope
انضم للمعجبين بالمنتدى منذ 28/11/2012
سحابة الكلمات الدلالية
بلال قواعد مدخل الخطاب النص موقاي اسماعيل المعاصر مبادئ ننجز محمد الأشياء التداولية ظاهرة الخيام كتاب النقد البخاري اللسانيات العربي النحو اللغة على مجلة العربية الحذف


حقوق النشر محفوظة لمنتديات تخاطب
المشاركون في منتديات تخاطب وحدهم مسؤولون عن منشوراتهم ولا تتحمل الإدارة ولا المشرفون أي مسؤولية قانونية أوأخلاقية عما ينشر فيها

Powered by phpBB© 2010

©phpBB | منتدى مجاني | منتدى مجاني للدعم و المساعدة | التبليغ عن محتوى مخالف | آخر المواضيع