تأليف محمد محمد يونس علي
لما كانت مناهج اللغة العربية معنية بإكساب الطلاب المهارات التي يحتاجوﻧﻬا
للتمكن من اللغة، فإن مراعاة طبيعة اللغة وبناها ووظائفها ونظريات دراستها تصبح ضرورة
حتمية في أي محاولة لتحسين المناهج الحالية. يقول علي عبد الواحد وافي في هذا السياق:
إن "على كل من يحاول إصلاحا لغويا أن يعمد قبل كل شيء إلى دراسة حياة اللغة، ومناهج
تطورها، وما تخضع له في حياﺗﻬا من قوانين؛ حتى يتميز له الممكن من المستحيل، ويستبين له
ما يتفق مع السنن الكونية وما يتنافر مع طبيعة الأشياء، وحتى تأتي إصلاحاته مسايرة لهذه
الطبيعة، فتؤتي أكلها وتكلل بالنجاح". ٨٢
وبدلا من العناية المبالغ فيها في حشو الطلاب بمعلومات عن اللغة فإن الوقت قد
حان لإدراك أن التمكن من اللغة حديثا، واستماعا، وقراءة، وكتابة هو الهدف الأساسي من
تدريس اللغة، فكيف يعقل أن يجيد الطالب كيفية تقطيع أبيات الشعر، ومعرفة الكثير عن
تاريخ الشعر، وتراجم الشعراء، وأن يلم بقسط كبير من القواعد الصرفية والنحوية، وأن
تكون له القدرة على التمييز بين أنواع الاستعارات والتشبيهات ونحو ذلك من الأمور التي
تندرج في إطار المعارف عن اللغة دون أن يمتلك ناصية مهاراﺗﻬا الأساسية. ولعل مدرسي
اللغة يتفقون على أن كثيرا من طلاب العربية في ضوء المناهج الحالية يحفظون الكثير مما
ذكرنا من المعلومات اللغوية دون أن يكون له من اللغة الحد الأدنى الذي يمكنهم من الحديث
مشافهة أو كتابة عن تلك المعلومات اللهم إلا إذا طلب منهم أن يسمّعوا ما حفظوه عن
ظهر قلب من تلك المعلومات. يقول أحد المهتمين بتدريس اللغة: "ونجد من خلال فروع
المنهج المختلفة أن تعليم اللغة صار مجموعة من المعلومات حول علوم اللغة وفلسفتها
ومقاييسها، وعن الأدب وتاريخه، وليس تعليما للغة كمهارات لاستعمالها استعمالا سليما
وصحيحا، وقد أثبتت التجارب أن هذه الدراسة لا تجدي في تحصيل اللغة وممارستها، ولا
يبقى من مقاييسها في عقول دارسيها شيء بعد تركهم معاهد الدراسة، وهكذا أصبحت
اللغة العربية في المدارس مادة دراسية تدرس لذاﺗﻬا بغض النظر عن غايات تدريسها". ٨٣
ومما ينبغي أن يراعى أيضا في هذا السياق أن تكون المناهج مثيرة لاهتمام الطالب،
ومرتبطة بعالمه المعاصر، وملائمة لسنه، ومستواه الدراسي.
كما ينبغي أن نبذل جهدا كبيرا في الاهتمام بإعداد معاجم للمتداول والشائع من
الألفاظ، وهذا يستدعي القيام بإحصاءات للكلمات الأكثر شيوعا والاستعانة في ذلك
بالحاسوب في إطار أعمال جماعية مؤسسية قائمة على التخطيط والبحث العلمي.
والظاهر أن الصورة لن تكتمل ما لم يمنح الجانب الشفهي من اللغة المكانة التي
يستحقها، إذ أن إهمال الجانب الشفوي يرسّخ فكرة أن اللغة العربية لا تصلح إلا أن تكون
أداة لحفظ التراث ونقله إلى الأجيال القادمة، ولم تعد صالحة لاستخدامها أداة للتخاطب
اليومي. ويبدو لي أن ذلك يقتضي تضمين الامتحانات طرائق حديثة لاختبار المهارات
الشفوية والإصغائية.
وفيما يتعلق بالكتابة فقد سادت النظرة التقليدية إليها بوصفها عملية مقتصرة على
مراعاة القواعد النحوية والإملائية دون تقديم محاولات جادة لتنمية قدرة الطالب على
الكتابة التوليدية والمنطقية والتنظيمية والنقدية والموضوعية. ولا ريب أن ذلك يتطلب أن
يسبق تأليف المناهج إعداد دراسة عن الأخطاء الشائعة لدى الطلاب، والمشاكل اللغوية التي
يعانون منها، وتقديم طرائق ناجعة في تدريسها تكون أولى أولوياﺗﻬا العناية بكيفية تركيب
الجملة وأنماطها الخبرية منها والطلبية، وبناء الفقرة السردية والوصفية والاستدلالية
أزمة اللغة ومشكلة التخلف في بنية العقل العربي المعاصر- د. محمد محمد يونس علي ٦٩١
والشارحة، وبناء النص، والبحث في وسائل تماسكه على المستويين المنطقي واللفظي.
وإذا كانت اللغة وعاء لنقل الفكر فلا ينبغي أن نتجاهل أهمية عدم فصل اللغة عن
المضمون، والاهتمام بالتفكير النقدي؛ إذ أن انزعاج القارئ من نص مهلهل غير مرتب، أو
مهوش الفكر مفتقر إلى المنطق أشد بكثير من اكتشافه لبعض الأخطاء الإملائية أو النحوية.
وكذا يجدر بنا إعطاء الأولوية للوظيفة الإبلاغية والتواصلية على الوظيفية المعيارية
والذوقية، لأن المشكلة الأساسية التي يعاني منها طلابنا هي عدم القدرة على استخدام
الفصحى في أحاديثهم وكتابتهم، وهي مشكلة أهم من تدني الذوق أو الوقوع في الخطأ؛ إذ
لا يمكن أن نعتني بتصحيح الأخطاء دون أن يكون الحد الأدنى من الاستخدام اللغوي
موجودا، وقد أصاب علماء التراث حين قالوا: إن النحو للكلام كالملح للطعام، ولم يجعلوه
الطعام نفسه، الأمر الذي يفرض أن تكون مهمتنا الأساسية هي توفير الطعام قبل إضافة الملح
عليه.
ومع ذلك ينبغي ألا يفهم من هذا الدعوة إلى التخلي عن العناية بالنحو أو التذوق،
بل المقصود أن تكون الأولية لكيفية اكتساب اللغة أولا ثم لتصويبها وتحسينها؛ إذ التصويب
والتحسين فرعان عن الاكتساب الذي هو الأصل.