سيدي، اجلس، اجلس، يا سيدي! سأحدثك عن ماضيك وعن حاضرك وعن مستقبلك، فالماضي له بقاؤه مهما خفي، والأيام تكشف الأسرار وتعري الأفكار! سأروي لك ما يحدث في دنياك هذه وآخرتك، فكلتاهما أحوال وأفعال.. وإن كانت لهما طبيعتان مختلفتان. وإني لأرى في وجهك أنك من الطيبين.. من أشد الناس إيماناً بالآخرة، بل ربما أنت من أهل الآخرة. عيناك تحدثان عن بعض ما في أعماقك.. هما الآن بالذات تقولان.. أنك تفكر في الآخرة ليل نهار! هذا ما يظهر عليك، ولكن الرمل هو الذي سيقول كلمته فيك. فأصابعي، وهي تخط الرمل، تستطيع أن تحدثك عن كل شيء.. عن ظواهرك وعن خوافيك، عن أسنانك وعن أنيابك. قد تقول لك ماذا نهشت يوم أمس وما قبل الأمس، فلذلك كله بقايا! في عصري وعصرك هذا لا حق في العيش لمن ليس له أنياب. ولك أنيابك فيما أرى، وهي أنياب ذهبية، ومن ثم فطاقتها على النهش أكبر.. في عصر الجوع والحرمان والقهر و.. الموت! ومن البشاعة أن تكون الأنياب ذهبية في مثل هذا العصر المروّع! أصابعي تتحدث بصدق ولا تكذب. فهي تخط في الرمل ما تتلقاه من ذبذبات طالعك.. بخيره وشره! والرمل.. هذا الرمل رمل الصحراء الناعم الجاف لا رمل الشاطىء المبتل. وأنت تدرك- ولا ريب- الفرق بين الجفاف والبلل في هذه الحالة. وكيف لا ومثلك يعيش ريان مبلولاً؟ نعم، إنه رمل الكثبان الناعم. له النعومة التي تهواها يدك العاشقة في بعض ما تلمسه! لا تدع نفسك ينقطع لذكر النعومة! دع الرمل المُخْبِر.. يواصل حديثه! فهو لم يقل بعد الكثير. حين تمتد أصابعي في الرمل يتضح لها مصيرك كله ويغدو صافياً كعينيك.. بل كعينك اليمنى، فالعين اليسرى تبدو عندك غائمة بعض الشيء.. تختصر قرب الأبعاد مثل العدسة المضببة! أصابعي تجد طريقها إذن إلى آمالك وتطلعاتك.. وما أسرع ما تتحول إلى مرآة أرى من خلالها حياتك في كل أطوارها.. عارية! ولا عيب في النظر إلى عرى الحياة فوق خطوط الرمل وبينها.. فقد تكيَّف مع الرمل. لذا لا أريد أن أخفي عنك شيئاً. الرمل لم يتعلم الخداع.. الخداع بعيد عن طبيعة الرمل، لا يرضى عنه الله ورسوله. وهذا ما تردده أنت في كل حين. فهل أنت تردده عن يقين؟ هذا مجرد سؤال عن اليقين! فلا ينبغي أن يصفر وجهك كثيراً. إذا تجاوزت صفرته صفرة الرمل فقد يفقد الرمل مفعوله ونفقد معه ما نأمله منه! فلتتوقف أنظارنا عند هذا الرمل الذي بين أيدينا. دعني أحدثك بما يقوله لي بصراحة. فالرمل لا يستحي! وقد تعلمت منه ألا أستحي أيضاً.. فهو يكشف لي عن أسرار الناس بصفائه وشفافيته! وظيفتي أنا أن أكشف للناس عما أراه. ولا أظن أنك تعتبر نفسك من خارج الناس! لا شيء فيك يدل على ذلك. إني أكشف أسرار الناس من خوفي.. عليهم ومن خشيتي على مصيرهم. وما أكثر ما أحس أن مصائر الناس في أصابعي التائهة في ملامس الرمل الناعمة! لا أراك الله، أنت المستشفع بالرمل لمعرفة مستقبلك، أقول.. لا أراك الله مستقبلاً لا ترضاه لنفسك ولا يرضاه لك محبوك.. وثق أن أصابعي المبحرة في نعومة الرمل من محبيك أيضاً! فأنت لا يبدو عليك غير الخير.. وأي منا لا يحب الخير لنفسه ولسواه؟. وأنا في هذه اللحظة أحب أن أخبرك بما تحدثني به إصبعي، وهي جادة كل الجد، فالحياة ليست لعباً! أنظر إلى هذا الخط، يا سيدي.. أتدري بماذا يحدثني؟ أتعرف ماذا يقول لي؟ كلا.. لا يمكنك أن تعرف ذلك! أنه يقول لي أنك تحب.. تحب فتاة تعترض طريقك كل يوم دون أن تبادلك هي الحب! أتدري لماذا؟ لأنها لا تحب الرجل الذي يرى المرأة من خلال ذاته.. ذاته وحدها ويرى نفسه المنبع، أجل المنبع الذي لا يتوقف عن الفيض! واعذرني إذا أنا قلت لك هذا الكلام، فأنا كما قلت لك صريح.. وللرمل بين أصابعي صراحته الناعمة! وأنا أعترف بالصراحة ولو كانت قاتلة.. ولكنها لن تقتلك أنت على أية حال. فأنت حي تنعم بكل ما في الحياة من قوة! وليس من طبيعتك أن تهتم بغير حياتك.هذا ما تخطه اصبعي... سبابتي أرجوك، لاتتصور أنني أوجهها كما أريد لا، إنها تسير وحدها. توجه نفسه بنفسها، فلها حساسيتها الخاصة. لها رؤيتها الخاصة ولها كذلك حركتها المحددة. وها هي ذي الآن تقول من جديد.. قارئةً الخط الثاني.. أنك تحب أن تجلس في مكتب جميل، به مدفأة وضوء ساطع ينير ما تكتبه بشكل متقن وإن كان ذلك مجرد كلمات متقاطعة.. ولكم ودت أن تقطع يدك الكسلى! أرجوك مرة أخرى لا تدع الصفرة تطغى على وجهك. فالصفرة كما أرى لا تليق بوجهك أبداً! فلك القوة، ولك الجاه، ولك المال، ولك السلطة، وكل ذلك تختصره لفظة.. المجد! نعم، أيها الماجد! ذلك واضح في نظراتك. هذا حديث الرمل عن وجهك، ووجهك مغرم أصلاً بنضارته وبملامحه الحليقة! وحديثه عن عينيك كذلك.. وفي عينيك الآن نوع من الخوف.. أراه ينتشر في اليمنى واليسرى على السواء.. وهو شيء جديد لم يكن يبدو لإصبعي قبل! وحديث الرمل قد يسر وقد يحزن.. قد يطمئن وقد يخيف، وكل حديث لا يخرج عن هذا! وسأرى الآن ماذا تقوله إصبعي عن سلطتك.. آه، وآه. يا لك من إنسان طالعه ميمون! ويا لنباهة حظك.. ويا.. ويا! فقد أقبل عليك الحظ قبل أن تقبل عليه! فعلمتك الوظيفة التي شغلتها حتى لحظة جلوسك أمام الرمل.. علمتك كيف تستبد وكيف تناور وكيف تدوس على كل صداقاتك ومقدساتك وكيف وكيف وهلم جرا! وكل ذلك من أجل مكتب تجلس فيه أنت وغمامة.. عينك! مكتب.. لو عرفت قدر عينك الغائمة هذه لوجدته تافهاً! لقد جلست في المكتب، وبعضك متراكم فوق بعض.. وكم في تاريخك الوظيفي من تراكم، ورحت تستعمل وظيفتك في قمع الكثير ممن يتعامل معك، وفيهم الزميل والصديق، والأخ والرفيق. تقول إصبعي.. إنك تنكرت وتتنكر حتى لمن يجمعك به منبع ثقافي واحد.. وانتماؤك إلى المنبع أكثر بكثير من انتمائك للثقافة! ومن ثم ضحيت وتضحي بالمنبع الثقافي من أجل كرسي ومكتب أجمل مطل على البحر! واعذر إصبعي الصغرى..
إنها تتساءل الآن وهي تمر على الخط.. هل وهل وهل.. ومعذرة عن هذه الهلهلة، فهي هلهلة الرمل.. وحركة الرمل انصباب وهلهلهة، تتساءل هل لك على الإطلاق منبع ثقافي تركن إليه عينك الغائمة؟ لا شيء من ذلك يبدو لها واضحاً! وأعود بك اللحظة إلى البداية. سيدي، اجلس، اجلس سيدي! لا ينبغي لك أن تبقى قابعاً هكذا. يظهر أنك تمارس رياضة ما منحت قدميك قوة كبيرة! ومع ذلك فإني أطلب منك أن تجلس فالجلوس قد يمثل السلطة في مواجهة الأصبع الرملية الكاشفة ؛ اجلس، فإن هذا الخط الذي رسمته سبابتي طويل.. بقدر طول ظهرك.. فأنت في الأصل طويل القامة كما ترى إصبعي لا كما أرى أنا.. إذ أنني لا أرى في الحقيقة إلا ما تخطه إصبعي، فاتبعها معي الآن لترى مدى طول ظهرك. أرأيت كيف تضرب إصبعي الرمل وتبعد ما تراكم على جنبي الخط لتبرز طول ظهرك المعنوي.. وما فوقه من أشياء تعرفها أنت! أنظر الآن إلى عيني.. وسوف ترى أنهما تنظران إلى إصبعي في الرمل.. وهما تقرآن في هذه اللحظة بالذات ماضيك وحاضرك، أواه، إن ماضيك لسيء كل السوء، ومع ذلك فإن حاضرك جيد جداً. هكذا تتحدث إصبعي! تقول إن ماضيك تعلم الحقد ثم نشره على حاضرك وجعلك تمارس أعمالاً سرية ضد كل من تحقد عليه في نطقك وصمتك. وهل هناك مواطن أصيل لم ينله حقدك؟ إنك في وظيفتك المتجددة على الدوام تصر على أن تطرد وتطرد وتطرد كل من لا يلعب لعبتك! والرمل يقول.. إن لعبتك كانت قذرة بشكل مطرد.. يشوبها ما يشوب عينك اليسرى على وجه ما. لهذا أقول.. لا وعفواً، الرمل هو الذي يقول قولته.. وقولته عرض حال وحكم.. فها هو ذا، وجه بئيس أخرجه حقدك من منصبه دون أن يرتكب ذنباً، بل قد يكون ذنبه أنه عرف وظيفتك السرية.. عادتك السرية التي تقمع وتقتل.. قرباً وبعداً؛ لا تدع، سيدي الماجد، وجهك يأتلق، فهذا القرب والبعد.. كلاهما يتراكم في حاضرك.. الرمل يؤكد ذلك! عجباً. إني لأرى ذلك.. الرمل يرى ذلك الوجه البئيس نفسه، يراه قريباً منك وأنت تمد يدك لمصافحته في موقف من المواقف.. ولكن يده ترفض يدك المنافقة بينما تنغرس نظرته الصافية في عينك الغائمة! وعندها تعلو الصفرة وجهك.. وتصبح أنت البئيس البئيس.. كل هذا تراه إصبعي في مستقبلك.. وهل مستقبلك إلا تاريخ حاضرك. دورة الأيام ستؤكد لك ذلك، والحظ يذهب كما يأتي، فيعود إليك البؤس الذي نفحت به غيرك في.. سخاء! وما المستقبل ببعيد عن حاضر مائج! ولسوف يتغلب عليك الوجه الثقافي البئيس.. ويجعل حياتك غائمة كعينك اليسرى، التي لن تعرف، لما فقدته من صفاء، قوس قزح وهو يغمر أفق الشاطىء ويربط البحر بالجبال.. وبالأعماق البعيدة المخضرَّة. لا. لا أحب أن تقاطعني الآن. كان بإمكانك أن تفعل ذلك قبل أن أصل إلى حكاية البحر والجبال والأبعاد. المؤتلقة! دع إصبعي تعلن الحقيقة.. حقيقتك! كل أصابعي تقول أنك تجرى و.. تجرى و.. تجرى وراء أهدافك وغاياتك الخاصة.. وكم هي وسيعة أهدافك وغاياتك. لا مبدأ ولا وطن. لا إيمانَ إلا بوجه الدينار والدرهم. ترى ألم يقع دينار أو درهم في عينك اليسرى فغيمها؟ أرأيت كيف عرفت أصابعي طريقها إلى دخيلتك.. حتى دخيلتك لها أغوارها العميقة؛ لا. لا تخف! إن يدي لا تسجل عليك شيئاً. إنها ترسم في الرمل خيوطاً.. بل خطوطاً تقرؤها أصابعي وينطلق بها لساني الطليق. هي خطوط لا يقرؤها سواي. وإذا كان لك موقف منها فإني أود أن تعلن هذا الموقف عندما تنتهي أصابعي من حديثها. وقد تنتهي أصابعي ولا ينتهي حديث الرمل عنك.. أواه! إن الرمل يقول لك إنك تستمع إلي والحقد يتضخم في أعماقك. فأنت لا تستطيع أن تحقد إلا بلذة. الحقد لذتك في كل الظروف وفي كل الأوقات، هادئة كانت أم مضطربة. لا. أرجوك، لا تكور قبضة يدك! فأنا إنسان مسالم لا أحب الحركة الضاربة إلا إذا كانت في الرمل، ولا أبتغي أي نوع من العراك.. لا فوق الحلبة- وأنت الحلبة!- ولا تحتها؛ أنا أؤمن بحديث أصابعي وبمنطقها الصريح. فهي لا تقول ما هو خارج عن المنطق وعن الحقيقة. لكنك أنت لا تؤمن إلا بحقيقتك في وظيفتك الذاتية. يتساءل الرمل.. وهل لك من وظيفة غير وظيفتك الذاتية؟ أليس من الغريب أن تكون الذات نفسها وظيفة؟ لا، لا تجب عن تساؤله! إنه لا ينتظر منك جواباً. فهو بصدد تأكيد ما يراه.. وما أراه أنا. أعني أصابعي التي تخط وتسطر وتكشف عن رأي الرمل. الرمل وأصابعي شيء واحد. والتهمة قائمة على أية حال! إني لأراك تحرك أصابعك فوق ركبتيك. أنا لم أنْسَ أصابعك أنت، فلها هي الأخرى عظام ومفاصل مدربة.. تمتاز بالسرعة في الخطف والسطو والنهب والاختلاس، ومع ذلك فهي ترتعد الآن أمام الرمل! الرمل صديقك.. كل من يقول لك الحقيقة صديقك. لا تلمني، يا سيدي! فهذا مرسوم في خطوط الرمل بوضوح، آه، آه وآه! هنا تبتعد أصابعي عن الرمل وتنغمض كذلك عيناي فزعاً. واحسرتاه! إن هذا الخط، الذي أراه وعيناي مغمضتان، يتسلق كثيباً صغيراً، لم تسوِّه أصابعي، يقول إن شأنك سيعلو كثيراً. ومن عليائك لن ترى غير أهلك وذويك وعشيرتك.. ثم قبيلتك الواسعة! أقول واحسرتاه! لأنك ستتنكر حتى لأصابعي هذه التي تخط مستقبلك في الرمل. أرى أنك ستنسى نعومة بساط الرمل. أرجوك، لا تنهض بهذه السرعة! لا تستعد للوقوف! فلا يحتاج إلى الوقوف بسرعة إلا من يقع من عل.. يسقط من غفلة، وأنت لم تسقط.. إنما أنت جلست طواعية، والجلوس.. راحة! جدد ثقتك بالرمل ما دمت قد جلست أمام أصابعي! انظر إلى الرمل كيف ينفرج بينها.. بين أصابعي معلناً حقيقتك! هذا الخط المحدودب لم يعد يقول قولته بصوت عادي.. أصبح يصرخ صراخاً.. كم من تجارة لك، كم من عُملة لك وكم منْ عملة لك. كم من ليلة لك تختار أنت ألوانها.. وما أسعد من يختار- مثلك!- لليل ألوانه! كم من ولد لك في ملاجىء الأيتام.. كم من ضحية مات النور في عينيها قبل أن ترى الدنيا؟ اصغ إلى الرمل! أنه يردد صدى السؤال كم، كم كم، كم كم.. كم! لا. لا! لقد بلغت صفرة وجهك حدَّها الأقصى وغمرت حتى عينك اليسرى الغائمة! لا ترفع يدك ولا تضربني! عيني في عينك وإصبعي في.. الرمل! الحقيقة في الرمل! ماذا تقول؟ تتهمني بأنني أتحدث عن نفسي.. عنك؟ عني وعنك؟ ترفض حقيقة الرمل وتتهمني بالدجل؟ تتهمني بالسياسة؟ كلا. إن أصابعي غير مسيسة.. هي تحمي السياسة! ماذا تقول مرة أخرى؟ تريد أن تقودني إلى مركز الشرطة؟ كيف؟ إن الرمل يتساءل في دهشة.. أيهون عليك أن تفعل ذلك بزميل لك؟ أرجوك، لا تزدد تنمراً.. ولا.. غضباً! فها هي ذي هويتي وعليها بصمة أصابعي الرملية