عن مفهوم الخطاب :
يكتنف المفهوم والمصطلح " خطاب discours " شيئ من الغموض والافتقار إلى الدقة فى التحديد ، فالعبارة " خطاب " تشي بالخصوصية الشفاهية للخطاب أكثر من الكتابته له، فيما يستعمل المشتغلون بتحليل الخطاب بمعناه المفتوح عبارة " نص Texte " للدلالة على الشيئ ذاته ، ولعل ما عمق اللبس والتوافق بين العبارتين لديهم تفريقهم بين شكلين من النصوص : نص مكتوب ونص منطوق ، لتتماهى الحدود المفهومية والمصطلحية بين "الخطاب والنص " .
وسأباشر الحديث عن اللفظتين من منطلق أن الحديث عن أيهما حديث عن الأخري ، رغم ميلى إلى أن " الخطاب " أكثر ثراءا من " النص " الذى اعتمده أكثر علي النص من أمثال "ريكور Ricoeur" الذى يطلقه علي " كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة " ( ) وهو تعريف يعود بنا إلى إشكالية الشفاهية والكتابة ، والاستناد عليهما فى تعريف الخطاب أو النص ، وذلك ما نرجىء الحديث عنه إلى حين.
وتقدم "جوليا اكرستيفا J kristeva " تعريفا أكثر انغماسا فى بنية التشابك والتشاجر الداخلى للمكونات والعوامل النصية ، يكشف عن كون النص موضوعا لممارسات سيميولوجية متنوعة، وكونه وحدة أيديولوجية ، داعية نظرية النص بذلك إلى استثمار " طرح التقسيم البلاغى القديم للأجناس الأديبة ، لتحل محله عمليات تحديد لأنماط النصوص المختلفة ، بالتعرف على خصوصية النظام الذى يهيمن عليها ، ووضعها فى سياقها الثقافى الذى تنتمى إليه "( ).
تقول "اكرستيفا " إن النص " جهاز لغوي ، يعيد توزيع نظام اللغة ، يكشف العلاقة بين الكلمات التواصلية مشيرا إلى بيانات مباشرة ، تربطها بأنماط مختلفة من الأقوال السابقة والمتزامنة .
والنص نتيجة لذلك إنما هو عملية إنتاجية ، مما يعنى أمرين :
1- علاقته باللغة التى يتوقع فيه أن تصبح من قبيل إعادة التوزيع (عن طريق التفكيك وإعادة البناء). مما يجعله صالحا لأن يعالج بمقولات منطقية ورياضية أكثر من صلاحية المقولات اللغوية الصرفة له.
2- يمثل النص عملية استبدال من نصوص أخرى أي عملية تناص intertextualité ففى فضاء النص تتقاطع أقوال عديدة ، مأخوذة من نصوص أخرى ، مما يجعل بعضها يقوم بتحديد البعض الآخر ونقضه " ( ).
3- ويقف " رولان بارت " موقف المؤيد من هذا التعريف الذى يثير إشكالات عهدنا من " بارت " إثارتها كالارتكاز على الجانب اللغوي ومفهوم التناص ، فيعلق مشيراً إلى " أن نظرية النص هي أولا نقد مباشر لأنه لغة واصفة ، أى أنها مراجعة لعملية الخطاب " ( ).
وقد كان مفهوم التناص مثار اكتراث الكثيرين لما يفترضه من وجود جينيولوجيا تكشف التوارد أو التناص الحاصل بين النصوص ، الأمر الذى يطعن فى وجاهة إمكانية بناء نص مستقل عن غيره من النصوص ، متجمد منكمش على نفسه بعيدا عن الجو الديناميكي بينه وبين النصوص التى تربطه بها قرابة نصية ، تلك الديناميكية التى حظيت بولع التفكيكيين، ومن يؤيدون الرأى القائل بالتناص أمثال دريدا الذى يقول إن النص " لا يملك أبا واحدا ولا جذرا واحدا بل هو نسق من الجذور"( ).
وحتى لا يجعل التناص قدمنا تتزلق إلي جدل نقدي ليس هذا محلة نعود إلى التفتيش عن وجدود مفهوم ومصطلح الخطاب (النص) وما يمتاز به من خصوصيات قد تساهم فى بلوغ ما قصدناه . فبالإضافة إلى خصوصية التناص والنطق والكتابة والشكل اللغوية للنص ، يلزمه أن يكون مكتملا بذاته وفى دلالته ، ليس بالمعنى الذى يلغى التأويل ، وإنما بالمعنى الذى يجعل النص لا يفتقر فى اكتماله إلى عناصر غائبة يقول "بارت " إن النص هو القول اللغوي المكتفى بذاته والمكتمل فى دلالته " ( ).
ولعلك تلاحظ معى أن كل التعريفات المتعلقة بالخطاب لدى العلماء تراوحت بين كلمة " خطاب " وكلمة " نص " واستعملتهما كأنهما لفظان لمدلول واحد.
وقبل أن نلج الحديث عن الخطابة والخطبة المتصل بموضوع بحثنا نورد تعريفا اتنوغرافيا للخطاب ينطلق من الحيثيات التواصلية فيعد النص " مجموعة من الأحداث الكلامية التى تدون من مرسل للفعل اللغوي ومتلق له ، وقناة اتصال بينهما ، وهدف يتغير بمضمون الرسالة ، وموقف اتصال اجتماعي يتحقق فيه التفاعل "( ).
لم يبق لنا إذن إلا أن نلج موضوع الخطابة لصلته الوثيقة بموضوعنا " الخطاب " خصوصا من حيث كونه يمثل الجانب الشفاهي له فالخطابة هي " فن مخاطبة الجماهير بطريقة إلقائية تشتمل على الاقناع والاستمالة "( ).
وهذا التعريف يقصى من مفهوم الخطابة الحديث الموجه إلى الفرد الذى مر بنا فى الحديث عن الخطاب فى إطار الوظيفة التواصلية للغة . كما أن هذا التعريف يبرز أهمية النطق والإلقاء بالنسبة للخطاب الملفوظ إلى جانب اللجوء إلى البراهين والاستدلالات بغية إقناع المتلقى السامع والمشاهد.
وتعتمد الخطبة عموما أسلوب التوضيح والإبانة . وقد يلجأ الخطيب لتكرار العبارات المختلفة للتعبير عن الفكرة الواحدة ، بدل أسلوب الكتابة الفنية الذى يقتضى التعقيد فى الجمل وطولها ، وتجميلها بالمحسنات البديعة واستخدامها الموغل للخيال…( ).
كما تلجأ الخطبة كذلك إلى استخدام صيغ الاستفهام والتعجب بدل الجمل الخبرية وإلى " قوة العبارة وفخامة التعبير واستعمال الكلمات الشديدة الغليظة ( ) فى حالة الحرب وإخضاع المتمردين ، وإلى التبشير والتحذير كذلك.
أما فى حالة السلم فتلجأ الخطبة عادة إلى الألفاظ المألوفة والرقيقة بدل الشديدة .
ويلعب الإلقاء دورا كبيراُ فى نجاح أو فشل الخطبة ، وهو يحتاج جهارة الصوت وقوته، والجرأة وحسن مخارج الأصوات وتمييز أجزاء الكلم ، وتمكنه من لغة الخطبة ، وحسن المظهر والهيئة.
و " الخطابة " و " الخطبة " تثير إشكالا خطيرا فى الدراسات اللغوية الحديثة وهو الإشكال المرتبط بالتفريق بين مستويين من اللغة : لغة مكتوبة ولغة منطوقة نتعرض لذلك فى ما يلى:

أ- الشفاهية والكتابية :
ما من أحد يشك فى أن اللغة ولدت فى أحضان الشفاهية ، ولم تعرف الكتابة إلا فى وقت لاحق ، فاللغة ليست تسجيلا مادياً لأصوات حية منطوقة وإذا كان الكلام هو التحقيق المادي للغة فإن الكتابة هي التى تمنح هذا التحقيق الاستمرار في الزمن وهي التى تهب اللغة إذا الخلود ، وتضمن للمتلقين تبادل الخبرات والمعارف في مقابل ضمان الكلام للتواصل الاجتماعى يقول " بلومفيلد " " إن الشكل المكتوب ليس لغة ولكنه طريقة لتسجيل اللغة بواسطة إشارات ورموز مرئية "(
ويشير " جارفينكل garfinkel مؤسس الاتنوميتودولوجيا Ethnomethodologic التي تبحث في التفاعل بين الذات الفاعلة والرموز Symboles يشير إلي أن هذا الاتجاه "يقوم علي ملاحظة العقلانية الاجتماعية العلمية .. ويكون ذلك بمعالجة الخصائص الدالة لكلام الأفراد وسلوكياتهم " ( ).
ويبدو أن المنحازين لإعطاء الأولوية للغة المنطوقة Language prononcé علي اللغة المكتوبة Language éerit كثريون يقول "جون لاينز Johnliyons " "إن جميع علماء اللغة ومعظم الفلاسفة يؤيدون مشافهة علي الأقل مبدأ إعطاء لأولوية للغة المحلية (المنطوقة)"( ). ويعلق د. محمد العبد علي هذا الاعتراف قائلا : إن صورته المبسطة قد تغيرت إلي حد بعيد " وصار الاعتراف بالأولوية للغة المنطوقة اعترافا شفاهيا " ( ) واسعا بفعل نهضة الدراسات اللسانية في الستينات.
إن اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة تتبادلان التأثير فى بعضهما البعض رغم اختلافها حيث أن اللغة المكتوبة لا تقابل اللغة المنطوقة( ) ، والتفريق بينهما ليس تفريقا في المستويات اللغوية ، وإنما هو تفريق بين هيئتين لغويتين ، فكتابة المنطوق تعطي نصا مختلفا عن المنطوق الأصلي .
وتصطحب اللغة المنطوقة في الغالب تلويحات اليدين وتغييرات ملامح الوجه والتنغيمات والحركات الإيمائية وتفاعل الأصوات.والتعبير الجسدي وأنظمة الوقفات مما يؤثر تأثيراً قويا علي المتلقي في تحديد المعاني الوظيفية والمعجمية ( ) وهذا ما تفتقر إليه اللغة المكتوبة إذ لا يستطيع تدوين كل ما يجري لغويا فى حالة النطق وهو ما تحاول إنجازه بالترقيم.
نخلط مما أسلفنا إلي أن " الكتابة مؤسسة اجتماعية لاحقة بالكلام ، بحيث يظهر أنها موجهه أساساً لتثبيت كل التفصيلات التي سبق أن ظهرت عبر عملية النطق الشفوي بواسطة أشكال خطية معينة( ) ".
ب- أشكال الخطاب :
تحديد أشكال الخطاب (النص) مسألة خلافية بين علماء النص وتستدعى هذه المسألة التساؤل عما إذا كان تحديد النصوص يتوقف على العوامل النصية الداخلية أم على العوامل النصية الخارجية ، وقد " لوحظ الميل إلى ضرورة التوفيق بينهما فى بعض الاتجاهات النصية" ( ).
ويرى البعض ضرورة التفريق بين النصوص فنية كانت أم علمية بناء على فكرة الانحرافات اللغوية éearts Linguistiques ، وقد حسم "كوزير " هذا الإشكال باعتباره النصوص جميعها ذات معنى ، وأن الانحراف مجرد مصطلح علائقى.
ويقدم " جلينس " أنماطاً نصيه رئيسة على أساس تواصلي دلالي ووظيفي وذلك على النحو التالى :
1- نصوصو ربط (وعد ، عقد ، قانون ، إرث ، أمر)
2- نصوص إرشاد (التماس ، خطاب دفاع ، نصوص دعاية ، خطاب سياسي ، كتب تعليم وإرشاد).
3- نصوص اختزان (ملاحظات ، فهرس ، دليل تليفزيون ، يوميات ، تخطيط ، مسودة).
4- نصوص لا تنشر علانية (تقرير ، عرض ، رسالة ، كارت.
5- نصوص تعرض علائية (خبر ، كتاب ، دراسة ، رواية ، قصة ، مسرحية ، شعر