لقد وردت كلمة الظلمات في آيات القرآن بمعنى الجهل والضلال والكفر وجاء معنى كلمة النور بأنه العلم والهدى والإيمان. ونهاية الآية 35 النور تشير إلى أن الله قد ضرب مثلاً لنوره المعنوي أي لهداه بالنور الحسي والدليل على ذلك هو نهاية الآية " يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء" أي يهدي لهداه من يشاء بالإضافة لقول ابن عباس: ("الله نور السماوات والأرض" يقول: هادي أهل السموات والأرض.) وعن أنس بن مالك قال: إن الله يقول: نوري هداي. وقال الرازي عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ } قال: هو المؤمن الذي جعل الله الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله فقال: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل نور من آمن به، قال: فكان أبيّ بن كعب يقرؤها: (مثل نور من آمن به) فهو المؤمن، جعل الإيمان والقرآن في صدره.
ومن أجل تصور نور الله أي هداه ومعرفته كان لابد من تعريف كل من المصباح والزجاجة التي كأنها كوكب دري والمشكاة والشجرة الزيتونة التي لم تكن شرقية ولا غربية. ثم إيجاد المشبه لكل منهم من داخل الكتاب أي من آيات الله لقوله تعالى: (الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)1 هود. ولما ورد في رأي ابن كثير أن كل ما أجمل في مكان قد فسر في مكان آخر.
أولاً: تعريف المصباح والمشبه به
المصباح كما عرفه العلماء هو عبارة عن فتيلة وهي شريط من القطن وضع في زيت زيتون. وسرعان ما تمسه النار فتُكَوِّن في رأسه شعلة النور الذي يُقشع به الظلام الحسي. وبالتمعن في الآية التالية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} "174" النساء نجد أن الله قد وصف كتابه الكريم الذي يهدي إلى الحق بأنه نور. كما جاء في تفسيرها3: (يقول تعالى مخاطباً جميع الناس ومخبراً بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم, وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة, ولهذا قال: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} أي ضياء واضحاً على الحق) فمن هذه الآيات يستنبط أن كتاب الله هو النور المعنوي الذي يقشع الجهل بالحق. فالكتاب هو الهدى الذي يقشع الجهل والضلال كالمصباح الحسي الذي يقشع العتمة.
ثانياً: تعريف الزجاجة التي كأنها كوكب دري والمشبه بها
إن الزجاجة التي كأنها كوكب دري هي الزجاجة الصافية النقية التي تشع كأنها كوكب، وهي التي يوضع فيها
1-التفسير الميسر-ج الخامس والعشرون- ص 489
2- ابن كثير-تفسير القرآن الكريم الشبكة
3-المرجع السابق
المصباح لحفظ نوره حتى لا يطفئاه الهواء أو يتشتت ضوءه فتقل فائدته. بذا تكون فائدة الزجاجة التي كأنهاكوكب دري هي حفظ نور المصباح وحصره ثم توزيعه في مساحة أكبر. والزجاجة النقية المشعة كأنها كوكب دري وبداخلها المصباح تسمى "سراجاً منيراً". أما المشبه بالزجاجة فهو قلب النبي الالطاهر الذي غسلته الملائكة وملأته بنور الإيمان فصار صافياً من كل رجس وشرك ونقياً كنقاء الزجاجة التي كأنها كوكب دري. فيمكن استنباط المشبه بالزجاجة التي كأنها كوكب دري من الآية التالية: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}{عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} "192-194" الشعراء التي تعني: يقول تعالى مخبراً عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وإنه} أي القرآن{على قلبك لتكون من المنذرين} أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى {على قلبك} يا محمد سالماً من الدنس والزيادة.
ومن الآية التالية أيضاً:{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذن اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }"97" البقرة
إذاً وضع الله كتابه (النور أي الهدى) على قلب رسولنا الكريم (النقي) فصار الرسول صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً كما صار المصباح في الزجاجة سراجاً منيراً. والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بإذنه وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} "45-46" الأحزاب. بذا يكون قلب الرسول صلى الله عليه وسلم قد جمع الكتاب وحفظه من عبث العابثين ورياح إبليس اللعين تماماً كما تجمع الزجاجة نور المصباح و تحفظه من أن تعبث به الرياح ومن التشتت.
إذاً اكتمل تشبيه النور المعنوي بالنور الحسي حيث أن السراج المنير الحسي هو الزجاجة وفي قلبها المصباح كما قال السدي. والسراج المنير المعنوي هو الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قلبه "كتاب الله". وقد جاء رأي أبي بن كعب"المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره" مطابقاً لما نتج من تفصيل الآيات. ولكن الفرق هو أن الصدر الذي تحدثت عنه الآيات هو صدر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حين أن المقصود بالصدر في حديث أبي بن كعب هو صدر المؤمن. ولكن صدر المؤمن يستمد نوره من نور المصطفى صلى الله عليه وسلم ودليل ذلك نهاية الآية "35" النور "يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ". فهي تؤكد أن قلب المؤمن يستمد نوره أي هداه من هدى الله أي من السراج المنير الذي هو الكتاب في صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم. فيمتلئ قلب المؤمن بدوره بنور الهدى والله أعلم.
ثالثاً: تعريف الشجرة والمشبه بها
إن الشجرة يمكن أن تكون هي شجرة سيناء التي تنبع بدهن وصبغ للآكلين وهي شجرة زيتونة كما فسرها العلماء. فهي التي تمد الناس بالزيت الذي يوقد به المصباح. أما المشبه بها "ولله المثل الأعلى" فهي شجرة نور الله الذي في حقيقته متفرع كالشجرة المتفرعة أغصانها. فالله هو الأصل الذي امتد نوره كالساق الذي تفرع منه جزءين رئيسيين هما: ساق النور الحسي وساق النور المعنوي. فتفرعت من كل منهما فروع كثيرة، فمن النور الحسي (وهو نور وجهه العظيم) تفرع نور عرشه و نور جنته و نور ملائكته ونور شمسه ونور قمره. و تفرعت فروع من ضوء الشمس ونور القمر لتضيء الكواكب الأخرى وهكذا. أما نوره المعنوي فتفرعت منه الفروع الآتية: فرع نور هداية الملائكة وفرع نور كتبه وفرع نور رسله وفرع نور صلواته وصلوات ملائكته على المؤمنين كما في الآية: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} "43" الأحزا ب
عليه يمكن القول بأن أهم أغصان شجرة النور المعنوي هي: أغصان نور الكتب السماوية وأغصان صلواته وملائكته على المؤمنين وأغصان نور قلوب الرسل التي منها تتفرع أغصان نور قلوب من يشاء الله أن يهديهم به والله أعلم. فشجرة نور الله هي في السماء "وهو رأي الحسن البصري بقوله لا توجد في الأرض" وبالتالي لا تقع في الشرق "لا شرقية" فتأخذ نورها من ضوء الشمس نهاراً ، ولا تقع في الغرب "لا غربية" فتأخذ نورها من ضوء القمر بعد المغيب. فكيف تكون شرقية أو غربية وهي التي تُمِدُ الشمس والقمر بالنور؟ كما أنها ندية كنداء الزيتون المليء بالزيت. وطالما أنها شجرة نور الله فهي تضيء بدون انقطاع دون أن تمسسها نار. إذاً شجرة نور الله هي الشجرة المضيئة التي يوقد منها نور مصباح الهدى فيدوم عطاؤها بدوام ذات الله العليا
معنى الآية "35" النور
لقد أراد الله أن يصف نور هداه للخلق فضرب له مثلاً بالفتيلة التي بها شعلة ووضعت في زجاجة صافية لتحفظ الضوء من عبث الرياح فتكون مضيئة باستمرار. فالفتيلة داخل الزجاجة تسمى السراج المنير وقد وضع السراج المنير في مشكاة أي كوة في المبنى ليضيئ الكوة أولاً ثم ينتشر ضوؤها في المبنى من حوله. ونور هداه بالفعل يشبه المثل لأن كتابه الكريم هو الفتيلة التي تشع نوراً وقد وضعت داخل قلب الرسول صلى الله عليه وسلم النقي كنقاء الزجاجة فصار سراجاً منيراً. وقد كان الرسول في مكة المكرمة (أم القرى ) التي هي كالمشكاة في المبنى(شبه الجزيرة العربية) فتركز نور الله أي "هداه" الذي أنزله على قلب رسوله في مكة المكرمة أولاً ثم انتشر الهدى في القرى التي حولها كما يتركز ضوء السراج في الكوة أولاً ثم ينتشر ضوؤه، في مناطق المبنى حول الكوة ثانياً. وهذا النور الهادي أي السراج المنير هو الذي يهدي الله إليه من يشاء ليهتدي به والله أعلم
اللهم يا الرحمن إني أستغفرك وأتوب إليك يا حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام. واللهم لا تؤاخذني إن نسيت أو أخطأت واكتبني مع الذين شئت لهم أن يهتدوا بهدي رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم. والحمد لك حمداً يليق بك وبجلالة وجهك وعظيم سلطانك ونورك وكرسيك وعرشك وملائكتك ورسلك وكتبك.