د. يوسف تغزاوي

مبادئ القالب الإدراكي داخل نموذج مستعملي اللغة الطبيعية في اللسانيات الوظيفية.

مــــقـــــدمـــة :
إن مجال التواصل اللغوي مجال متشعب وصعب، ولتحليل وفهم قضاياه يقتضي الأمر ممارسته في مختلف الفضاءات والأزمنة، لأنها عوامل مهمة تساعد أو تعرقل العمليات التواصلية لدى بني البشر.
وسوف نسلط الضوء في هذا المقال على مفهوم الطاقة الإدراكية مدى تمثيلها في إطار نموذج مستعملي اللغة الطبيعية ومكونات القالب الإدراكي وعمله ومبادئه، ومدى تفاعل الحواس الخمس أثناء التواصل اللغوي.
1- مفهوم الطاقة الإدراكية في نظرية النحو الوظيفي :
إذا ما افترض سيمون ديك(1) والمتوكل(2) والبوشيخي(3) في إطار نظرية النحو الوظيفي الطاقات الخمس التي تؤلف القدرة التواصلية في إطار مشروع علمي محدد يستهدف إقامة نموذج مستعملي اللغة الطبيعية، فإن الطاقة الإدراكية تأتي في المرتبة الرابعة مفادها : تمكن مستعملي اللغة الطبيعية من إدراك العالم الخارجي بوسائل الإدراك البشرية من سمع وبصر ولمس وشم وذوق، وأن تكتسب بفعل إدراكه ذلك معارف يستعملها في إنتاج العبارات اللغوية وتأويلها. وبفضل هذه الطاقة أيضاً تصبح حركات الجسد مصدراً غنياً بالمعلومات وتسند إليها دلالاتها المناسبة تبعاً لسياق ورودها. كما تعمل المعلومات الإدراكية على تعويض العبارات اللغوية كلياً، أو إتمامها جزئياً أو إضفاء معنى جديد قد يخالف معناه الحرفي.
2- مكـــونـــــات القالـــب الإدراكـــي :
يمثل للطاقة الإدراكية في إطار نموذج مستعملي اللغة الطبيعية في إطار قالب خاص يتمثل في القالب الإدراكي، ولتبيان مكوناته نستند إلى الافتراضات الثلاثة الآتية :
- افتراض تشومسكي(4) مفاده : «... يبدو أن العقل البشري مكون بصورة قالبية Modular... فهو يتألف من أنظمة مستقلة بعضها عن بعض ويتصف كل منها بخصائص مقصورة عليه. ومما لا جدال فيه أن هذه الأنظمة المختلفة يتفاعل بعضها مع بعض، فنحن نستطيع أحياناً أن نصف ما نرى وما نسمع وما نشم وما نتذوق وما نتخيل إلى غير ذلك».
- افتراض سيمون ديك(5) فحواه : يمكن القالب الإدراكي مستعملي اللغة الطبيعية من إدراك العالم الخارجي بوسائل الإدراك البشرية من سمع وبصر ولمس وشم وذوق.
- افتراض عز الدين البوشيخي(6) مفاده : تبعاً لقنوات الإدراك فإن القالب الإدراكي يتألف من خمسة قوالب فرعية :
 قالب مختص بالمعلومات المدركة عن طريق السمع.
 قالب مختص بالمعلومات المدركة عن طريق البصر.
 قالب مختص بالمعلومات المدركة عن طريق الشم.
 قالب مختص بالمعلومات المدركة عن طريق اللمس.
 قالب مختص بالمعلومات المدركة عن طريق الذوق.
استناداً إلى هذه الافتراضات، فإن القالب الإدراكي يتألف من الحواس الخمس التالية :
2-1- حـــــــــــاســــــــــة البـــصــــر :
قناة إدراكية تلتقط الوقائع المختلفة من العالم الخارجي وتنقلها نحو المخزون الذهني (القالب المعرفي) بواسطة العين والملاحظة الدقيقة التي تميز الألوان والأشكال والأحجام... وما إلى ذلك.
2-2- حـــــــــــاســــــــــة السمــــــع :
يعمل الأذن على نقل الأصوات المبثوثة في العالم الخارجي بواسطة حاسة السمع التي تميز بين الأصوات المختلفة، استناداً إلى عوامل مقياس الصوت أو السمات التطريزية التي حددها سيمون ديك(7) وزكي حسام الدين(8) فيما يلي :
 درجة الصوت : Pitch سمة تميز بها الأذن الأصوات الحادة من الأصوات الغليظة، وتتوقف على اهتزازات الجسم الذي يحدث الصوت في الثانية أي التردد.
 شدة الصوت : Intensity of sound، سمة تميز بها الأذن الأصوات من حيث القوة والضعف أو العلو والانخفاض.
 ارتفاع الصوت : Loudness، يرتبط ارتفاع الصوت بالشدة، ويتوقف على حساسية الأذن من شخص إلى آخر.
 نوع الصوت : Quality، سمة تميز بها الأذن بين نوع الأصوات الإنسانية وغير الإنسانية، استناداً إلى القيمة أو الطابع Timber المميز للأصوات.
 نبر الصوت : Stress، يعني الضغط على الصوت أو مقطع معين أثناء نطق الكلمة.
 تنغيم الصوت : Intonation، تنوع الأصوات بين الارتفاع والانخفاض أثناء الكلام نتيجة تذبذب الوترين الصوتيين مما يؤدي إلى نغمة موسيقية ما.
2-3- حـــاســــة الــشـــــــــم :
قناة إدراكية تنقل إلى المخزون الذهني مجموعة من المعلومات التي تتعلق بالروائح المتناثرة في العالم الخارجي بواسطة الأنف، وبفضلها يتم تصنيف الروائح وتركيزها.
2-4- حـــاســــة اللــمـــس :
قناة إدراكية تنقل إلى المخزون الذهني المعلومات الإدراكية بواسطة الاحتكاك والملامسة، وتحدد حاسة اللمس برودة الشيء وارتفاع درجة حرارته وخشونته ورطوبته وشكله، ويستعملها كثيراً أصحاب الصم والبكم.
2-5- حـــاســــة الـــذوق :
قناة إدراكية تنقل إلى المخزون الذهني المعلومات الإدراكية بواسطة اللسان الذي يحدد مذاق الأطعمة، وتميز حاسة الذوق بين المالح والحلو والحار والحامض والطازج والنيئ والمطبوخ...
3- عمل القالب الإدراكي : من الإنتاج إلى التأويل :
يعمل القالب الإدراكي على إنتاج الإشارات الجسدية المصاحبة للكلام أثناء التواصل اللغوي وتأويلها، والإشارات الجسدية ثلاثة أصناف هي :
 الإشارات الجسدية المفسرة للكلام أثناء التواصل اللغوي.
 الإشارات الجسدية المؤكدة للكلام أثناء التواصل اللغوي.
 الإشارات الجسدية الناسخة للكلام أثناء التواصل اللغوي.
علاوة على هذه الأصناف، هناك إشارات جسدية كلية وعالمية بين جميع المخلوقات البشرية، وإشارات جسدية خاصة بثقافة مجتمع ما، ثم إشارات جسدية نمطية (قبيلة، عشيرة، فخذ...)(9).
لنتأمل المثال التالي :
(1) - متكلم : هل يمكن الجلوس معك؟
- مخاطب : نعم، تفضل مشيراً بيده إلى الكرسي.
أنتج القالب الإدراكي إشارة المخاطب، وقد فهم منها المتكلم الترحيب والدعوة إلى الجلوس بواسطة حاسة البصر التي التقطت الإشارة بواسطة الملاحظة الدقيقة وتحديد اتجاهها نحو الكرسي.
(2) - متكلم : عل أستطيع الانخراط معكم في جمعية الباحثين الشباب؟
- مخاطب : يحرك رأسه من اليمين إلى اليسار.
أنتج القالب الإدراكي إشارة تحريك الرأس من اليمين إلى اليسار، وفهم المتكلم هذه الإشارة بواسطة حاسة البصر التي التقطتها إلى القالب المعرفي الذي يزود القالب الإدراكي بالمعلومات المناسبة للإشارة، وبتفاعل مع القالب الاجتماعي فهم المتكلم الرفض في المشاركة حسب المواضعة الاجتماعية.
ولنتأمل المثال التالي :
(3) - يتحدث المتكلم لمخاطبه بما يلي :
- لا أحب هذا العمل يا سيدي. (بصوت مسموع ووجه عبوس).
يؤول المخاطب هذه العبارة اللغوية بتفاعل حاسة البصر التي تنقل تعابير وجه المتكلم أثنا التلفظ بها، وحاسة السمع التي تنقل نوع الصوت وشدته ودرجته (صوت مسموع)، ويفهم المخاطب أن هذه العبارة اللغوية تهديداً وتحذيراً.
4- مبادئ القالـــب الإدراكـــي :
4-1- مبدأ نوع المظـهـــر :
(1) يستفسر المتكلم أحد أصدقائه في المقهى عن رجل يلبس لباساً رثاً وأسمال باليـــــة قائـــــــــلاً :
- هل تعرف هذا الرجل؟
- نعم إنه متسول.
استناداً إلى القالب الإدراكي فهم المتكلم أن هذا المظهر يميز صاحبه عن الأشخاص الآخرين سواء في المقهى أو خارجها، وبفضل مبدأ نوع المظهر أدرك بواسطة حاسة البصر التي نقلت إلى المخزون الذهني (قالب معرفي) مظهر هذا الرجل وانتقاء المعلومات المناسبة له، وبتفاعل القالب الاجتماعي والقالب الإدراكي تم تصنيف المخاطب في سلم اجتماعي محدد (متسول، محتاج،...) وفق الظواهر المتفشية في الثقافة المغربية.
- مبدأ نوع المظهر - حاسة البصر. - تصنيف المخاطب في سلم اجتماعي محدد.
- لباس رث وأسمال بالية. - معلومات إدراكية مناسبة. - جنسية، متسول، محتاج...
4-2- مبدأ نوع الرائحة :
(2) في مقام تواصلي مفاده حث الأب ابنه خالد عن عدم التدخين، ولكن خالد يتملص في الليل قصد تناول السيجارة، ولإخفاء أمره، بدأ يتأخر عن وجبة العشاء، واستفسره الأب قائلاً :
- من فضلك بني، ادخل باكراً؟
- سامحني إنها المرة الأخيرة.
- هل قمت بمراجعة دروسك؟
- نعم، وسأعيد مراجعتها بعد العشاء. (رائحة السيجارة تفوح من فم خالد).
لقد نقلت حاسة الشم نوع الرائحة إلى القالب المعرفي الذي يزود القالب الإدراكي بالمعلومات المناسبة، استناداً إلى مبدأ نوع الرائحة، فهم الأب أن ابنه خالد تناول السيجارة، وبتفاعل القالب المعرفي والإدراكي والاجتماعي صنف الأب ابنه في سلم اجتماعي محدد (المدخنين).
- مبدأ نوع الرائـــحـــــة - حــاســــــــــة الشـــــــم. - تصنيف المخاطب في سلم اجتماعي محدد.
- رائــحــــة السيجارة.
- رائــحــة زكيـــــــــة. - معلومات إدراكية مناسبة.
- معلومات إدراكية مناسبة. - جنســــه، المدخــــنــيــــن.
- جنســـــه، الأغــــــنــيــــاء.
4-3- مبدأ نوع الملامــســـة :
لنتأمل المثال التالي :
(4)- التقى زيد بأبيه وصافحه مع تقبيل يده اليمنى.
استناداً إلى القالب الاجتماعي تم تحديد نوع التحية وتحديد أماكن التقبيل بتفاعل حاسة البصر التي تنقل مظهر الأب، وحاسة اللمس التي تحدد نوع المصافحة ومكانه، وبتفاعل القالب الإدراكي والاجتماعي يتم تصنيف المخاطب في سلم الأشخاص المحترمين (فئة العائلة).
(5)- التقى الطالب بأستاذه في جدة وتبادلا التحية بالأنف.
نقلت حاسة اللمس المعلومات التي تتعلق بالملامسة لأداء التحية طبقاً لمبدأ نوع الملامسة إلى القالب المعرفي الذي يزود القالب الإدراكي بالمعلومات المناسبة، وبتفاعل حاسة البصر وحاسة اللمس وتفاعل القالب الاجتماعي تم تحديد الطرف الملموس ومكان التحية حسب الثقافات والعادات المختلفة.
- مبدأ نوع الــمــــلامسة. - حــاســــــــــة اللمــــــــس. - تصنيف المخاطب في سلم اجتماعي محدد.
- المصافحة وتقبيل اليد.
- تقبيل الوجــــــــــــــه. - معلومات إدراكية مناسبة.
- معلومات إدراكية مناسبة. - جنســــه، أفراد العائلة (أب).
- جنســــه، صـــديــــــــــق...
4-4- مبدأ نوع الصوت :
(6)- قد يتحدث المتكلم لمخاطبه بما يلي :
- اسمع يا فلان ! (بصوت مسموع ويغضب شديد ووجه عبوس).
يؤول المخاطب هذه العبارة اللغوية بتفاعل حاسة البصر التي تنقل تعابير وجع المتكلم أثناء التلفظ بها، وحاسة السمع التي تنقل نوع الصوت وشدته وإيقاعه ودرجته، ويفهم المخاطب أن هذه العبارة اللغوية تهديداً ووعيداً.
(7)- يتحدث المتكلم لمخاطبه بما يلي :
- مع السلامة ! (بصوت مسموع وغضب شديد).
يؤول المخاطب هذه العبارة اللغوية بتفاعل حاسة البصر التي تنقل تعابير وجه المتكلم أثناء التلفظ بها، وحاسة السمع التي تنقل نوع الصوت وشدته ودرجته وإيقاعه، وطبقاً لمبدأ نوع الصوت، وبتفاعل القالب المعرفي والإدراكي والاجتماعي فهم المخاطب أن هذه العبارة اللغوية طرداً.
- مبدأ نوع الــصـــــوت. - حــاســـــــــة الـــســــمــع. - تصنيف المخاطب في سلم اجتماعي محدد.
- نــــــــــــــــــــداء.
- صـــوت الخطـــــوات. - معلومات إدراكية مناسبة.
- معلومات إدراكية مناسبة. - جنســــــه، هويته، صديـــق،...
- جنســـــه، هويته، أستــــاذ،...
4-5- مبدأ التذوق :
(8)- قد يتحدث المتكلم لمخاطبه قائلاً :
- أنت رجل مالح.
نفهم من المثال (8) أن المتكلم اختلق عالماً ذهنياً ممكناً تخيل فيه أن مخاطبه رجل مالح، استناداً إلى مبدأ التذوق، وبتفاعل القالب التخيلي والقالب المنطقي والقالب الإدراكي يتم تأويل هذه العبارة اللغوية باستعمال الصور الافتراضية التالية :
- تحديد صور الرجل ومواصفاته (بشوش، يضحك، يمزح...) في عالم محسوس.
- تحديد صور الملح ودلالاتها في الثقافة الشعبية (عالم محسوس).
- وبفضل هذه المعلومات العامة المستقاة من العالم المحسوس تتم عملية التأليف بين هذه الصور المحسوسة بواسطة صورة متخيلة قابلة للإدراك.
خـــــاتـــــــمـــــــــــة :
نستخلص مما سبق، أن نظرية النحو الوظيفي تصف الملكة اللسانية لدى بني البشر وتفسر أنماط التواصل اللغوي بواسطة نموذج مستعملي اللغة الطبيعية، كما أن القالب الإدراكي مسؤول عن إنتاج وتأويل أنماط التواصل غير اللغوي، تبعاً لمبادئ الحواس الخمس وعلمها وتفاعلها داخل القالب الإدراكي، وتتمثل هذه المبادئ فيما يلي : مبدأ نوع المظهر ومبدأ نوع الرائحة ومبدأ نوع الملامسة ومبدأ نوع الصوت وشدته ودرجته وإيقاعه ومبدأ التذوق، وترتبط هذه المبادئ عموماً بالسياقات والمواضعات الاجتماعية والثقافية المختلفة.

الـــــهــــــــوامـــــــش :

- سيمون ديك، 1989، ص : 4.
2 - المتوكل، 1995، ص : 26، 2000، ص : 29، 2001، ص : 22.
3- البوشيخي، 1998، ص : 94.
4 - تشومسكي، 1986، ص : 139.
5- سيمون ديك، 1989، ص : 4.
6 - عز الدين البوشيخي، 1998، ص : 96.
7 - سيمون ديك، 1989، ص : 380.
8 – زكي حسام الدين، 1992، ص : 40.
9 – دسموند موريس، 1997، ص : 7.

المراجـــــــــع المعتمـــــــــــدة :
 Simon C.Dik, 1989 : The Theory of Functional Grammar, Part 1 : The Structure of the Clause, Foris Publications, Dordrecht-Holland.
 Desmond Morris, 1997: Le Langage des gestes, un guide international. Traduit de l’anglais par Edith Ochs. Edition calmann-Lévy.
 المتوكل أحمد 1995 : قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية، البنية التحية أو التمثيل الدلالي التداولي، دار الأمان، الرباط.
 نوام تشومسكي 1990 : اللغة ومشكلات المعرفة، ترجمة : حمزة بن قبلان المزيني، ط1، دار توبقال للنشر.
 عز الدين البوشيخي 1998 : قدرة المتكلم التواصلية وإشكال بناء الأنحاء، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، مرقونة، كلية الآداب مكناس.
 زكي حسام الدين كريم 1992 : الدلالة الصوتية : (دراسة لغوية لدلالة الصوت ودوره في التواصل، ط1، مكتبة الأنجلو المصرية.